الهوفر تكشط الأرض مُصدرةً هديرها المدوّي، يساندها في حفلة الصّخب، مولد المياه، لكن الأخير لا يُصدر صوته المعتاد، ليس بنفس الزّخم والاستمراريّة، يبدو أنّه يُحتضر، يتأوّه محذّراً مستعمليه من موتٍ وشيك، سيوضع على إثره في مدافن الخردة. الأذنان بدورهما تنخران الرّأس، مناشدتَيْن، تطلبان النّجدة، ثمّة ضرورةٌ لاستعمال سدّة. السّمّاعة أفضل الممكن، وتشغيل كتاب صوتيّ، يفي بالغرض. السّدّات عديدةٌ ومتنوّعةٌ، منها ما هو ماديٌّ ملموسٌ، ومنها ما هو معنويٌّ محسوسٌ. وجلّ المحسوس يندرج تحت عنوانٍ عريضٍ يُعَدُّ أشهرها على الإطلاق وهو: سدّة النّفس. السّدّات تبدأ منذ الولادة، عبر «التيتين» (المصاصة) التي تُستعمل سَدّةً لفم الوليد بغية إلهائه والحدّ من صراخه، وثمّة سدّة لفمِ الرّاشدين كذلك، وتكون عبر التّهديد والوعيد، أو عبر وضعها بنداً في العقود (كما حصل في حفل عمرو دياب مع الصّحافيّين مثلاً).سدّة الباب كسدّة باب المستشفى في وجه من لا يملك النّقود أو سدّة باب المصرف أمام مودع بسبب الإفلاس وعدم القدرة على ردّ النّقود. السّدّة الرّئويّة التي تؤدّي -غالباً بسبب التّدخين- إلى صعوبةٍ في التّنفّس، وكثرة السّعال وإن تفاقمت، تودي بحياة صاحبها. السّدّة المائيّة التي تُستخدم بغية كبح جماح المياه ومنع حدوث الفيضانات والسّيول، فتُروِّض السّدّات هيجان الموارد المائيّة، لتنظيمها وتوزيعها بعناية بهدف الرّيّ أو الشّرب. إضافةً إلى الاستفادة من المياه المُحتجزة في توليد الطّاقة الكهرومائيّة.

أرديان بوفر، «مرارة السم»

وثمّة فيما يتعلّق بالنصّ سدّتان، سدّة الكاتب التي تقابل الكاتبَ الذي ما زال يحبو، والمتمرّسَ الذي له باع على حدٍّ سواء. إذ يجلس الكاتب جلسته ويتهيّأ، ينظر إلى الورقة البيضاء، ويطولُ النّظر، يطولُ التّحديق، وتظلّ أنامله عاجزةً عن الكتابة، كأن الكلمات قد جفّت في عروقه، يحاول تسييلها فتعانده، يسمع الورقة البيضاء تغنّي بابتذال «مخاصمك» فلا ينفر منها رغم ذلك، يظلّ يحاول ويتحايل عليها في مدّة قد تنتهي، وقد تدوم. تكبح سدّة الكاتب جماحَ مشاعره بينما يسعى هو جاهداً إلى ترجمة صرخاته المكتومة، إلى صرخات مكتوبة.
هجر نجيب محفوظ الكتابة مدّةَ خمس سنوات، إثر «ثورة الضباط الأحرار» مع ما تلاها من متغيّراتٍ سياسيّة واجتماعيّة، أمّا أمل دنقل فقد دام عجزه عن نظم الشّعر ثلاث سنوات ما جعله يفكّر بالانتحار. في مقابلته مع الإعلاميّة لانا مدور، على قناتها في يوتيوب، يذكر الصّحافيُّ بيار أبي صعب، أنّه يعيش حالة نضوب: «أنا بمرحلة عجز عن كتابة مقال»، مُرجِعاً السّبب إلى البلد، الصّحافة، ولا جدوى الأشياء. وقد أردف أنه يُعوّضُ عن ذلك بالقراءة. وقد راسلتُ الصّحافيَّ أبي صعب سائلاً إيّاه عن حالة العجز عن الكتابة، فأجابني: «افتقدتُ الحافز، افتقدت القارئ، الكتابة غواية وإغراء في الاتّجاهَيْن بين كاتبٍ ومتلقٍّ، ولم أعد أعرف شيئاً عن المتلقّي، أضعت الخيط الذي يربطني به. كل هذا الرّكام ليس الكتابة. هناك طاقةٌ داخليّةٌ تنطفئ فيك، يتعطّل الوحي، هو عذاب الورقة البيضاء الذي تحدّث عنه مالارميه. هنا وسط كل هذا السّيل الجارف من النّصوص العقيمة، والكلام الأجوف المفرغ من نسغه، هل من شيء ينبغي أن يُقال؟ حين تجد نفسك محاصراً بتصحّر الذّوق، حين يضيع الفضاء المشترك، ماذا تفعل غير الانطواء والإمساك؟»
وقد أشار أبي صعب إلى مثال آرثر رامبو، الشّاعر الذي عُدَّ مؤسّسَ تيّار الحداثة في الشّعر الفرنسيّ، إذ وفي عمر العشرين، هجر الشّعر إلى الأبد، بعدما أدرك أنّ العالم لن يتغيّر بواسطة الشّعر. يقول رامبو: «لقد صنعتُ كلَّ الاحتفالات \ كلّ الانتصارات\ كلّ الأعمال الدّراميّة\ حسناً، لا بُدّ لي من دفن مخيّلتي وذكرياتي».
