في مقطع فيديو انتشر البارحة، وحصد مشاهدات تخطّت عشرات الملايين في غضون ساعات قليلة، ظهر فيه محمد صلاح بوجهٍ حزين، وراءه خلفية سوداء، لم ترمش جفونه مرتين، ولا أحد يدري -بحق السماء- لماذا تكلم بتلك الطريقة. أغلب المشاهدين ظنوا في البدء أن الفيديو من صناعة الذكاء الاصطناعي AI. خرج محمد صلاح، أخيراً بعد أسبوعين تقريباً من القتل الجماعي للفلسطينيين، ليُعرب عن «قلقه» بشأن «الضحايا» التي تسقط والأطفال الذين يموتون. لم يوضح صلاح كثيراً من هم الضحايا بل اكتفى بتضامنه مع الضحايا «جميعهم». لم نعرف أيضاً ماذا عنى تحديداً بالأطفال الذين يموتون، نتساءل هنا أطفال من الذين يموتون؟

رغم مهابة ومأساة ما يحدث منذ حوالى أسبوعين تقريباً، كان لمحمد صلاح نصيباً وافراً من الحديث، إذ انتظره الجميع لكي يتكلم لكنه أبى أن يتكلم وأن يصرّح بأي موقفٍ عما يجري في فلسطين. بعد ظهوره في المقطع الفيديو، بات الجميع الآن يتمنى لو لم يتكلم من الأساس. في بعض الأحيان يكون من الأفضل ألا تأتي على أن تأتي حاملاً بيديك كارثة. لا يمكننا أن نفترض أن محمد صلاح لا يدرك مدى تأثيره كنجم رياضي تفوق شهرته صنّاع القرار والساسة، بل إننا نفترض أن موقفه قد يؤثر عليهم. لقد كان محمد صلاح نجماً للعديد من الحملات الإعلانية التي ساهمت بالتوعية الاجتماعية أمام تهديدات المخدرات وغيرها، وكان من الذين تبرعوا بالأموال لصناديق الأعمال الخيرية ولجمعيات الرعاية بالحيوان، وقد كانت كلمته تحقق ما يُعوّل عليها من أمنيات، حتى إنه بما يمتاز به من شعبية عند المصريين، كان صلاح قادراً على حشدهم ضد اتحاد الكرة في بلاده، والضغط عليهم لصالح أزمة تجارية اندلعت بينه وبين الاتحاد. وقد خرج منها صلاح منتصراً بفضل جماهيريته بالأحرى بفضل «صنميته» التي كانت!
حينما بدء صلاح مسيرته الاحترافية في نادي بازل السويسري عندما كان في العشرين من عمره عام 2012، تقاطعت هذه البداية مع ظروف سياسية كانت تحصل داخل مصر. تلك الأعوام كانت سنوات الشباب في مصر، الشباب الذين ثاروا وغيّروا واقعهم السياسي وصنعوا ربيعهم العربي المُفترض. ولقد كان صلاح على جبهةٍ أخرى، يحارب ويمثّل شباب مصر بعنفوانه، ومثابرته في الوصول إلى القمة، وإثبات أن الشاب المصري له قدرة مناطحة ومنافسة هؤلاء الذين يلعبون في أوروبا إذا أُتيحت له الفرصة. كان صلاح مرآة حقيقية لهذا الجيل. وبينما كانت تجربته اليافعة في فريق بازل، وحينما كان في مقتبل طريقه، وضعته الظروف في مواجهة ضد فريق إسرائيلي في إحدى المسابقات الأوروبية. ما كان من محمد صلاح يومها إلا أن فعل الشيء المرجو: رفض مصافحة اللاعبين الإسرائيليين، سجل عليهم، سجد في أراضيهم، التقط صورة مع المصحف أمام قبة الصخر. حقق صلاح يومها كل الانتصارات الرمزية التي تفرغ الكبت، والتعطش لهزيمة الصهاينة في مجازاتٍ وبطريقةٍ رمزية، معوّضاً بانتصاره ذلك، عن النهاية السعيدة للحرب المنتظرة. كان صلاح «الابن» الصالح. الصديق الوفي. كان الفلاح الذي لم تبهره أضواء المدينة وخمورها ونساءها واستهلاكها. كان يمثلنا ويهشم الصورة التي يأخذونها عنا كشرقيين في عالم شرقي مُتخيل. حتى جماهير ليفربول، وفي أوج نجوميّته كانت لا تزال تصوّر صلاح على أنه يركب على الجمل في صحراء الأهرامات، رغم أن المصريين لا يركبون الجمال، بل من يفعلها هم السياح الغربيون. الفكرة هنا أنه وبالرغم من شغف الأوروبيين وعشقهم لهذا الساحر الذي حقق أحلامهم وجعل ناديهم يفوز وينتصر في البطولات إلا أنهم بقوا يعتبرون هذا الرجل من «هناك»!
