الأسباب التي تجعل من كرة القدم لعبة عالمية عابرة للثقافات وللخصوصيات المحلية لكل مجتمع عديدة. إن كرة القدم لعبة متجذّرة في الحضارات جميعها بالرغم من أنها أخذت أشكالاً وأساليب مختلفة ومتنوّعة عند كل حضارة، وإذا قررنا إجراء مقارنة نشأة هذه الرياضة بين الحضارات كافة، لانتبهنا أن الشكل الذي أخذته كان مختلفاً، ليس فقط في تمايز طريقة ممارستها عند كل حضارة على حدة، إنما كلعبة مورست آنذاك بحيث لا تشبه تماماً شكلها الحالي. ربما كان الصينيون منذ خمسة آلاف سنة هم من مارسوا الـ«فري ستايل» في كرة القدم، أي الارتجال، إذ كانت الكرة التي يلعبون بها مصنوعة من الجلد، ومحشوة بالقنب، ويجب أن تبقى مُعلقة في الهواء حيث يتناقلها البهلوانات بالأرجل من دون أن يلمسوها بأيديهم. في مصر واليابان، وفي الحقبة نفسها، تخبرنا النقوش الموجودة على الجدران أن الكرة كانت بمثابة تبادل لجلد مدوّر كانوا يحشونه بالقش. يذكر لنا إدواردو غاليانو في كتابه «كرة القدم بين الظل والشمس» أن نقوشاً وجدت على رخام قبر إغريقي منذ خمسة آلاف عام تُظهر رجلاً يلاعب كرة بركبته. وفي بعض الكوميديات تتردد عبارات مثل: «كرة طويلة، تمريرة قصيرة، كرة متقدمة». أما كرة القدم كما نعرفها اليوم، في شكلها الحديث، فقد خرجت من بريطانيا، وقد كان لها تاريخها أيضاً. ففي عام 1314 نجد وثيقة ملكية موقعة من الملك إدوارد الثاني، تدين لعبة «الرعاع»، فقد كان أسلوب اللعب في ذلك الوقت ينجم عنه الكثير من الضحايا، بيد أن كرة القدم قد تطورت حتى أصبحت كما نعرفها الآن عن طريق البريطانيين أنفسهم، وربما تكون هذه الرياضة هي الأثر الاستعماري الحميد والوحيد الذي خلّفه الاستعمار البريطاني، بدون قصده على الأرجح، في مستعمراته. فالـ«فوتبول» بقوانينه الحالية، كان قد نشأ في رحاب الكنائس لتهذيب الشباب البريطاني من العادات السيئة، وراجت من منطقة ريو دي لابلاتا (الأرجنتين والأوروغواي) حتى مصر.

اشتركت جميع الحضارات في رواية الأسطورة وكتاباتها على شكل الشعر أو الدراما الملحمية، لذلك اشتركوا في عشق كرة القدم، لأن الأخيرة، هي بدورها، شكل من أشكال الملهاة/ المأساة الكبرى كما يراها الصحافي والمؤرخ الفرنسي ميكائيل كوريا في كتابه «تاريخ شعبي لكرة القدم». إن كرة القدم تستمد شعبيتها من قوتها الدرامية، ففي كل مباراة يحترم المتبارون قواعد المسرح الكلاسيكي في وحدة المكان والوقت والحركة، وكل مباراة هي عبارة عن قصة مكثفة على نحو كبير، تتغير نتائجها أمام أعين الجمهور المتفرج، وتتنقل مشاعره معها بين الفرح والخيبة، والانكسار، والأمل، والنشوة والغضب، والاضطهاد، في حالة من عدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ بالنتائج النهائية، فتلك اللعبة تعد باحتمالات غير مرتقبة، وتفتح المجال للمفاجآت المثيرة فمباراة كرة القدم حدث لا يتكرر كما أنه يخلق مواقفه القدرية.
