تقف كاميرا المصوّر الصحافي ربيع المعماري بثباتٍ، متسمّرة في مكانها رغم الاغتيال الذي تعرضت له. العدسة مصوّبة على المسرح الذي تصوّره غير آبهة بالنيران المشتعلة المنبعثة من الكاميرا نفسها. كأن المسألة هي مسألة وقت مع ذاك الذي يُصوّر، وأنّ العين بالعين والانتقام قادم لا محالة.لم يخطف الموت ربيع المعماري وزملاءه فرح عمر وحسين عقيل، بل قتلتهم إسرائيل بغارةٍ جوية استهدفتهم في جنوب لبنان، ليلتحقوا على إثرها بقافلة الشهداء الذين يبقون حاضرين رغم غيابهم. حتى كتابة هذه السطور، أكثر من ستين صحافياً قد استشهدوا جراء المجزرة الطويلة التي تمعن فيها إسرائيل بحقّ غزّة وكل من يقف إلى جانبها. وأثناء كتابة ما نكتبه الآن، أفاد الخبر العاجل الذي ورد للتوّ باستشهاد الصحافية الفلسطينية أمل زهد برفقة عائلتها جراء قنبلة سقطت من السماء وسوّت منزلها والأرض. قتل، قتل، قتل. التخصص بالقتل. القتل كإختصاص ستفتح له جامعات العالم أبوابها، مؤشرات العصر وأسهم وول ستريت جميعها تدلّ بأنه بات مهنة العصر.

(تصميم: هاشم رسلان)

قُتلَ ربيع المعماري مع أصدقائه قبل البث المباشر بقليل. كانوا يتحضّرون لنقل الصورة المزدوجة التي تشكّل المشهد. الصورة التي نواكبها متربّصين، منذ السابع من أكتوبر، أمام التلفاز. قنابل عنقودية ترمى على الأحراش مصحوبة بقصف عشوائي غايته القتل، مقابل صواريخ موجّهة على مراكز عسكرية في أراضٍ محتلة. كانت كاميرا ربيع المعماري شفافة تجاه الحدث، تنقل فعل الجريمة وفعل البطولة ولا تصنعهما مثلما يفعل المتسائلون عن سبب تواجده مع أصدقائه في جنوب لبنان (يبقى أنّ طبيعة السؤال استنكارية، وكل تنديد بتواجد ربيع المعماري وأصدقائه في تلك المنطقة هو دعوة للتخلي عن الأرض).
في إحدى مقالات هذا العدد، يكتب رياض ملحم عن خواء معنى إسرائيل، أو عن «لا معناها»، كون أيديولوجيا الاحتلال مُستمَدّة من أساطير واهية، من تصوراتٍ لا من معطيات، فهي بالتالي ضد كلّ حقيقة أي ضد كل واقع. ولأنها كذلك، فكل صورة غير هوليوودية تُزجّ تلقائياً في خانة الاستهداف.
قُتلت كاميرا ربيع المعماري لأنها تنير حقيقة ما يجري، في الوقت الذي يصرّ الاحتلال على ارتكاب مجازره بالسرّ، في العتمة، من دون أن يراه أحد. في هذه الحرب الضارية التي راح ضحيّتها كثير من الصحافيّين، راجت مقولة تفيد بأنّ الصحافي الذي قتلته إسرائيل «كان ينقل الخبر، فبات هو الخبر». لكن استشهاد ربيع المعماري وأصدقائه ينوّهنا أن القصة أبعد من كونها خبراً بل تعود إلى المبتدأ، إلى البدء. ذلك أن الاستشهاد هنا يعيدنا إلى ما يقرّ به معنى الشهادة في اللغة. فالشهيد هو الشاهد على الظلم، الذي يشهد على الانحراف الذي يأخذه الحضور. إذاً ليس قتل الكاميرا انتفاء المشهد ولا موته، بل نقله من حيّز الفرجة إلى حالة الانغماس. إنه خروج الشاشة عن طورها والتورّط بشبحية القتل الذي لا يُنقل لنا كحدثٍ، بل كتهديدٍ يطاردنا. قتل ربيع المعماري وأصدقائه يعني أننا لم نعد مشاهدين بل شهوداً. هكذا، يستشهد المصور وأصدقاؤه الصحافيّون فداءً لموقفٍ صارمٍ يشترط التمييز بين الفرجة والتماهي، بين أن تكون شاهداً لا مشاهداً. ماذا يقول لنا هذا الموقف الصارم يا ترى؟ يقول إنّ استشهادهم هذا هو بمنزلة بلاغٍ. الشهداء لم يعودوا وسطاء ينقلون المشهد ويبثّونه، بل دلائل على أنّ كل ما يخرج عن التزوير والصور الزائغة يلقى حتفه. ومن ضمن ما جاء في هذا البلاغ، كان ضرورة تبليغنا، بالقتل، القتل، القتل. القتل الذي يطارد فلسطين ومن يشهد على قتلها. لذلك علينا صياغة خبر استشهادهم من جديد تحت عنوان: «شهداء الشهود».