بدأت رحلتي مع الكتابة في السنة الثالثة من مشواري الجامعي، ومنذ ذلك الوقت وشعورٌ بعدم الرضى يصيبني كلّما مرّت مدة طويلة لا أكتب فيها شيئاً. هناك وخزة ضمير أشعر بها جرّاء عدم قدرتي على إيجاد روتين معيّن يسمح لي التوفيق بين الحياة العملية بكامل ضجيجها وبين طموحي الأدبي. في مرحلةٍ سابقة، كنت أنظر بسذاجة البدايات، إلى كاتبٍ مثل نجيب محفوظ الذي يحضر تلقائياً إلى ذهن كل شخص مهجوس بخلق مساره الأدبي، وكنت أتمنى لو أني أتمتّع بالنظام الصارم الذي عرفه محفوظ، ولكن هيهات.في تلك المدة، تعاملت مع الكتابة مثل لعبةٍ يلجأ إليها الطفل وقتما يشاء. كنت واقعاً في وهم الإلهام؛ في ذلك الفخ الذي يبرر الكتابة المتقطّعة التي تنصاع للمزاج، قبل أن أدرك أن الكتابة كصنعة تشترط الجلوس أمام صفحة بيضاء ثم الدخول في حالة من الصراع حتى تولد الأفكار والكلمات. غير أنني أنظر الآن إلى تلك المدة كمرحلة مضت. أحاول اليوم أن أتعامل بجدية أكثر في ما يتعلق بممارسة الكتابة، ولتمرين اليد حتى تصير مع الوقت أكثر مرونة. بالتزامن مع هذه الاستنتاجات، وجدت نفسي في لحظةٍ مفصلية، في مفترق طرق سيجبرني عاجلاً أو آجلاً على الاختيار. ففي الوقت الذي أصبح طموحي في الكتابة الأدبية لا يخمد، وجدت نفسي على شفير الخروج إلى سوق العمل وعالم الوظيفة. كلما خطر إلى ذهني هاجس الوظيفة والعمل، أتخيل الحياة تخرج لي لسانها وتسخر من كومة الكتب المتراصة فوق مكتبي ومحاولاتي الكتابية.

كابتن مورو ورفاقه
في كتابه «خلوة الغلبان»، يكتب إبراهيم أصلان ما يشبه بورتريهات لعدد من الكتّاب الذين صنعوا مجتمعاً ثقافياً هامشياً. يكشف بكتابته عن الوجه الآخر الخفي لهؤلاء الكتّاب، وعن محطات حياتهم الأكثر قسوة التي أتيح لأصلان معاينتها من كثب بحكم معايشته لهم. هناك حضور طاغٍ للمصير المأساوي الذي آلت إليه حياة هؤلاء الكتّاب. يحكي أصلان عن زيارة قام بها برفقة صديقه محمد حافظ رجب لمنزل الكاتب عبد المعطي المسيري. هذه الزيارة أصابت أصلان بشيء من الارتباك بسبب ضيق العيش وحالة الحصار التي فرضت نفسها على الجو العام أثناء تلك الزيارة. امتدّ هذا الضيق، بمفهومه المادي، إلى المكان الذي كان المسيري يتحرك فيه من دون جدوى، إذ كان يعود إلى الجلوس كلما تحرّك كمن ارتضى بمصيره.

«بدون عنوان»، فريدريش زايدنستوكر

لم يكرر أصلان تلك الزيارة أبداً، ليس بسبب الظروف المعيشية الصعبة للمسيري التي لم تكن غريبة عن أصلان ولكن لأن المسيري وقتها كان بالنسبة إلى أصلان تجسيداً لمصير حتميّ سيلاقيه من دون إرادة منه إن أخذ قرار المسيري نفسه، أي أن يأخذ من الكتابة مساراً حيويّاً، في وقت كان قلب أصلان يخفق بأحلام الكتابة والنشر. في لقاء حصل بالمصدافة في أحد الشوارع، سأل المسيري أصلان إن كان مستمراً في الكتابة أم توقف، وفي ذلك الحين أدرك المسيري ماذا يدور في ذهن الشاب، فنظر إلى عينيه بغضب وقال «أنا مش مقياس، فاهم؟»
هذا المصير الذي رآه أصلان في شخص المسيري، دائماً يستدعي إلى ذهني شخصية كابتن مورو في فيلم «الحريف» للمخرج محمد خان. في كل مرة أشاهد فيها فيلم «الحريف»، أحاول أن أتخلص من الحضور الطاغي لعادل إمام، وأتأمّل شخصية كابتن مورو التي أدّاها الفنان عدوي غيث بصدق لافت. ربما يجسّد كابتن مورو بشكل ما، المستقبل الغارق في القتامة والمصير الكئيب، مثلما كان يخشى فارس أن يلتهم هذا السخام مستقبله هو وأسرته في حال لم يتخلَّ عن فروسيته ولم يرضخ للمتطلبات المادّية التي يفرضها عصره.
كابتن مورو في رأيي هو المعادل السينمائي لنموذج مثل عبد المعطي المسيري الذي تحدّث عنه أصلان في «خلوة الغلبان». ينسى المجتمع هذه النماذج أو يتناساها، فيما الحياة ضربت رومنسيتهم بعرض الحائط وحالت دون وصولهم إلى شيء. زهرة شبابهم أصبحت في نظرهم تراباً بعد أن بلغوا أرذل العمر، وربما لهذا السبب أصبح كابتن مورو المشجع الأهم لفارس في ماتش الوداع، حيث أراد كابتن مورو أن يظفر فارس بفوز أخير في معركتهم غير المتكافئة ضد أكثر أشكال الحياة مرارة، ليختم بهذا الفوز حكاية أخرى، وليرثيه بها كما يليق بأبطال الأساطير، هذه الحكاية ستحتلّ مكاناً جديداً ضمن حكايات كابتن مورو الذي أنبأنا منذ البداية، ولو ضمنياً، بأن زمن اللعب قد ولّى.

