ربى أبو عموبعيداً عن الأزمات السياسيّة الشتّى، يبدو لافتاً أن تُنشئ أزمة «اللحوم» عازلاً حقيقياً أمام تودّد العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي. خلال الأسبوعين الماضيين، حظرت روسيا استيراد لحم الخنزير والدواجن من بلجيكا وهنغاريا وألمانيا والدنمارك وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا، لعدم استئصال المضادات الحيوية منها، الأمر الذي لا تبيحه المعايير الروسية. وقضية اللحوم هي جزء بسيط من العلاقة الشائكة التي تربط روسيا بالاتحاد الأوروبي، ولا سيما أن وزراء خارجية الاتحاد فشلوا في اجتماعهم الأخير في بروكسيل في الاتفاق على آلية لتحسين علاقتهم مع موسكو، بسبب اعتراضات تقدمت بها ليتوانيا، أكبر دول البلطيق، وإحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، مشترطة على روسيا تحسين علاقاتها مع جيرانها المباشرين، وخصوصاً جورجيا، ومد خط أنابيب للغاز إلى مصفاتها.
العلاقة بين روسيا والاتحاد الأوروبي قامت خلال السنوات العشر الأخيرة على اتفاقية الشراكة والتعاون التي مُدِّدَت تلقائياً لمدة عام واحد في العام الماضي. رغم وعي كلا الجانبين لضرورة صياغة اتفاقية جديدة تعكس مستجدات العصر، التي فشلت المفاوضات بين الجانبين حتى الآن في بلورتها.
بدأت العلاقة بين موسكو والاتحاد بالتدهور في المرحلة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، حين أقدمت الأولى على غزو الشيشان. رأى الاتحاد الأوروبي في خطوة روسيا انتهاكاً لحقوق الإنسان. إلاّ أن موسكو عادت وتمكنت من تبرير فعلتها من خلال استغلالها لأحداث 11 أيلول في الولايات المتحدة، والحملة على الإرهاب، لإمرار حرب ثانية على الشيشان تحت هذا العنوان.
في هذا الوقت، لمست روسيا نيّة الاتحاد بضم بعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ودول البلطيق. لكنّ الخلاف بين روسيا ودول الاتحاد والبلطيق على معالجة قضايا الأقليات، أسهم في رسم علاقة متوترة بين الجانبين.
انسحب الخلاف على أمور عديدة. ليس أولها رفض روسيا تصدير اللحوم البولندية إليها، وإصرار الغرب ودعم الاتحاد الأوروبي على استقلال إقليم كوسوفو، هذا بالإضافة إلى التوتر المتصاعد بين جورجيا (الحليفة للغرب) وموسكو، واحتمال نشوب خلاف عسكري بين الدولتين بسبب الاختلاف على الإقليمين الانفصاليين، أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، والدرع الصاروخية الأميركية وغيرها من الأمور.
في المقابل، لا يمكن الاستهانة بالموقف الروسي القوي المتمثّل في قدرة روسيا على التحكّم بإمدادات النفط والغاز إلى أوروبا، وخصوصاً من خلال إنشائها «خط الغاز الجنوبي»، الذي يمرّ عبره جزء من خط الأنابيب الروسي لنقل الغاز الطبيعي من جنوب روسيا إلى جنوب أوروبا، عبر الأراضي البلغارية، وفشل مشروع «نابوكو» الغربي حتى الآن، الذي يحاول تجنب روسيا، ونقل الغاز إلى أوروبا من إيران وأذربيجان من طريق تركيا وجنوب القوقاز.
يبدو من البديهي اليوم سعي الاتحاد الأوروبي إلى احتواء روسيا ضمن «شراكة استراتيجية»، في ظلّ إدراكه الحاجة الملحة إلى مستثمرين وخبراء أجانب، بهدف تطوير احتياطاتها من الغاز، هذا عدا التداول التجاري القوي بين روسيا والدول الأوروبية، وخصوصاً منذ عام 2000. واليوم، تبلغ حصة الاتحاد الأوروبي 53 في المئة من التجارة الخارجية الروسية، و70 في المئة من حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في موسكو. كما احتلّت روسيا المرتبة الثالثة بين أكبر شركاء أوروبا التجاريين بعد الولايات المتحدة والصين.
إذاً، لا تخرج قضية اللحوم عن كونها مجرّد «بهارات» للأزمات الحقيقية. ويدرك الجانبان، روسيا والاتحاد الأوروبي، أن الاصطفاف مجدداً خلف صفحات الحرب الباردة، لن يجدي نفعاً. فالتعويل على تكريس النزاعات في القارة الأوروبية، لحلحلة الملفات الخلافية بين الجانبين، سيكون له أثر كارثي. لذا يبدو أن الفريقين اختارا اللعب على التلوين الخطابي، على غرار الأسلوب الذي ميّز الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات «فاوض فاوض، قاتل قاتل».