والقارئ، القارئ الحقّ، لا الذي يكتفي بتمرير عَينَيْه سهواً وليس تربصاً على الصّفحات، كما ذكر الرّفيق بول مخلوف في مقالته ««أبجد»: القراءة كَحكّة» مشيراً إلى أنّه عندما حاول القراءةَ بتلك الطّريقة أطاح به شعورٌ بإهانة القراءة أو مثلما جاء في مقالته: «القراءة عنيفة بجوهرها، حيث التّأنّي والتّحمّل والشّقاء» موضحاً مفهوم «الرأس مرفوع»، هي القراءة حيث «يسهو القارئ بينما تتداعى أحداث وأفكار ما يقرأه وتختلط مع أفكاره. هو المحايث في قراءته ويمارس حريّته في أقصى حدودها حيث يقوم بتحوير القّصّة التي يقرأها بناءً على تأويله لها، فقط لأنه حرّ».
وقد أكّد الشّاعر والإعلاميّ زاهي وهبي على حريّة القارئ في مقالةٍ له: «القارئ، كما الكاتب، ما لم يكن حرّاً لا يكون»، واصفاً القراءة بأنها: «أوسع أبواب النّجاة». وقد غرّد مرّةً: «الكتابُ الورقيُّ يُقرأ بالحواس الخمس». وهذه الجملة هي «بيت القصيد»، فبقدر المتعة والمنفعة في القراءة، إلا أنّها تستنزف الحواسّ، وأنا حرفيّاً، أغمس كل حواسي في الكتاب الورقيّ، أُلقي عليه النّظرة الأولى، أحمله بكلتا يدي، أتفحصه، أشتمّ رائحة أوراقه العطرة، أقرأ كأنّني أسجّل صوتي في استديو احترافيّ، وبالتّالي أستمع إلى أصوات كلماته. أشرد -كسَرْحان- في الشّخوص التي تنبعث من الكتاب، في كوكتيل من الأفكار التي تمتزج وتختمر مُحدثةً صدوعاً في كلّ سدّات الدّنيا، ليلج النّور، ويتدفّق الوعي، وتهيج العِبر.
القراءة تُضمّد النّدوب، وتقي من النّضوب، ولكنّ للقراءة سدّة أيضاً. إن كانت القراءة ملجأً، وعلاجاً، ولا سيّما لسدّة النّفس عن الكتابة، فسدّة النّفس عن القراءة علاجها. كثيراً ما تعجبت من الذي يقرأ بمعدّل 50 صفحةً في اليوم ويُطلق على نفسه سمة القارئ النّهم. فأنا، بطريقة قراءتي بالكاد أقرأ بضع صفحات.
في مادّة الرّواية، في السّنة الثّالثة لاختصاص اللّغة العربيّة وآدابها في الجامعة اللّبنانيّة، طُلِبَ مِنّا قراءة روايتَيْن، إذ سيتمحور الامتحان عن واحدةٍ منهما، «صناديق سود» أو «موسم الهجرة إلى الشمال». لم أقرأ أياً منهما قبل الامتحان، بل قرأت عنهما، قرأتُ عن الشّخصيّات وخلفيّاتها وأبعادها الاجتماعيّة والنّفسيّة، قدّمتُ الامتحانَ ونجحت بعلامة جيّدة. وبعد صدور العلامات، آثرت القراءة. دافع القراءة قبل الامتحان كان فرضاً واجباً، وهو ما لم أفعله، أمّا بعد صدور النّتائج، فدافعه الفضول والاستمتاع. مضيتُ بين طيّات رواية الطّيب صالح، كمن يجدّف في أغوار بحر تملأه الأسرار، يتأمّل حوله البهاءَ، ومع كلّ صورة بديعة، أو جملة بليغة أردّد: اللّه اللّه. أُعجبت بأسلوب صالح، بالحبكة وتموّجات الأحداث، ولكنّ المسافة الّتي كنت أقطعها يوميّاً ضئيلة، حتّى كادت تنقطع أنفاسي، بقيَ أماميَ مسافةٌ ليست هيّنة -مع أنّ الرواية كلّها أقلّ من مئتَي صفحة- ولكي أصل إلى برّ الأمان، ولا ألقى مصير مصطفى سعيد، لجأتُ في المسافة المتبقيّة، إلى تجربة الاستماع إلى الكتب الصّوتيّة، وبجلسةٍ واحدة، قطعت المسافة المتبقّية، بسرعة قياسيّة، بساعة ونصف ساعة، استمعت إلى ما كان سيحتاج مني أسبوعاً ونصف أسبوع. وهو استماع بحقّ، ليس تمريراً للصّفحات سهواً من دون تربّص، استماعٌ برأس مرفوع، بتماهٍ مع شخصيات الرّواية، بتداعٍ للشّخوص، كأنّها تخرج من شاشة الهاتف لتتمازج الأفكار، وتختمر، في تفاعل كيميائيّ، يُنتج مستمعاً نهِماً.
ولكن على تطبيقات الكتب الصّوتيّة، والممثّلين الصّوتيّين، العناية بتدقيق النّصوص لغويّاً، تجنّباً لرواج الأخطاء النّحويّة. فالاستماع أبو المَلَكات حسب ابن خلدون. ورغم ذلك، قد أواجه لاحقاً، سدّة المستمع، أو سدّة النّفس عن الاستماع.