strong>
  • الحلم الذي تحوّل واقعاً
  • قارة تصارع لإثبات عظمتها
  • عقبات... ومتاعب
  • دستور أوروبا: «الأمر لي»؟!
  • عندما أدركت أوروبا المخاطر الشرق أوسطية
  • برلين تحيي الذكرى: فرح ... ولا مبالاة

    نصف قرن على الاتحاد، حققت خلاله الدول الأوروبية خطوات جبّارة نحو السلم والأمن والازدهار. لكنها لا تزال بعيدة عن «الوحدة»، التي يحول دونها تنافس في الداخل وصراع مع الخارج، بالإضافة إلى اختلافات في الرأي وانقسام حول انضمام بعض الدول الجديدة، وخصوصاً تركيا


    وحدة في التنوّع... ودعمٌ للبنان
    ماريوس هاس، باتريك لوران
    احتفل الاتّحاد الأوروبي أمس بالعيد الخمسين للمؤسّسات التابعة له، والتي تشكّل الركن الأساس في تكوينه.
    فما بدأ كمجموعة اقتصادية من 6 دول عام 1975، أصبح يحوي اليوم 27 دولة أوروبيّة و490 مليون مواطن، ويُعنى بشؤون التجارة والاقتصاد، والأمن والسياسة الخارجيّة، وإدارة الأزمات، والشؤون القضائية والأمور الداخلية الأوروبية، إضافة إلى السياسة الاجتماعيّة والهجرة.
    يمتدّ الاتّحاد الأوروبي الآن من لشبونة إلى لارنكا، أي من الدائرة القطبيّة وحتّى بحر إيجه، ويوحّد أمماً وأقاليم كانت في الماضي القريب تخوض معارك في ما بينها، أو تمارس العزلة الاقتصاديّة، أو كانت عرضةً لسلطة الديكتاتوريّات و«مفهوم الدولة الزبائنيّة».
    أمّا اليوم، فإنّ حلّ الخلافات بين تلك الدول يتمّ عبر الحوار والمفاوضات في كنف المؤسّسات الأوروبيّة، التي فوّضت إليها الدول الـ27 الأعضاء بعضاً من سيادتها. وقد برز الاتحاد الأوروبي في ما بعد كقوّة تجاريّة كونيّة، وعنصر مؤثّر في السياسة الدوليّة ولاعب رائد في مجال حماية البيئة. إن السلام والازدهار، اللذين ينعم بهما الاتحاد الأوروبي، تدعمهما أسواق مفتوحة ومندمجة، وتعاون ناجح بين القوميّات الأوروبيّة في قضايا المصالح المشتركة، إضافةً إلى إيلاء الأهميّة للتطوّر المتوازن والمتناسب اجتماعيّاً مع الأقاليم المختلفة. وكلّ ذلك يرتكز على «حكم القانون» والمؤسّسات المستقرّة والمحترمة، إلى جانب قيم الديموقراطيّة المشتركة واحترام حقوق الإنسان، والحريّة والعدالة الاجتماعيّة.
    نثرت أولى بذور العلاقات بين لبنان والاتّحاد الأوروبي عام 1978، ومنذ ذلك الحين، دعم «الاتّحاد» لبنان عبر اتّفاقات تعاون، نشأت على إثرها علاقة مُتّنت من خلال الشراكة الأوروبيّة ــ المتوسّطيّة، وإبرام اتّفاق الشراكة عام 2002.
    توجّه «سياسة الجوار الأوروبّي» اليوم، العلاقات بين «الاتّحاد» ولبنان، ويسعى من خلالها الاتحاد إلى مساعدة هذا البلد على بناء دولة قادرة على مقاربة الاختلاف الاجتماعي الواضح فيه، وتوسيع رقعة سيادته على أراضيه، وتأمين الاستقرار والأمن لسكانه كافة.
    ولهذا السبب أيضاً، يوكّد «الاتّحاد» على أهميّة تعاون السياسيّين والجمعيات اللبنانيّة، لتخطي مشكلة الفوارق الاجتماعية والسياسية التي تشلّ معظم المؤسّسات في لبنان، فيسعى الاتحاد بدوره الى بلورة قواعد مشتركة معهم على أساس الحوار والثقة المتبادلة.