ولكن صلاح لم يعد يتصور نفسه كفلاح مصري رضع الانتماء إلى قضايا الأمة بجوار اللبن من أمه. فلاح حارب أجداده في القرية في ثلاث حروب ضد إسرائيل. أصبح محمد صلاح يتصور نفسه ككوزموبوليتاني، أي مواطن كوكبي ينتمي لكل البشر طالما أنهم متساوون في إنسانيتهم، مُحتلون كانوا أم أصحاب أرض، وعندما يعبّر عما يعتريه فهو يعبّر عن أحلامهم وأحوالهم جميعاً.
بعد التأهل إلى مونديال 2006 تزعم ديدييه دروجبا زملاءه في منتخب ساحل العاج. ذهبوا جميعاً أمام الكاميرا في مشهد تاريخي: انحنوا وركعوا متوسلين الإيفواريين المتقاتلين بين بعضهم البعض لكي يتوقفوا عن الاقتتال والاحتفال جميعاً بالإنجاز الذي يجمعهم، أي التأهل إلى كأس العالم. ولقد كان دروجبا نبيلاً في فعلته تلك التي أوقفت حرباً أهلية حصدت أرواح الآلاف. أراد محمد صلاح أن يتحلى بتلك النبالة التي تحلى بها دروغبا. تجدر الإشارة إلى أن الاثنين يتشابهان كثيراً، في انتمائهما الأفريقي أولاً ولكونهما أسطورتين لكرة القدم، يلعبان في فرق إنكليزية. لكن فات صلاح أن دروجبا كان يمنع قابيل من أن يبسط يداه لقتل أخيه هابيل بينما صلاح كان يرى داوود الفتى كجالوت الجبار. وهما، الضحية والجلاد، لا يتساويان أبداً. لقد أنكر صلاح شعبه ثلاثة مرات، مرة بصمته، ومرة بحديثه، ومرة بمساواته بين الدماء!
لو كان الانحياز صعباً إلى هذا الحد، ربما لعذر الجميع صلاح، لكنه لم يكن صعباً على آخرين مثل كريم بنزيما الشخص الذي لم يحتك بقضية فلسطين، أو الشرق الأوسط وقضاياه عن قرب يوماً. كانت قضية حياته هو أنه عاش طفولته كـ«بور» (Beur)، ذلك المصطلح الفرنسي الذي يُطلق على أبناء المهاجرين العرب لتحقيرهم، والاستهزاء من عدم تمكنهم من اللغة الفرنسية ومن الثقافة الفرنسية لو مهما فعلوا وانخرطوا في ذلك المجتمع. ها هو بنزيما الآن بعد أن تقبّله المجتمع الفرنسي، وبعد أن أصبح الأسطورة «الفرنسية»، اختار أن يقول الحقيقة: إن غزة تتعرض لقصف، ولاحتلال، وأطفالها ليسوا كأطفال الصهاينة، وإنه ليس كل الأرواح مقدسة أو تتساوى كما يدّعي صلاح. يُحاكم كريم بنزيما جرّاء انحيازه، وقد تُنزع عنه الجنسية الفرنسية. وبخلاف بنزيما ممن اختاروا الانحياز بسهولة، سُرّح اللاعب أنور الغازي من تشكيلة فريقه الألماني، وسيلاقي رفيقه نصير مزراوي نفس المصير. ولكن إن قلنا إن هؤلاء «عرب» يدافعون عن قضاياهم، فكيف نصفح عن صلاح أمام هؤلاء الذين لا يتكلمون لغتنا ولا يتنفسون هواءنا ورائحة البارود التي تخنقنا.