إن لغة تلك الرياضة تقتصر على بضعة رموز بسيطة أسماها الشاعر الإيطالي الشهيد، ولاعب الكرة المهووس، بازوليني بـ«بوديم» أي الركلة. إلى جانب صفارة حكم، فهي تمثل بذلك وسيلة مثالية للاتصال بين الناس، وتصنع عالمها المعولم المصغر، ففي الدوري الإنكليزي مثلاً ينشط أكثر من مائتي لاعب من 56 دولة مختلفة ولغة مختلفة. وعلى حدود تلك القوانين، نشأت ثقافة كرة القدم، ومن خلال وضوح تلك اللعبة وسهولة التعليق عليها والإثارة التي تولدها، فقد استطاعت أن تستقطب الملايين من المشاهدين الذين صنّفوا أنفسهم كخبراء لهذه اللعبة. يبقى أن تلك الخبرة، وتلك المعرفة هما حجران أساسيان للاتصال بين أفراد الطبقات الاجتماعية المختلفة.
لكن هناك وجه آخر لثقافة كرة القدم، لا يتعلق باللعبة ذاتها، ولا بقوانينها من تسجيل أهداف ومخالفات وتدريب وتحليل، بل يتعلق بحفاوة شعبية تلك اللعبة التي لا تشترط الغرق في فهمها بقدر وعي المشجع بهويته التي يجد جزءاً منها في الفُرجة على كرة القدم وجزءاً في الانصهار في جماعة، حتى يخرج من «فرجته» ويمارسها في الشوارع، والميادين العامّة والحدائق بدون التقيد بتكتيكاتها وقوانين الفيفا، وبدون انتظاره لتلك المليارات التي تُصرف على اللاعبين، أو لتلك الكاميرات التي تصنع منهم نجوماً. سرعان ما تصبح كرة القدم بهذا الشكل أسطورة ميثولوجية، ولكنها أسطورة حيّة، ويمكن للإنسان أن يكون فاعلاً فيها، يشارك في حاضره بكتابة أسطورتها عبر تخليد التواريخ على الجدران، أو رسم جداريات للاعبين، وعلى هذا الأساس تفرّق الجماهير في مقامات اللاعبين بين: «عادي\جيد\حريف\نجم\أسطورة».
في المجتمعات المنكوبة -المجتمع المصري مثالاً- استمدت كرة القدم شعبيتها لسنوات طويلة لأسباب تتعلق بالشفافية. ففي كرة القدم شفافية لا يمكن أن تجدها بشكل مشابه في ميدان العمل أو في مجال الحياة السياسية. وفي واقع الأمر، لا توجد في مصر، مجالات للعمل وللحياة السياسية من الأساس. في المجتمعات المنكوبة، لا يكفي أن تكون مجتهداً، ومتعلماً، ومسيساً لكي تحوز على منصب أو تشغل مكانة بل يكفي بأن تكون موهوباً، في لعبة كرة القدم مثلاً، وأن تلعبها ثم تصبح نجماً، لتشق طريقاً قد يصل بك إلى مصاف «الأسطورة العالمية» مثلما حدث مع محمد صلاح، أو أن تصبح أسطورة حيّة تنتمي إلى الميثولوجيا الكروية المحلية مثل العشرات من لاعبي كرة القدم في مصر. ولا يجب أن تخدع تلك الصورة الجميلة الناظر عن إمعان نظره في تلك الأسطورة. فهي تبدو تجلياً للظاهرة البشرية بصفة عامة، ولا يمكن قياسها بأنها خيّرة أو شريرة، بل هي أشبه بالقنطور الأسطوري الهجين بنصفه البشري ونصفه الآخر كحصان. ففي كرة القدم تجتمع النقائض، حتى وإن رُفعت لافتات في بعض المباريات تشهر بكون اللعبة قد اخترعها الفقراء وسرقها الأغنياء، فذلك لا يعني أن تلك اللعبة بريئة ومُختطفة، ففي الواقع، هي لم تُصبح شعبية إلا بقدر ما خلقت لها وجهها الآخر كصناعة ارتبطت بالسوق ورأس المال، فالناس في كل العالم لم يشاهدوا ميسي إلا عن طريق حقوق البث الفضائي التي تتنازعها الفضائيات بمليارات الدولارات، والتي ينتفع ميسي ذاته من خلالها، ولم يكن ميسي ليكون ميسي إلا من خلال انخراطه في منظومة الصناعة الكروية الأكبر في أوروبا ومسابقاتها، فكرة كرة القدم بشكل أو بآخر، ونجاحها في شكلها الحالي، يرتبط بتاريخ تراكم النهب الإمبريالي الذي كدّس الثروة في الغرب ومكنهم من المأسسة، والاعتناء بتلك اللعبة وعولمتها، وأعطوها صفتها ذات المركزية الغربية، أو ما يستعمل من معجم كرة القدم في الأحاديث الشفهية: «الاحتراف في أوروبا»، وهو «احتراف» نشعر تجاهه دوماً بالدونية، فحين يسجّل أحد لاعبينا هدفاً رائعاً نسميه «هدفاً أوروبياً»، وحين تُلعب مباراة تحت المطر نسميها «أجواء أوروبية»، رغم أن جودة اللعب فيما الجو ممطر لا يمت صلة بتفوّق أوروبيّ، فلاعبو الكرة المهرة الذين يلعبون تحت السماء الممطرة موجودون في كل مكان.