    وبصفته جاراً مباشراً وشريكاً مقرّباً، يبدي الاتّحاد الأوروبّي استعداده لإلقاء كلّ ثقله في دعم الجهود اللبنانية المبذولة لإيجاد حلّ للأزمة الراهنة عبر الحوار والتعاون.
    • ماريوس هاس: سفير ألمانيا في لبنان. ترأس بلاده حالياً مجلس الاتحاد الأوروبي
    • باتريك لوران: رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى بيروت




    العائلة الأوروبية
    أن نعيش معاً من دون أن ننسى جذورنا أو نفقد خصائصنا: هذا ما شكّل التحدّي الأكبر في وجه تشييد بنية أوروبية موحّدة، والذي لا تزال تتخلله عقبات يجب اجتيازها. تعود جذور فكرة الاتحاد الأوروبي الى حقبةٍ تتالت فيها الحروب، وخاصة الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما رافقهما من حقد وإذلال. فهل كان بامكاننا أن نتخيّل أن يقرّر شاب ألماني، بُعيد الحرب، متابعة دراسته في فرنسا أو أن ينتقل بريطاني للعيش في إيطاليا؟ طبعاً لا. ولكن على الرغم من ذلك، كان لدى المواطنين دائماً عزم كبير على عدم تكرار تجربة الحرب وإرادة صلبة للتعايش في ما بينهم. كيف يمكن إذاً أن نجمع تحت سقفٍ واحد دولاً ذات حضارات متباعدة، وذاكرات متألّمة وهويّات وطنية عميقة الجذور؟
    يعود وضع الحجر الأساس في بيت أوروبا الى المتبصّرين من رجال الدولة، الذين أدركوا الأهمية الاستراتيجية لجمع دولتي فرنسا وألمانيا، والذين تنبّهوا أيضاً للصعوبات التي ستواجههم لجهة إقناع الرأي العام. وقد أنشأوا، لبناء هذا التقارب الأوروبي، «المجموعة الاقتصادية للفحم والفولاذ» (CECA) في 18 نيسان 1951. وبهذا، فقد شكّل توحيد «الصالح العام» الأساس في البناء الأوروبي، وفي الأسلوب الجماعي، الذي بقي المحرّك الأساسي في سياستنا.
    محور سياسة الاتحاد
    أسّست اتفاقيات روما، التي وقّعت في 25 آذار 1957 في مبنى الكابيتول في العاصمة الإيطالية، ماعُرف بـ«الجمعية الاقتصادية الأوروبية» ،(CCE) التي تسمّى أيضاً «السوق المشتركة»، كما أسّست «المجموعة الأوروبية للطاقة الذرية» (Euratom) وهذا ما كوّن عائلة أوروبا. ما هي هذه العائلة إذاً؟ إن الاتحاد الأوروبي ليس دولة تحلّ محلّ الدول القائمة. وهو ليس منظمة تعاون دولي.
    هو اتحاد فريد من نوعه، لأنه يجمع دولاً ديموقراطية قررت أن تعمل من أجل السلام والازدهار. وبهدف العمل وتسهيل اتخاذ القرارات، وضعت الدول الأعضاء دساتير مشتركة، تعهد بجزء من سيادتها إليها، لتسمح باتخاذ قرارات تتعلّق بأمور خاصة تصبّ في المصلحة العامة، بطريقة ديموقراطية على الصعيد الأوروبي ككلّ.
    وبعد 50 عاماً على تأسيسه، يمكن الاتحاد الأوروبي أن يحتفل بالكثير من الإنجازات. أولاً، بعدم وجود أي نزاع بين الدول المنضوية تحت لوائه، وهذه سابقة في التاريخ.
    وقد كان لتوسّع الاتحاد من 6 الى 27 دولة (أي حوالى 490 مليون مواطن) إضافة الى توحيد هذه الدول، دوراً كبيراً في تحقيق تلك الإنجازات. كما أصبح الاتحاد الأوروبي اليوم محرّكاً للسلام في العالم.
