صبيحة يوم السبت 7 أكتوبر الجاري، بدأت كتائب عزّ الدين القسّام عملية عسكرية واسعة ضد المناطق التي تحتلها إسرائيل، ومُنذ ذلك الحين وحتى كتابة هذا المقال، يتابعُ الكيان تصعيد مجازره تجاه المدنيين في قطاع غزّة، حتى وصلت إلى استخدام أسلحة مُحرمة دولياً، إضافة إلى استهداف أحياء مدنية ومدارس تؤوي المواطنين، وإزالة أحياء بالكامل. استقبلتُ خبر «طوفان الأقصى» صباحاً. بعدما استيقظتُ مُباشرة وجدتُ والدتي، ربّة البيت الأمّية، تجلس بعين مُبتهجة وأخرى مُتخوفة أمام الشاشة، تستمعُ إلى مذيعة قناة الجزيرة، وعلى طاولة الفطور رأيتُ أخي الكبير يُشاهد فيديو عن غلاف غزّة، ودواعي عمله من قِبل الاحتلال. في مدينة بورسعيد الساحلية، لا ينتبه الناس إلى أكثر مما هو أولي في حياتهم: الأكل، وتوفير الوقت للاشيء. ورغم أن المدينة بفعل الأزمات المصرية الحالية، باتت تلهثُ لأجل الحاجات الأساسية، لكن الحماس في الحديث عن أمر سياسيّ، أو مسألة تتعلق بالشأن العام، لم يظهر إلا مُنذ فترة قريبة، اعتراضاً على التفحش الحاصل في التراجع المعيشي.


لم تتركني الأخبار عن فلسطين، طُوال اليوم. امتدت معي سيرة الحدث الجلل إلى الخارج وكأنني أنا الذي كنت جزءاً منه، وكذلك الآخرين، وليس هو جزء من أحاديثنا. في سيارة الأجرة، ركبتُ والسائق منتبهاً إلى القناة الخبرية على الراديو، فوجئت به يسألني «فلسطين بخير ؟». وأثناء كلامنا فهمتُ أنه منذ سماع الأخبار، يسألُ الراكبين، لأن حديثهم معه أسهل وأكثر قابلية للاستيعاب من سماع حديث الراديو. على اختلاف الأماكن التي ذهبتُ إليها، المُتعلقة بمعاملات يومية أو زيارات أو جلسات مع الأصدقاء في المقهى، كان الحديث ينتهي إلى تبادل أخبارٍ جديدة حول الأمر، هل أهل غزّة بخير؟ هل حققت المقاومة نجاحات أخرى؟ كانت فلسطين عنواناً رئيسياً.
يُحدد إدوارد سعيد في مُقدمته لكتاب «أحلام وطن» العلاقة بين المواد المرئية والفلسطينيين، وفعلُ المقاومة بينهما، في إطار صراع حول الظهور من قِبل المقاومة، يُقابله المحو من قِبل الاحتلال، فمسألة الوجود «الواقعي» لدولة إسرائيل، يُمكن دحضها في أكثر من إطار سياسي، وربما يكون الوضع الحالي وأسلوب العدوان علامة على تبنّي أسلوب العصابات المُسلحة، أكثر منه حراكاً ينتج من دولة واقعية. يمكن قراءة الوضع الحالي ضمن هذا الإطار. فما تُسميه إسرائيل حرباً، لا يقوم على المُبالغة لصبغ مزيد من شرعية قتلِ الأبرياء، بقدرِ ما ينتجه احتلال إحلالي يقوم على المحو وحينما يبدأ الطرف المستحق في الظهور، فإن الوضع يؤطر في حالة حرب فعلاً. من جهة أخرى، فإن إشارة سعيد إلى أسلوب «المحو» تشملُ فقراً في الانطباع الذهني تجاه المادة الفلسطينية المرئية والتاريخية، فقراً يمتدُ إلى الواقع، حيثُ الآخر لا يسلب الأرض فقط بل يسلب الظهور.