هناك أمر مثير مرتبط بـ«الجانب الآخر» لكرة القدم. إن عمود تلك اللعبة هو «الجماهير». وظاهرة الجمهرة يُمكن النظر إليها من عدة زوايا، لكن ستتفق جميعها على أن هناك نزوعاً للاحتفال، يساويه نزوع للتحريض، فالجماهير تطلق على منافسيها لقب «الأعداء» كما أن المباراة الهامة تسمى «معركة» والمهاجم الهداف يسمى «قاتلاً». في مصر مثلاً، إذا كان هناك فريق يتقدم في نتيجة المباراة ولكن تلك النتيجة لا ترضي جماهيره فإن الهتاف الأشهر حينها يكون «موتوهم...قطعوهم» وتصبح مباراة كرة القدم «استعارة للحرب» كما يرى إدواردو غاليانو. يظهر هذا بشكلٍ جليّ وواضح فيما يسمى بـ«الغريم التقليدي» (Rivalries). يضحو ملعب كرة القدم مساحة للانتقام، ومساحة لإلحاق الهزيمة بـ«العدو» الطبقي أو الأيديولوجي أو السياسي. وقد يراق دم هذا «العدو» أحياناً، يحدث ذلك بعد نهاية المباراة أو من خلالها، هكذا وُلدت أعنف المباريات، وهكذا خرج ديربي «غلاسكو» بين الفريقين الاسكوتلنديّين السيلتيك والرينجرز من وحي صراع مذهبي بروتستانتي كاثوليكي متوّج بصراع بين مهاجرين إيرلنديين انفصاليين ومواطنين اسكتلنديّين موالين للملك. وقد جاء كلاسيكو برشلونة وريال مدريد من رحم الحرب الأهلية الإسبانية، وخرج ديربي بوكا جونيور وريفر بليت في الأرجنتين، وفنرباخشي وغالاتسراي التركيان من رحم الصراع الطبقي بين الأغنياء والفقراء في اسطنبول، وتصبح كل مباراة بين منتخبات أو فرق عرب شمال أفريقيا هي انتصار يُحدد قضية الصحراء والبوليساريو وأصل طبق الكسكس. وتلك محفزات تجعل كرة على حافة الانقلاب إلى حرب حقيقية، فلقد أصبح التطرف في التشجيع في كرة القدم يحتل مكاناً بديلاً عن الحماسة الدينية، والشغف السياسي، والغيرة الوطنية.
وبين عبارة «سنلعب اليوم» التي تصرح بها الجماهير بدلاً من استعمالها لعبارة «سيلعب الفريق اليوم» تمارس اللغة وظيفتها وتعزز بوتقة الانتماء إلى لون الجماعة، والانضواء تحت راية العلم. لكن هذا الشعور بالانصهار داخل جماعة يمكنه أيضاً أن يهدد المجال السياسي. من هذا الانصهار يمكن أن تنطلق روابط التشجيع «أولتراس» كما يحدث في عدّة بلدان أوروبية، والـ«أولتراس» هي جماعات عنيفة وغالباً ما تحوي في صفوفها على مجرمين صغار والهاربين من القانون، أما في الوطن العربي، في مصر تحديداً، فالـ«أولتراس» ليسوا المجرمين وحسب، بل المصنفين كجماعة إرهابية. لقد انتبهت الأنظمة السياسية في مصر إلى قدرة تلك الجماعة في حشد أعضائها إلى ميدان السياسة والتمرد على أنظمة الحكم، فكثيراً ما هتفت الجماهير في الملاعب: «يسقط حكم العسكر\ ظباطنا «***»\ جوز الخيل والعربية ك*م وزارة الداخلية\ عسكر كلاب».