    مكنت القواعد التي تقوم عليها القيم المشتركة بين دول الاتحاد، كالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، الأوروبيين من التنقّل بسهولة وحرّية في محيط لم تعد الحدود الجغرافية فيه تشكّل حواجز، إذ أصبح بإمكان الأوروبيين اليوم، أن يدرسوا، ويعملوا، ويعيشوا في أي بلد من بلدان الاتحاد الأوروبي، وذلك بالحدّ الأدنى من الترتيبات الإدارية، مستفيدين من المخصصات الاجتماعية والصحية على كامل أراضي الاتحاد. كما أصبح بإمكانهم أن يتنقلوا داخل الاتحاد من دون جوازات سفر.
    فسحة سلام
    على صعيد الازدهار، يتمتّع مواطنو الاتحاد الأوروبي بمستوى معيشي ومعايير حياة اجتماعية من بين الأرقى في العالم. وبسبب مكانته الاقتصادية، ودوره السياسي المتنامي، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يتحمّل أيضاً مسؤولياته على الصعيد الدولي ويترجمها في سياساته التجارية، والمساعدات والمحافظة على البيئة.
    أنشأ الاتحاد الأوروبي أيضاً، السوق الواحدة، وهي أكبر منطقة تبادل حرّ في العالم، كما وحّد العملة باليورو، التي باتت تتعامل بها أكثرية شعوب الاتحاد، كما حدّد معايير مشتركة للبيئة وحماية الانتاج، تعد هذه السوق مصدراً للنموّ والتوظيف، وهي السوق الوحيدة التي تمكّن الأوروبيين من الاستفادة من خيار واسع في المنتجات والخدمات وبأسعار تنافسية.
    لكن هذه المغامرة الأوروبية لا يمكن أن يكتب لها النجاح، من دون المشاركة في الخبرات والتعاون مع الشركاء. لأنّه في القرن الـ21، حيث يرتبط العالم أكثر فأكثر بالعلاقات التي تنشأ بين الدول حول العالم، لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يبقى محصوراً داخل حدوده متجاهلاً الصعوبات التي تعيشها البلدان المجاورة له.
    وقد نشأ من هذا المنطلق، عام 1995، ما يعرف بـ«الشراكة الأورو ـــــ متوسطية»، التي تجمع بين الدول الاعضاء في الاتحاد الأوروبي وجيرانها من بلدان البحر المتوسط. وقد تمّ اختيار هذه الشراكة وفقاً لواقع مفروض هو اعتبار أنّ سلام البعض وازدهاره مرتبطان حكماً بالاستقرار والازدهار عند الآخرين. وفي عام 2000، أكّدت «سياسة الجوار الأوروبية» هذا المبدأ الذي يدعّم تلك الشراكة. وتعد هذه السياسة المتّبعة من الاتحاد الأوروبي ردّ فعل طبيعياً لتوسّع الاتحاد بضمّ 10 دول جديدة إليه.
    والفكرة الأساس من هذه السياسة، هي أن يخلق الاتحاد مساحة استقرار وازدهار في الجنوب (شركاء المتوسّط) وفي الشرق (أوكــــــرانيا ومولدوفا). وستعتمد هذه العلاقات المميزة على ارتباط متبادل بالقيم المشتركة على صعيد الدولة والحقوق، والحكم الصالح، واحترام حقوق الانسان، ومحاربة الإرهاب، واحترام مبادئ اقتصاد السوق والنموّ المستدام.
    إنّ هذه الشراكة تمثّل خياراً استراتيجياً وسياسياً جوهرياً للدول المجاورة للاتحاد الأوروبي، بما فيها لبنان. وهي تدعو كل دولة الى أن تتخطى علاقتها بالاتحاد حدود التعاون الاقتصادي لتشمل لاحقاً توحيداً على المستوى السياسي والاقتصادي المبني على المشاركة في السوق الداخلية الأوروبية والمشاركة في الحياة السياسية للاتحاد الأوروبي.