كنت مشغولاً برؤية سعيد، فيما يتعلّق بالسؤال الشخصي حول جدوى طوفان الأقصى، فالحرب ليست عادلة أمام نظام عسكري مُزود بأحدث تقنيات الرصد والدفاع والتأمين، لكن الجانب الهش من السُلطة المُحتلة، يظهرُ من الخوف في الظهور، والذي رأيته يتحقق، فجأة، وكأنه لا يحتاج إلى أكثر من شُعلة صغيرة لاستنطاق الهم الإنساني. حضرت أشكال الظهور -الذي يجعلُ طوفان الأقصى في حد ذاته خُطوة مهمة، مع مرارة رؤية ضحايا غزّة المدنيين- مُنذ السبت الماضي وحتى اليوم، مُشيرة إلى استعداد بالبداهة لاستحضار فلسطين مرة أخرى، ليس على مُستوى الشفقة المجانية، بقدرِ ما نبّهني هذا الاهتمام المصحوب بهمٍّ كتيم، وأمل عاجز إلى قُدرة القضية على إعادة إنتاج نفسها، فقط حينما تأتي إشارة إلى ذلك.
بنَت إسرائيل ضمن عملية عزل قطاع غزّة عن مُحيطها الجُغرافي سياج حديدي بطول 50 كم، يعزلُ هذا السياج غزّة عن مُحيطها، عزل مُزود برادارات وأجهزة استشعار وكاميرات مُراقبة، إضافة إلى حصن إسمنتي مُسلح بعمق تسعة أمتار تحت الأرض لمنع عمل أي أنفاق للتسلل. الفكرةُ الأساسية لطوفان الأقصى كانت إمرار مروحيات مُنخفضة ارتفاع التحليق من قطاع غزّة إلى المُستوطنات، واعتُمِدَ في تأمين إمرارها على إطلاق عدد كبير من الرشقات الصاروخية، لتقليل قُدرة القبّة الصاروخية على التتبّع والتصدي.
اختُصرت عملية الطوفان في مسألة مبدئية لدى الجُمهور العربي، تتعلّق بإمكانية الظُهور المُمثّل لقيمة في ذاته، ظُهور لا يحتاجُ إلا لملمح بسيط حتى يتحقق حضوره، وهذه مسألة لا تقوم على الكسر الفعلي لما يُحدده الاحتلال من موانع وأسيجة بقدرِ ما تستحيلُ إلى حالة مُقاومة تُنتجها أي سردية تتعلق بفلسطين.
في الفيلم التسجيلي «r21 aka restoring solidarity» عن المُقاومة خلال نشاط مُنظمة التحرير الفلسطينية، تتشكّل عملية الظهور المذكورة سلفاً، كأنها ناتجة من صراعٍ دموي في التشكيل، ومع ذلك فإنها حينما تحظى بفُرصة التناول، لا تحتاج إلى مزيد من المُعالجة الفنّية لتكتسب الجودة. في الفيلم يستحيلُ الأرشيف ببُعده الروتيني المحدود إلى مادة فنّية فاعلة لنقد السردية العالمية لفلسطين، والدفاع عن استثنائية النضال المُسلّح في مرحلة ما بين الستينيات والثمانينيات. يقوم الفيلم على مشاهد مُجمّعة من أفلام تجريبية وتسجيلية ودعائية حُفظت في غرفة أستاذ ياباني على مدى عُقود، ضمن عُهدة مكتب طوكيو التابع لمنظمة التحرير. يشغلُ الفيلم عدّة لغات تم تصوير أفلام عديدة بها، إضافة إلى تباين لُغوي في التوثيق لوقائع ومجازر ارتُكبت في حق الشعب الفلسطيني، ورغم هذا الاختلاف، تتلحفُ الأجزاء الفيلمية المُقتطعة ببعضها، تُشكّل نسيجاً يمثّل وحدة ما، تُصبغ بجودة فارقة حال تجاورها المشهدي.
لم يختلف كثيراً، بالنسبة إلي، بهجة الظُهور الحاصلة في الفيلم أو في الواقع حالياً خلال صُمود رد الفعل من قِبل المُقاومة تجاه الجيش الإسرائيلي. ثمّة جهد وإصرار كبيران في أن تُرى فلسطين، بذاتِ الشكل الذي يُحاول الاحتلال إقصاءه تماماً ومحو كُل تفصيلاته.
حتى كتابة هذا المقال، تتنقلُ عيوننا بين مرارة القصف على أهل غزّة المدنيين، قتلُ الأطفال والنساء العُزّل، وبين أي رد فعل مُقارب، طالما لن يكون مُماثلاً بأي شكل، إلا أنّنا نطمع في بقاء الظُهور، ومن ثم طلب الأحقية في بقائه.