وإذا وصفنا كرة القدم بأنها ثقافة حربية مهذبة متُفق على قوانينها مسبقاً، فلا بد لنا أن نصطدم بحقيقة كونها لعبة تفوح منها ثقافة الاستعلاء الذكوري، فالجماهير دوماً تحب أن تستفز اللاعب الذي لا يروق لها وتزجره قائلة: «العب كالرجال»، وتلك الظاهرة ولو لم تكن محصورة على ثقافة مجتمعات بعينها إلا أنها تتزايد فيما يسمى بالعالم الثالث، فتجد أن بعض المعلقين الرياضيين يصفون اللاعب الذي يسجل هدفاً بأنه: «عريس الليلة». هذا هو الإيحاء المُهذب الذي يناسب التلفاز، بينما الجماهير في الملعب تعاير بعضها بألفاظ مثل: «هتكناكم\فشخناكم\نكحناكم» كما أن «أنثنة» المنافس هي طقس مُفضل للجماهير أشبه بالعبادة. في مصر، حينما تنتشي جماهير الأهلي بفوز فريقها بديربي القاهرة، فإنها سرعان ما تهتف من دون انقطاع: «البت بيضة (تي شيرت الزمالك أبيض اللون) بيضة بيضة\ البت بيضة وأنا اعمل إيه؟» أو هتاف آخر وأكثر قسوة: «وادلع يا زمالك، على ** الأهلي». فهكذا تتحول ثقافة كرة القدم إلى آخر قلاع الذكورة المهددة، فلا يمكنك الاندماج في هذا العالم من دون أن تشعر بضيق إلا إذا كنت ذكراً، وهذا ما عبر عنه المخرج جعفر بناهي في فيلمه «أوفسايد» حين ألبس أبطاله الأربعة من السيدات لباس ذكور من أجل الاحتيال لدخول الملعب ومشاهدة المباراة.
تقف ثقافة كرة القدم في منطقة رمادية تماماً، شأنها من شأن الأسطورة تماماً. فأخيليس في الإلياذة، هو رمز للشجاعة والقوة، ولكن يداه اللتان لا تقهران كانتا ملوثتين بالدم القذر. وهكذا هي ثقافة الكرة، ففي نظر البعض فهي تكون شائعة لأن الغباء شائع كما يراها بورخيس، أو هي شكل من أشكال الرياضة التي تقوم بخلق نمط الإنسان الذي يقوم على حماية الحكام المتسلطين كما يراها الماركسي جرهارد فيناي، مهما حملت وجهاً آخر يقترب من الشعر والنثر مثلما صنّفها بازوليني أو دان للقيم وللأخلاق الذي تعلمها منها ألبير كامو.
وإزاء تقييم الظاهرة الثقافية لكرة القدم، فإننا نشعر بالارتباك لما فيها من عطب ومشكلات جوهرية. يبدو التطلع إلى مباراة كرة القدم حلماً تافهاً يمكن الاستغناء عنه قياساً إلى التطلع لما يحتاجه المجتمع من إصلاح. لكن تستمد كرة القدم أهميتها من كونها الفرصة الوحيدة لمليارات من البشر لاختبار رُزمة المشاعر البشرية دفعةً واحدة، في تجربة واحدة. وبالرغم من قتامة وجهها إلا أن كرة القدم تتيح فرصة للاتصال ببعض الجماليات التي لا يستطيع البعض اختبارها إلا من خلال متابعتها، أو كما أشار الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيجا إي جاسيت، إلى أهمية كرة القدم في جملة شديدة الإيجاز إذ أقرّ بأنها من «الكماليات» التي لا بدّ للإنسان «منها».