    (بعثة المفوضية الأوروبية)




    الحلم الذي تحوّل إلى واقع
    القصة بدأت في باريس. في مقر البرلمان الفرنسي تحديداً. حلم استغرق عقوداً ليتحقق، ولو بشكل غير كامل. جلب الازدهار والرخاء لسكان القارة القديمة؛ أوروبا. لكن الأهم من ذلك، أغدق عليهم السلم والأمن، ووضع حداً للنزاعات الدامية التي عايشوها لقرون

    برلين ـ غسان أبو حمد
    «أنا أوروبا». عبارة ذكرها عمداً وزير الخارجية الفرنسي روبير شومان قبل أن ينقضي عام واحد على نهاية الحرب العالمية الثانية وإعلان هزيمة ألمانيا من دون شروط.. جملة بسيطة من كلمتين، كانت كافية لارتفاع صرخات الاحتجاج والصفير داخل قاعة البرلمان الفرنسيالصراخ النيابي تحوّل إلى عرائض احتجاج رفعتها الأحزاب الفرنسية تطالب بإقالة وزير الخارجية. بعضها وجّه إلى شومان تهمة «اللامبالاة بضحايا الحروب الدامية التي عاشتها القارّة الأوروبية وما خلّفته من خسائر بشرية ومادية» وبعضها الآخر تهمة «التخلّي عن الشعور الوطني الفرنسي»!.
    «أنا أوروبا».. سبق أن قالها ملوك فرنسا وقياصرة ألمانيا في نزاعاتهم الحدودية.. قالها الإمبراطور الفرنسي نابليون وبعده الفوهرر الألماني أدولف هتلر. كلّف تطبيقها المآسي والدّمار، ولا تزال معالم الحربين العالميتين في القرن الماضي دليلاً راسخاً على فظاعة الخلافات على الحدود وعلى «الهوية»..
    ومع ذلك، كررها شومان. أعلن «جنسيته الأوروبية الجديدة»، مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وقبل أن تضمد شعوب القارة جراحها، ليفتح بها موضوعاً أوروبياً ــــــ غير مستحّب ـــــ للنقاش، ومؤلم في ذاكرة العائلات. أدرك بذكائه الحاد أبعاد وقع هذه الجملة، فسارع إلى طرح السؤال المعاكس التالي: .. «أنا والدي بلجيكي ووالدتي ألمانية، درست الحقوق في مدينة بون ومارست مهنة المحاماة في برلين ونلت شهادة الدكتوراه من ستراسبورغ، وأنا اليوم نائب في البرلمان الفرنسي ووزير خارجية فرنسا.. فما هي جنسيتي؟». وقبل أن يسمع الجواب، سارع، بلغة فرنسية تشوبها لكنة ألمانية، إلى إضافة شروح زادت في تعقيد السؤال.
    قال: ولدت في منطقة (الألــــــــــزاس ــــــ لورين) على الحدود الألمانية ــــــ الفرنسية، وبالتالي خضعت جنسيتي في كل مرة للمنتصر في النزاع العسكري على ملكيتها.. فمن أكون؟!».. ووسط دهشة نواب البرلمان الفرنسي وذهولهم، أجاب شومان «أنا حصيلة مجموع هذه الجنسيات وأختارها جميعها بملء إرادتي وحريتي.. أنا أوروبا في نشأتي المنوّعة وجنسيتي الجديدة هي أوروبية، هذه هي هوّيتي الجديدة، أعلنها بحرّيتي واختياري».
    لم يكن شومان أول أوروبي يتحدث عن ضرورة وأهمية اتحاد القارة الأوروبية. سبقه في التطرق إلى هذه الوحدة «الحلم»، العديد من الشعراء والمفكرين من مختلف الدول الأوروبية. إلاّ أن الوزير الفرنسي كان السباق في رسمه لاستراتيجية العمل الوحدوي، على أسس عملية، تحترم إرادة الشعوب وحرية اختيارها لمستقبلها ومصيرهاوفي العودة إلى الأرشيف السياسي للعواصم الأوروبية، وتحديداً إلى أرشيف وزارتي خارجية فرنسا وألمانيا، تبدو ملامح التعاون الأوروبي بادية في خطوات تقارب فرنسي ــــــ ألماني يتيمة في أواخر عشرينيات القرن الماضي، صاغها كل من وزير خارجية فرنسا أريستيد بريان ونظيره الألماني غوستاف شتريزيمان. خطوات هدفت إلى تحقيق بعض المكاسب النقابية، عبر برنامج مشترك للصلب والحديد.
