في وسع الجلد المحروق أن يخبر قصة صاحبه من دون أن يكون الأخير مضطراً للنطق. الحرق يخلِّد، مثل الذاكرة، خالد، ولا شيء يستطيع إخفاء أثره. تحترق الوجوه في غزة وتذوب. لا يبقى منها سوى العيون الشاخصة ونظراتٍ جوفاء فارغة أعمتها قنابل العالم. الأجساد، إن صودف وبقيت أجساداً، أي إنها لم تتمزق ولم تصر أشلاء (بعد)، تتهاوى أو تتجمد، يكتسحها غبار الموت وتعانقها رائحته، وأحذية صغيرة سبق وكتب هيمنغواي قصة صغيرة عنها: «للبيع: حذاء طفل جديد لم يُنتعل» تحولت إلى أكياسٍ من الدم. من يروي قصة الجلد المحروق ويدوّن تفاصيل المحرقة مهدد بأن يطاله الحريق.

(تصميم هاشم رسلان)

مُضرم النار مستعد لتوسيع حرائقه ظناً منه أنه بإشعالها يطمس الأدلة ويقضي على الشهود. هكذا يبقى من النيران دخانها التي لا تثير الشبهة لأن العين اعتادت غض النظر عنها بسهولة. إذا قررنا ذكر الأسماء التي مُنعت، وأُقصيَت، وهُددَت جراء إدانتها للفوسفور الحارق وتضامنت مع فلسطين، فقد تكون المساحة هنا لا تكفي. لن نتكلم عن الوقوف إلى جانب المقاومة «المسلحة»، ودعم حقها في الرشق بالحجارة وبالصواريخ، فمثل هذا الشأن قد يهدد مناصرها بالاشتعال حيّاً. وهذا كلّه مشروعٌ وفقاً للقانون الدولي الذي ينص على التالي: على «الحيوانات» أن تبقى خرساء، صامتة، لا تنطق ولا تئنّ، وفي حال حركت حنجرتها، فتعتبر مستشرسة جاهزة للانقضاض ووجب قتلها فوراً. هؤلاء «الحيوانات» هم القابعون خارج أسوار المدينة «الكوزموبوليتية» ورافضو بريقها، لديهم «القفص» ويجب ألا يبرحوه، بالتالي إن سكان القفص هم «غير المتحضرين»، الذين يمكثون في العتمة مجبولين بظلمتها، ويشكلون خطراً مهولاً على «العالم الجديد الشجاع». تشكل هذه الرؤية الطبقات السفلى لوعي من هو «متحضر». لكن هذه الطبقة سرعان ما ترتقي وتحتل الواجهة كلما استُفزت أو لامستها حمى الحرب. عندها، ينكشف محزونها عارياً بصورته الخام، فلا يعود في الإمكان تصنيف الخطاب أنه وقح أو صفيق. الحال أنه يخولنا فهم طبيعة النار وعلتها ومضرمها. اضرب مثلاً: كتب مصاص الدماء بنيامين نتنياهو، قبل وقوع القذيفة على مستشفى المعمداني التغريدة التالية: «هو صراع بين أبناء الضوء وأبناء الظلام، صراع بين الإنسانية وشريعة الغاب»، وعندما شعر أنها زلة لسان حذف تغريدته. «المتحضر» إذاً هو ابن الضوء، و«الحيوان» أو «غير المتحضر» هو الذي ولد من دون إبرة بنج ويرفض قائمة طعام ماكدونالدز.
يبدو أن «التنوير» الذي جاء ليبدد أساطير رجل الكهف، وليضيء دروب الحرية، وليفكّ السحر الملعون عن العالم، معرّضٌ دائماً للانقلاب على نفسه وارتكاب الفظائع في غرفٍ معتمة، كالكهوف التي سخر منها، وهو لا يندم على ارتكابه الحماقة مرتين، في المرة الأولى عندما حاول الرسام الفاشل، صاحب الشاربين القصيرين أن يبيد كل من لا يشبهه، والمرة الثانية، الموعد لم يتأخر كثيراً، جاء بعد ثلاث سنواتٍ من الهزيمة الساحقة للنازي، عام 1948، والتاريخ الدرامي هذا سُمّي النكبة. وقتئذٍ جاورت الجرافة الدبابة في مهمة إكمال الإبادة عبر المحو، والتدمير، واقتلاع الجذور، وتعبيد الطريق أمام حداثةٍ مشوّهة رسمت خريطة آثمة، حدودها تجلت في كيان مسموم، لا تتجاوز مساحة جغرافيته طول الشارب (كأن عقدة الرسم محرّك التاريخ).
«التنوير» اليوم، الذي سبق وقال عنه هوركهايمر وأدورنو منذ مئة عام تقريباً في كتاب «نقد التنوير» إنه شيزوفريني، مزدوج، له وجهين، قد غلبه الوجه المرعب، ذلك المتمثل في شراهة السيطرة، و«أسطرة» العقل، وبناء سرديات واهية عن التفوق. هو الوجه الذي يبرز فجأة، على مضض، بعد التفاتة سريعة ويحدق بانتشاءٍ في عينيك، ويكون مضرجاً بالدم، والقيء، والأنياب المسنونة المستعدة للنهش، التي تنتظر مذاق اللحم الحيّ. «تنوير» يُغرق شعوباً في الظلمة، يعتّم على كل من يحرك حنجرته أو يئن - لكن تذكر، في وسع الجلد المحروق أن يخبر قصة صاحبه من دون أن يكون الأخير مضطراً للنطق -، يخرج من كهفه حاملاً بندقيته ليصطاد كل من لا يشبهه - أولئك الذين يراهم بمنزلة «الحيوانات» - ثم يعود، يعدّ قتلاه ويخلد إلى النوم، وعندما يستيقظ، يعيد الكرة مجدداً. هو «تنوير» إذاً، لكنه يكتب أسوأ فصول التاريخ عتمة.