في إسكتلندا، قدمت جماهير سيلتيك دعمها غير المشروط لفلسطين. ليست هي المرة الأولى أبداً، لقد رفعت جماهير سيلتك أعلام فلسطين في مباراة ريال مدريد في العام الماضي في دوري أبطال أوروبا، ورفعت أعلام فلسطين مرات ومرات وعوقبت من الفيفا وغُرم ناديها وجمعت ما يوازي ثمن تلك الغرامة وتبرعت به لمدارس الضفة الغربية، وقد أسس «الجرين بريغاد» رابطة مشجعي سيلتك أكاديمية لاحتراف كرة القدم في الضفة الغربية. ناهيك عن انحيازهم إلى القضايا التي تخصنا مثل الدفاع عن اللاجئين السوريين، وفتح أبواب ناديهم لهم ضد عنصرية اليمين الاسكتلندي.
يعلم «السلتيون» (جماهير فريق السلتيك) ما تعنيه عبارة «Free Palestine» التي يهتفون بها. يعلمون ذلك لأنهم ليسوا اسكتلنديين بالأساس بل إيرلنديون هاجروا نتيجة المجاعة التي تسببت فيها لندن في القرن التاسع عشر. منذ ذلك الوقت وهم يواجهون العنصرية المذهبية والقومية، والتهديد المستمر من المتعصبين. ولطالما شارك الإيرلنديون مسيرة النضال الفلسطيني. فلقد دربت قوات منظمة التحرير الفلسطينية فرقاً من «IRA» التي تمثل الجيش الجمهوري الإيرلندي الذي كان يحاول الانفصال عن المملكة البريطانية المُحتلة ولقد تشاركا المخاض نفسه، فلم تنسَ جماهير سيلتك قضية غزة منذ أول غارة، بينما نسيها محمد صلاح لمدة أسبوعين تقريباً.
إن موقف الضمير هذا ينبع من الذين لا يتكلمون لغتنا ولا يعيشون مأساتنا ولا نطالبهم به. لقد لبس مارادونا ورونالدو البرازيلي وإريك كانتونا جميعهم الكوفية الفلسطينية بكل أريحية ضمير، هم الذين أسروا قلوبنا لم نكن لنكترث حقاً لو لم يلبسوها. ولكننا طالبنا صلاح الوقوف إلى جانب فلسطين، ليس لأننا ننظر إليه كمحمد صلاح الجندي المصري الذي أطلق النار على خمسة من جنود المحتل، كما أننا لم نقل لصلاح أنت مسيحنا فاحمل عنا صليبنا، بل كل ما أردناه أن يحمل معنا الصليب لكونه «منا» أو هكذا كان فهمنا له في السابق.
في كرة القدم، إذا سجل اللاعب هدفاً بيده فيتهم بالغش. ولكن الجميع -إلا الإنكليز- بارك يد مارادونا التي سرقت النصر، حتى سميت تلك اليد بـ«يد الله». بنوا كنيسة مارادونية موازية لفرق كاثوليكية، وحولت تلك «السرقة» مارادونا إلى أيقونة روبن هودية. حتى بعد اعتزاله كرة القدم تحيط بمارادونا هالة الأسطورة المُقدسة، التي لم تنكسر يوماً رغم كل ما طارده من أزمات في حياته الشخصية. بالرغم من كل ما نثرته أقدامه من سحر كروي بقيت صورة ارتقائه بيده لضرب الكرة خالدة ليس لشيء غير أن مارادونا حين فعل فعلته كان ينتقم لشرف بلاده الذي أهانته الدبابات الإنكليزية في حرب الفوكولاند. لقد طور مارادونا مفهوماً جديداً موازياً للمفهوم الغرمشيّ عن المثقف المشتبك. لقد جعل الناس تعتقد أن بإمكان تلك اللعبة أن تقدم لحياتهم الكثير، وتنتصر للكثير من القضايا، لذلك كان الخذلان الكامن في موقف محمد صلاح كبيراً. بينما أضنانا البحث عن «رياضي مشتبك» كان محمد صلاح في الظلام يقف صامتاً، وحين تكلم لم يكن يتوجه لنا، بل كان يهمس همساً خفيضاً، بإنكليزية مكسّرة، في الأذن الصماء «للعالم».