    وعلى الصعيد السياسي، كانت هناك لفتة سياسية يتيمة بدورها، طرحها البريطاني ونستون تشرشل، وتضمنت اقتراحاً بإنشاء «ولايات متحدة أوروبية» يقوم التعاون المشترك في ما بينها على الأسس والقواعد المعتمدة في الولايات المتحدة.
    في مواجهة الشعارات السياسية الأوروبية، التي بدت في حينه صعبة التطبيق، نجح شومان في تقديم «استراتيجية عمل وحدوي تحترم إرادة المواطنين» وتقوم على «جدولة المراحل والخطى الاتحادية».
    هذه الاستراتيجية شكّلت اتجاهاً جديداً في مفهوم العلاقات الدولية في حينه. إنها استراتيجية عمل سياسي تقفز فوق «القوميات المسندة إلى الأعراق والأجناس والألوان والأديان». تعتمد بديلاً جديداً هو «اتحاد المصالح المشتركة باتجاه أهداف وقيم سامية، يأتي في طليعتها، المحافظة على أمن الإنسان الأوروبي وسلامته، وتالياً على أمن القارة وسلامتها وتوحيد شخصيتها وعلاقاتها مع دول العالم»كان شومان يدرك صعوبة العثور على قاسم مشترك بين قطبي الصراع التاريخي في أوروبا، وهما فرنسا وألمانيا، ويدرك أيضاً صعوبة العثور على مصلحة مشتركة تجمع بين دولة منتصرة ودولة مهزومة في الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، لم يستسلم لليأس، بل حافظ على جمالية الحلم وسمو القيم التي اكتسبها من المؤسس الأول للحلم الأوروبي.. إنه السياسي اللامع جان مونيه صاحب القول التاريخي الشهير: «نعمل لوحدة الشعوب في أوروبا لا لوحدة الدول والأنظمة الأوروبية».
    من هذه البارقة الفريدة والمميزة في قواعد العمل السياسي، انطلق شومان في مشروعه الأوروبي، مقتنعا بأن الوحدة الناجحة تصنعها الشعوب، لا الدول الأنظمة السياسية، وترتكز قاعدتها على المصلحة المشتركة الثابتة التي يلمس نتائج خيراتها المواطن، ولا تستند إلى الخطب الرنانة والشعارات السياسية الفارغة، التي تصلح للشعر الغنائي الحماسي فقط.
    في ربيع عام 1949، وبعد نجاح خطوة مشروع إعادة بناء ألمانيا، الذي حمل تسمية «خطة ماريشال»، التقط شومان فرصة التعاون الذهبية. إنها منطقة «الألزاس ــــــ لورين»، الواقعة على الحدود الفرنسية ــــــ البلجيكية ــــــ الألمانية، هي المنطقة الغنيّة بمصانع الحديد والصلب والفحم الحجري، وبالتالي، هي المنطقة الرئيسية المنتجة للأسلحة والمدافع وذخيرة الموت والدمار في قلب أوروبا. فلماذا لا تكون هذه المنطقة مثالاً للتعاون في مجال الصناعة الأوروبية الثقيلة؟ طرح شومان فكرته على الجانب الألماني، فحظي بالترحيب والتشجيع، ومن ثم تابع لقاءاته مع نقابات الصلب والحديد والفحم الحجري في المنطقة. كانت قناعة النقابيين تامة بضرورة تحويل عامل المنافسة بينهم إلى قاعدة تعاون تعود بالفائدة على الجميع.
    هكذا ولدت عام 1951 «مجموعة التعاون الأوروبية للحديد والصلب والفحم الحجري» بتوقيع ستّ دول أوروبية تحكمها مصلحة واحدة، هي فرنسا وألمانيا وبلجيكا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا.
