في مهامه الإعلامية الأخيرة التي تُمارس ضمن برنامجه «بيرس مورغان من دون رقابة»، يظنّ الإعلامي البريطاني بيرس مورغان، المتبجّح بمعارضته لحرب العراق، والذي يقدّم نفسه الآن على أنه محايد سياسياً وجلّ همه هو «حياة المدنيين»، أنه يمارس دوراً إنسانياً في فتحه الهواء لمعارضي الإبادة التي تنفذها إسرائيل، وفي استقباله لضيوفٍ منحازين إلى فلسطين. لقد نشأ هذا الدور الإنساني الذي يتقمّصه بيرس مورغان في حقبة ما بعد الاستعمار الغربي، حين شعر «الرجل الأبيض» بأنه ملزم على تبييض مؤخرة دولته الاستعمارية، بعدما انتهت من نهبها للثروات، وحققت أغراضها الحربية بحق الدول التي استعمرتها؛ تلك الدول التي يأتي في آخر أولوياتها دعوات يطلقونها لكنها غير قابلة للتنفيذ مثل «نشر التحضر وقيم الديموقراطية».


إنّ حاملي هذه الدعوات بالمجمل، والمنشغلين في ترصيع صورة الاستعمار هم قوم «المُنقذ الأبيض» («White Savior») ذلك التيار الذي أغرق هوليوود في سيلٍ من الأفلام التي تؤكد نوايا «الرجل الأبيض» الحسنة إنما تعيقها المقولة الخالدة بأن «الطريق إلى جهنم محفوف بالنوايا الحسنة». على هذا النحو، دائماً ما يؤكد بيرس مورغان على رفضه ومناهضته للحرب على العراق، وينافح في سبيل كشف الحقائق والفظائع التي تعرّض لها الشعب العراقي. يتصرّف مورغان كـ«مُنقذ أبيض»، يفتح منصاته الإعلامية لشخصيات مثل الديبلوماسي في حركة فتح حسام زملط، والناشط السياسي والكوميدي باسم يوسف، وقد كان بيرس مدافعاً عن موقف قطر بوجه الإعلام الغربي الذي خاض هجوماً شرساً عليها عند افتتاح كأس العالم 2022 بسبب مواقفها الرافضة للمثلية الجنسية. يحاول بيرس مورغان أن يقدم نفسه ممثلاً لتيار مستقل عن السردية الغربية التي تحاول أن تقف على حياد دائم من الأحداث التي تحدث في المدارات التي لا تخصها، تلك التي لا تعني ولا تمسّ هموم وشؤون «الرجل الأبيض»، ولكنه بمجرد أن يبدأ حواره مع الضيف يهتف لسانه تلقائياً: «دو يو كوندم هاماس؟» (هل تدين حماس؟).

نعيم «الريتش» العربي
للناشطة السياسية والصحفية الكندية ناومي كلاين مقولة ساخرة مفادها «إن المحافظين الجدد بالتأكيد لم يقوموا بتفجير برجي التجارة في 11 سبتمبر، ولكنهم صلّوا متضرعين والدموع تملأ أعينهم لحدوث كارثة كتلك». مقولة كلاين تشكل توصيفاً دقيقاً لحالة بيرس مورغان. بينما كان الأخير يمارس وظيفته كإعلامي يتابع الشؤون اليومية ويتسلّى في تعقيبه على بانوراما العالم، فهو بالتأكيد، لم يتخيل (ولم يتمنى) ذلك الخرق الاستثنائي الذي أحدثه السابع من أكتوبر والذي زعزع الستاتيكو السياسي، وبمجرد أن حدث طوفان الأقصى شعر أن برنامجه معنّي بالحدث. لهث بيرس مورغان لصناعة «الحالة» عبر ملاحقته الحثيثة للحدث. استضاف في البداية محمد حجاب وهو مسلمٌ يحوز على الشهرة في أوساط مسلمي الغرب ولكنه بالتأكيد لا يحقق ربع تلك الشهرة في الأوساط العربية، لذلك لم يلق حواره مع مورغان رواجاً كبيراً. في نفس الوقت، كان باسم يوسف، الإعلامي المصري الساخر، قد كتب بوستاً عن فلسطين ولّد وقعاً كبيراً. وباسم يوسف معروف في الأوساط الأميركية عن طريق جيمس ستيورات وبرنامجه الشهير، وحين استضاف بيرس مورغان باسم يوسف فيما بعد، فقد كان يعلم أنه يستضيف شخصية لها تأثير عند الرأي العام الأميركي ولكنه بلا شك تفاجأ بمدى هذا التأثير، فثمل منتشياً بالنتيجة، وبالتحديد بما حصده من الـ«ريتش» العربي!