سيرة ذاتية موجزة
رغم أحلام الكتابة والنشر التي تلهب القلب، إلّا أنّ هناك دائماً صوتاً داخلياً خفيضاً يشجع على الانخراط في الحياة اليومية بشروطها المادية وغير المادية. هموم النظام الصحي بحكم عملي كصيدلي، خطط المستقبل التي تراوح بين مغادرة منطقة الصعيد والعمل في العاصمة، وحلم الهجرة إلى الخارج، كلها أمور لها حضور واضح في الأحاديث اليومية. هذه الذات التي ولدت بفعل الانخراط وسط جماعة، تنمو بالتوازي مع ذات أخرى لها سمة الفردانية، تحمل جزءاً حميماً داخلياً، ولكنني استطعت مع الوقت خلق توازن بينهما. أنتمي إلى جيل أتاح له الإنترنت فرصة للاطلاع والكتابة. صنعنا أنا وأصدقائي مجتمعاً صغيراً نشأ عنه مشهد ثقافي جديد بعد أعوام من الركود والتحلل. أصبحنا ديدان كتب، نقرأ الرواية والقصة ونكتب مقالات نقدية في الفن والأدب. تضمنت أحاديثنا اليومية مناقشات حادة في الثقافة بشكل عام، وفي الوقت نفسه كنا نخشى المصير الذي ينتظرنا في حال أذعنّا لطموحاتنا الشخصية؛ طموحاتنا التي لا تأبه لمتطلبات العيش وماديّة الحياة ولكن حكايات الآخرين وسيَرهم تخبرنا عن قساوة تلك الطريق.
هناك يقين ضمني بأن إيقاع الحياة السريع سينتزع مع الوقت هذا الجزء الحميم، والوجود الأصيل لذواتنا فيصبح وجودنا شبحياً. ربما ما ساعدني على إيجاد توازن بين متطلّبات العيش والطموح الشغوف، هو وجود صدى، مهما كان خجولاً للذات الثقافية في الحياة الواقعية، عبر عدد قليل من أصدقاء الجامعة الذين شاركوني الاهتمامات والهموم الثقافية نفسها. سكن الطلبة كان أشبه بصومعة، كنا نتبادل الأفلام ونتحدث لساعات متواصلة عن آخر الأفلام التي شاهدناها وأهم الروايات التي قرأناها. هذه الأحاديث هي الرابط الذي بدأت به صداقتنا، وقد صنعنا مشهداً مغايراً عن أجواء الأسر الطالبية التي حصرت نفسها داخل شرنقة الدراسة. كنا نشعر كأننا أعضاء في فيلم «مجتمع الشعراء الموتى».
في الصباح كنت أحضر محاضرات علمية حول آلية عمل أدوية الجهاز الهضمي ومجموعة أدوية ضغط الدم المرتفع، وفي المساء، كنت أذهب إلى المقهى وأتبادل أطراف الحديث وسط سحائب الدخان مع بعض الأصدقاء، نتكلم عن تيار الواقعية الجديدة في الثمانينات والحركة الأدبية لجيل الستينيات، ومع الوقت أصبحت أعيش تلك الحالة التي أسمتها مارجريت أتوود في كتابها «مفاوضات مع الموتى» بـ«الذات المزدوجة».


الكتابة كبديل للذاكرة
تتيح الكتابة في أكثر صورها بساطة محاولة للتخلص من تراكم الانفعالات المعتملة بداخلي، كأنّ فعل الكتابة يزيل الطبقة المترهلة من النفس ليُحلّ مكانها شعوراً بالحيوية والنشاط.
يمكن الرجوع للنصوص المكتوبة كونها توثيقاً للبشر والأماكن، أو أرشيفاً شخصياً لكاتبها، كأن الكاتب مع تدفق الكلمات المُنسابة يحمّلها جزءاً منه، هو الجزء الأكثر أصالة منه. وربما يكون في إمكانه عندما يأخذ مسافة زمنية للتأمل في كتابته، وأن يفتح حواراً مع نفسه، ويعيد التعرّف إليها بشكل أفضل.
في فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» للمخرج داود عبد السيد، ظل المواطن كمال سليم مأزوماً حتى النهاية رغم النجاح الذي حققه كروائي، ولكن هاجس الرواية المحترقة سيطر عليه حتى النهاية. كان يظن أن هذه الرواية هي أفضل ما كتب. هذه الرواية هي الجزء الحقيقي والأصيل من وجوده، وبحرق الحرامي شريف المرجوشي لها، موت أشبه بقتل لجزء حميم من المواطن، وليس غريباً أن تسفر صداقتهما بعد ذلك عن مشهد ثقافي مزيف ومشوه.
تتجلى أهمية الكتابة في هذا الإنعاش والمؤانسة للذاكرة التي تتحصن ضد النسيان بفعل الكتابة، أو كما يقول علاء خالد في مفتتح كتابه «وجوه إسكندرية»، إنه أراد أن يكون الكتاب ذاكرة بديلة لمدينة الإسكندرية التي عرفها وترعرع فيها، كي يصون مدينته من النسيان.