    أصغى الأوروبيون ومعهم العالم إلى بيان شومان، يتحدث بلغة جريئة عن السلام والتعاون، بعيداً عن لغة الحروب والقمع العسكري داخل أوروبا.. كان بيان روبير شومان في التاسع من أيار العام 1950 أول إطلالة سياسية لغوية مميزة، خاطبت مصالح الأوروبيين واحترام رأيهم، والأهم أنها شكّلت أول بشارة لقيام خطوات عملية تدريجية ناجحة.
    لكن، بعد أن تحققت المعجزة الاقتصادية في خطوة «المجموعة الأوروبية»، هل كان شومان يتوقع المزيد من الحروب بين الدول الأوروبية؟ ربّ ضارة نافعة. إن الحرب الباردة التي اندلعت بين المعسكرين، الشرقي والغربي، في مطلع الخمسينيات، وعملت على ترسيخ قسمة «المنافع الأوروبية» بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، عزّزت فكرة مخاوف الأوروبيين مجدداً. لقد أسهمت «الحرب الباردة»، بطريقة غير مباشرة، بتوليد عقدة الخوف مجدداً عند الأوروبيين، ودفعت باتجاه البحث عن ضمان الأمن والسلامة. كان لا بدّ من خطوة أوروبية ثانية تنجح في توفير سلامة المواطن الأوروبي، كما نجحت الخطوة الأولى في توفير المكاسب والمنافع الاقتصادية التي حققتها لاحقاً «المجموعة الأوروبية».
    قبل خمسين عاماً بالتحديد، أي في 25 آذار 1957 وضعت أوروبا الحجر الأساس لتنظيم عملها الدستوري وتنظيم العلاقة بين المواطن والدولة. شارك شومان في توجيه الدعوة إلى قادة المجموعة الأوروبية، وتمّ الاتفاق على عقد اجتماع في العاصمة الإيطالية روما، حيث تكللت المباحثات بتوقيع قادة كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا على معاهدتين هامتين في التاريخ الأوروبي: المعاهدة الأولى أسّست لقيام «المجموعة الاقتصادية الأوروبية»، التي حملت تسمية السوق الأوروبية المشتركة، والمعاهدة الثانية أسّست «المجموعة الأوروبية للطاقة الذرية».
    كان «بيان روما»، قبل خمسين عاماً من اليوم، نقطة تحول تاريخية في مسار العلاقات بين الدول الأوروبية، وشكل فاتحة التعاون التدريجي والتصاعدي باتجاه الخطوات الدستورية الهامة، وفي طليعتها صياغة الدستور الأوروبي وقيام البرلمان الأوروبي وسواها من المنطلقات والأسس الوحدوية التي نجحت في صياغة مواقف سياسية دولية موحدة ونجحت في صياغة عملة أوروبية. والأهم من ذلك كله، ما نتج لاحقاً وتجلى في سقوط الحدود بين الدول الأعضاء وانطلاق العمل الأوروبي المشترك ضمن استراتيجية المحافظة على أمن الإنسان وسلامة البيئة.
    ونتيجة لهذا الإنجاز الكبير، تبوّأ شومان رئاسة أول برلمان أوروبي في مدينة ستراسبورغ (من 1958 إلى 1960)، محققاً حلمه الكبير بخطوة ديموقراطية هامة تجّسدت باستقالته طوعاً من منصبه بعد عامين، مفسحاً المجال أمام قيادات جديدة شابة.
    وضع «بيان روما» قبل خمسين عاماً الحجر الأساس الفعلي لانطلاقة الاتحاد الأوروبي. تأكد ذلك عبر مجموع الاتفاقيات الأوروبية اللاحقة التي استظّلته، بطريقة ديموقراطية ومنطقية. وفي هذا السياق، كانت خطوة اندماج المنظمات الأوروبية الرئيسية بعد عشر سنوات من التعاون في ما بينها.
    عام 1967، جرى دمج «الاتحاد الأوروبي للحديد والصلب والفحم الحجري» مع «المجموعة الأوروبية للطاقة الذرية» ومع «السوق الأوروبية المشتركة»، وبنتيجة هذا الدمج، باشرت مفوضية المجــــــــــــموعة الأوروبية أعمالها في مدينة بروكسل.