من هذه الزاوية تحديداً، نستطيع أن نقارب حالة بيرس مورغان مع الفيلم السايكوباثي المرعب «Night crawler»، وأن نقارب بيرس مورغان مع «لو بلوم» بطل هذا الفيلم. فاللقاء الذي جمع بيرس مورغان مع شخصية تجيد لفت الانتباه كباسم يوسف الذي لا يتوانى في كل مناسبة عن خلق «جملة دامغة» (Catchphrase) تجذب انتباه العرب كلما شعر أنهم نسوه، مثلما حدث قبل سنوات حينما شتم في حفلة لتكريمه قائلاً: «يا ولاد الوسخة»، والتي أصبحت «ميم» شائعة لفترةٍ قبل أن تختفي مع صاحبها، يبقى وكأنه مشهداً من ذلك الفيلم. ففي تلك الحلقة كان باسم يوسف وفياً لعادته في خلق كلمةٍ أخاذة، هكذا بات مصطلح: «أحا عبط إحنا بقى» والتي أحالها على «جملة دامغة» أخرى كان يستخدمها أثناء تسيّده المشهد الإعلامي في مصر بكلمة «آحا» ولكن صامتة تفهم بالتواطؤ «عُبط إحنا يا عصام». في يومين حققت حلقة باسم يوسف مع بيرس مورغان أرقاماً قياسية. أصبحت الحلقة الأكثر مشاهدة لبرنامج بيرس مورغان، وقد حددا موعداً للقاء آخر سيجمعهما عما قريب. لكن بيرس مورغان لم يتوقف عند باسم يوسف، ومهمته الإعلامية لم تنته عنده، فبينما أحدثت مواجهة الفتاة رحمة زين مع مذيعة سي.إن.إن تأثيراً إعلامياً كبيراً، فتح بيرس ذراعيه أمام زين ليستضيفها في برنامجه، مراهناً على عشرات الملايين من المشاهدات التي ستحدثها حلقته في الوطن العربي، ليصبح بيرس مورغان الشخصية الثالثة في هذه الحرب بعد أبو عبيدة ونتنياهو، والشخصية الأولى في المجال الإعلامي.

إن لم يكن هناك خبر، سأصنعه
يستمتع مورغان باستضافة أشخاص مثل باسم يوسف وقبله أندرو تيت وفي القريب سيستضيف جوردن بيترسون. فصناعة القنبلة المتفجّرة عبر مهامه الإعلامية كانت دوماً من هواياته بل من اختصاصه. فبيرس مورغان دائماً ما كان قادراً على صناعة الحدث منذ أن كان صحافياً يعمل كمحررٍ أساسيّ في الدايلي ميرور، أي قبل سنوات عديدة من امتهانه الإعلام التلفزيوني.
في فيلم «Nightcrawler» حقق «لو بلوم» ذاته عبر قدرته على التسلّق إلى أماكن لا يستطيع أحد الوصول إليها وبراعته في تصوير الجريمة. ذاك التسلل إلى أماكن نائية وخطيرة سيصنع من «لو بلووم» صحافياً متجرّداً من إنسانيته. سيرى «لو بلوم» أحداً يموت أمامه لكنه لن يقوم بإنقاذه لأنه منشغل بتصوير لحظاته الأخيرة قبل الموت. وفي بعض الأحيان، سيلعب «لو بلوم» في مسرح الجريمة ليصنع حدثاً، وليستقي خبراً يسنده إلى حقائق يخلقها بنفسه. هذا ما صنعه بيرس مورغان سابقاً، في الفضيحة المدوية التي أذاعها، والتي جعلته فجأة بطلاً لمناهضة الحرب على العراق.
كلنا يعلم حقيقة ما جرى في سجن «أبو غريب»، وجميعنا رأى صوراً مسربة للجنود الأميركيين الذي يستمتعون بتعذيب السجناء العراقيين، وممارستهم لأقصى درجات الوحشية السادية بحقهم. لم تكن تلك الصور مزيفة، كانت حقيقة فاقعة، وسلسلة من الأحداث توالت بناءً عليها. وفي بريطانيا، كان بيرس مورغان يعمل كرئيس تحرير للديلي ميرور، وكان أصغر شخص يتسلم هذا المنصب، فللرجل موهبة رائعة كإعلامي «قمَّام» يتعقب حياة المشاهير، وقد صقلته إمبراطورية روبرت مردوخ وأوصلته بسرعة إلى موقعه ذاك. أراد مورغان أن يصنع نسخة بريطانية موازية للنسخة الأميركية عن سجن «أبو غريب». فقام بتسريب صور مزيفة ادعى أنها لجنود بريطانيين يقومون بتعذيب الجنود العراقيين. وبناءً على فبركته تلك، طرد مورغان من الصحيفة، وبناءً عليه أيضاً، اشتهر مورغان بأنه «ضحية الرقابة» المفروضة على كل من يناهض الحرب على العراق. هكذا إذاً، صنع الرجل أسطورته من صور مزيفة. فقبل برنامجه الحالي على «Talk Tv» والذي يذاع في أميركا كما في بريطانيا وأستراليا، كان لمورغان تجربته على محطة سي.إن.إن بعد أن خلف الإعلامي الشهير لاري كينج، وكانت تجربته التي استمرت لثلاث سنوات سيئة للغاية وتكرست بإلغاء المحطة لبرنامجه.