    ومن ضمن «التدرج المرحلي الديموقراطي» القافز فوق مصالح الدول الضيّقة، توصل الاتحاد الأوروبي عام 1968 إلى تحقيق أول وحدة جمركية تضمنت إعفاء الواردات والصادرات بين دول السوق الأوروبية المشتركة من الرسوم الجمركية، وتالياً من تطبيق تعرفة جمركية مشتركة وموحدة في العلاقات التجارية مع دول العالم.
    شعر الأوروبيون للمرة الأولى بوحدة المصير المستقبلي، وبتلازم المسارات الاقتصادية والسياسية والأمنية بعضها مع بعض. هكذا كرّت سبحة التكامل في المجال الاقتصادي، وعمادها العملة الأوروبية الواحدة، التي بإمكانها مواجهة الدولار الأميركي في الأسواق.
    هذا النجاح الذي حققته أول ستّ دول أوروبية متضامنة في ما بينها، انعكس إيجاباً على المحيط الأوروبي، فاندفعت ثلاث دول أوروبية، هي بريطانيا والدنمارك وإيرلندا، في مطلع عام 1971، للانضمام، ليرتفع العدد إلى تسع دول.
    عكست وحدة السوق الأوروبية ضرورة قيام وحدة سياسية، فشهدت الهيكلية الأولى للاتحاد الأوروبي قيام أول انتخابات مباشرة تربط المواطن المحلي ببرلمان أوروبي موسع تألّف في صيف عام 1979.
    وكرّت طلبات الانضمام إلى «المشروع الأوروبي» الناجح، ليصل عدد الدول الأوروبية المنضوية في الاتحاد إلى 12 دولة عام 1986، بعد انضمام اليونان (1981) وكل من البرتغال وإسبانيا (1986).. وهذا يعني، في لغة الاقتصاد والأمن، ضرورة القيام بإجراءات تحفظ سلامة السوق، بما في ذلك تحقيق المزيد من خطوات التقارب بين السياسات الاقتصادية وسياسات العملة المعتمدة في سوق الدول الأعضاء، وصولاً إلى تحرير حركة رؤوس الأموال من القيود.. خطوات تحققت في غضون سنتين (1993 ــــــ 1994) وتكللت باتفاقية «ماستريخت» التي أضافت إلى إجراءات تنظيم انتقال الأشخاص والبضائع والخدمات ورؤوس الأموال داخل الاتحاد، إجراءات التعاون السياسي بين الدول الأعضاء، وخاصة في مجالات العلاقات الخارجية والسياسة الأمنية والقضاء والصحة وحماية المستهلك.
    بدأت الحلقات المرحلية ترتبط بعضها ببعض تدريجاً، ليكتشف الأوروبيون أن «تكامل البيت الأوروبي» بات واجباً لا يمكن التخلي أو التراجع عنه.. وحدة السوق، بما تعنيه من مقوّمات المحافظة على ثبات الأسعار وحركة الفوائد وقوة النقد عند التداول والانضباط والثبات في الموازنة... جميعها استدرجت في مطلع عام 1994 التوقيع على «وحدة الاقتصاد والعملة»، وبالتالي تأسيس «البنك الأوروبي المركزي» ومقره مدينة فرانكفورت.
    هكذا، اكتشف الأوروبيون فوائد ومكاسب الاتحاد، وبدأت الشخصية الأوروبية تتكامل تدريجاً مع دورة الحياة الاقتصادية، فتنضم دول أوروبية جديدة إلى الهيكل الاتحادي الكبير، ليصل العدد إلى 15 دولة أوروبية، بعد دخول فنلندا والسويد والنمسا في مطلع عام 1995.. ليرتفع العدد إلى 21 دولة أوروبية.
    هذا الصرح الأوروبي الهائل، فرض بالضرورة التوقيع على «اتفاقية أمستردام» (1997) التي نظمت العلاقة داخل المؤسسات الاتحادية، وهذا يعني ترتيب وتنظيم البيت القضائي وشؤون الأمن الداخلي وتوحيد العلاقات مع الخارج، وبالتالي توسيع دائرة التمثيل الشعبي في البرلمان الأوروبي.