أغلب الأميركيين الذين يتبجّحون بانتمائهم إلى الـ«رجل الأبيض» يقتنعون بأن امتلاك السلاح هو «حق إلهي مقدس» لا يمكن المساس به. بالنسبة إلى هذا المواطن الأميركي، فإنّ طريقة تفكيره مستمدة من ذهنية أسلافه، المهاجرون المستعمِرون، الذين حطوا رحالهم على أرضٍ غريبة، وهم في حالة تأهبٍ دائم لأي خطرٍ وتهديدٍ سيأتي إليهم في الليل من قبل السكان الأصليين. يراودهم هاجس انتقام السكان الأصليين، وهم مسكونون بالخوف من أن تقتحم «مستوطناتهم»، لذلك يشكل السلاح «حلاً» بالنسبة إليهم، أو بالأحرى إن السلاح هو الضامن الوحيد لسلامتهم. وقد تكرس هذا الخوف في حالة «المطاردة» التي جرت مع العبيد الزنوج المتمردين. وتطوّر الحق في حمل السلاح حتى بات شكلاً لثقافة المليشيات المحلية التي لا زالت موجودة وتؤدي مهامها إلى جانب أجهزة الشرطة وتقوم بوظيفة حفظ الأمن. وعلى مدار سنوات جحاف، إذ الفتور طاف على برنامجه، قرر مورغان أن يطرح قضية إعلامية تستهدف الحد من إصدار ترخيص حمل السلاح للأميركيين، واستطاع عبر تلك القضية أن يخلق جدلاً كبيراً، وهو ما تمناه وهذا ما كان بوارده، ولكن في النهاية فقد أطيح ببرنامجه الذي كان يعرض على سي.إن.إن بعد حملة كبيرة جاءت ضده حيث رفعت عريضة وقع عليها أكثر من مائة ألف شخص دعت البيت الأبيض إلى ترحيل بيرس مورغان من البلاد!
يسعى بيرس مورغان دائماً لخلق «حالة»، هالة ما تحيط بالحدث. ولو كان أسامة بن لادن على قيد الحياة لحلّ ضيفاً عنده. تراود بيرس مورغان أحلاماً كبيرة حول تحقيق ثروة هائلة عبر الإعلام الأميركي، فيجهد إلى خلق برامج من نفس النوعية التي سبق أن قدّمها قبله كلٌّ من بيل أورايلي وشون هانيتي وغيرهم. يبدو الرجل مهووساً بالثروة والشهرة حتى أنه يقدّم في بعض المرات أرقاماً مزيفة عن ثروته وأرقام مشاهداته.
سيسعى مورغان إلى تحقيق كل ما هو مطلوب من أجل مضاعفة ثروته. كتب مقالاً في عام 2008 عن كريستيانو رونالدو بعنوان: «رونالدو مجرد طفل مدلل، لماذا علينا تشجيعه؟» ثم في عام 2022 استضاف رونالدو بعد خروجه من نادي مانشستير يونايتد، وصنع حلقة تاريخية،إذ استطاع استخراج العديد من التصريحات الحادة والصدامية من كريستيانو. ولا يبدو موقفه مع اللاعب رونالدو مختلفاً كثيراً عن موقفه السابق مع الرئيس دونالد ترامب الذي كان صديقاً شخصياً له، وسبق وحاوره عندما كان رئيساً للجمهورية، وعند نهاية حقبته الرئاسية التي انتهت باقتحام مبنى الكابيتول كتب مورغان «إن هذا الرجل ليس مؤهلاً عقلياً على الإطلاق ليكون رئيساً!».
بينما يظن البعض أنه من الضروري والمفيد استغلال ميكروفون بيرس مورغان للتعريف عن القضية الفلسطينية بلغة المستعمَر، وجب علينا التنبه إلى أن بيرس مورغان لا يرى حقيقة في ضيوفه المتحمسين إلى فلسطين والمدافعين عنها، سوى عناصر في مشهد وأشخاص لهم أدوار في إنجاح برنامجه الذي يعرضه للمُتفرج الغربي البعيد عن صوت القنابل والصواريخ، في فقرة تحت عنوان: «انظر إليهم، إنهم قرود، ورغم ذلك يستطيعون الرقص!».