    ترى، هل كان يتوقع روبير شومان انهيار الاتحاد السوفياتي وبالتالي استعادة دول «أوروبا الشرقية» إلى دورة الحياة الطبيعية في الجسم الواحد؟ منطق الحياة يفرض توقع مسار كهذا، ومع إطلالة كل عام، كانت هدايا العيد تكبر...
    في مطلع عام 2000، ومع سقوط الاتحاد السوفياتي واستعادة ألمانيا وحدتها ودورة حياتها، انهارت طلبات الانضمام لعضوية الاتحاد، وتوسعت حلقات المباحثات حول العضوية مع كل من المجر وبولندا وإستوانيا وتشيكيا وسلوفينيا وقبرص، ودخلت العملة الأوروبية «اليورو» امتحان السوق التجاري.. كان لا بدّ في مطلع القرن الحالي، من وضع جدول أعمال، حمل تسمية «أجندة برلين للعام 2000»، التي نظمت انتخابات البرلمان الأوروبي وتضمنت جانباً من الإصلاحات الداخلية، كما عيّنت أميناً عاماً للمجلس الأوروبي ومفوضاً للشؤون السياسة الخارجية والأمنية المشتركة (خافيير سولانا).
    كذلك، شهد مطلع القرن الحالي إعلان ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي (مدينة «نيس» الفرنسية). أما في إطار السياسة الأمنية والدفاعية الأوروبية، فكان قرار إنشاء هيئات دائمة (لجنة للسياسات والسياسة الأمنية، لجنة عسكرية وهيئة أركان عسكرية تابعة للاتحاد الأوروبي). وتوسّع الحلم الأوروبي تالياً بانضمام بولندا، المجر، التشيك، سلوفاكيا، سلوفينيا، استونيا، ليتوانيا، لاتفيا، قبرص ومالطة للاتحاد الأوروبي (2004).
    كان لا بدّ لتحقيق حلم روبير شومان بنجاح من حصول تلازم بين الإصلاحات الاقتصادية وحقوق الإنسان.. لذلك توصل قادة الاتحاد الأوروبي إلى تأسيس «لجنة مستقبل أوروبا»، ومن أهم مهماتها: جعل الاتحاد قادراً على التصرف في الداخل والخارج، وتحقيق المزيد من الديموقراطية والشفافية في اتخاذ القرارات داخل المؤسسات في أوروبا، وبالتالي تبني ميثاق الحقوق الأساسية باعتباره ترتيباً قانونياً للقيم ملزماً للاتحاد الأوروبي.

    للذكرى
  • 18 نيسان 1951: توقيع اتّفاقيّة الفحم والفولاذ
  • 25 آذار 1957: اتفاقية روما
  • 10 حزيران 1979: انتخاب أوّل برلمان أوروبي باستفتاء عام
  • 14 حزيران 1985: توقيع اتّفاقيّة «تشينغين»
  • 17/ 28 شباط 1986: التوقيع على المرسوم الأوروبّي الموحّد
  • 9 تشرين الثاني 1989: سقوط جدار برلين
  • 3 تشرين الأوّل 1990: توحيد الألمانيّتين الشرقيّة والغربيّة
  • 7 شباط 1992: اتّفاقيّة ماستريخت
  • 1 كانون الثاني 1992: العمل بالسوق الموحّدة
  • 1 تشرين الثاني 1993: دخول «اتفاقيّة ماستريخت» حيّز التنفيذ
  • 1 كانون الثاني 1995: انضمام النمسا وفنلندا والسويد
  • 27/ 28 تشرين الثاني 1995: مؤتمر برشلونة حول الشراكة الأورو ــــــ متوسّطيّة
  • 30 آذار 1998: إطلاق عمليّة دمج الأعضاء الجدد
  • 1 أيّار 1999: دخول «اتّفاقيّة أمستردام» حيّز التنفيذ وتعيين خافيير سولانا ممثّلاً للسياسة الخارجيّة
  • 26 شباط 2001: توقيع «اتّفاقيّة نيس» وتحديد قيم الاتحاد الأوروبي بـ«الكرامة والحريّة والمساواة والوحدة والمواطنيّة والعدالة»
  • 1 كانون الثاني 2002: بدء التداول بـ«اليورو» في 12 دولة
  • 1 أيّار 2004: انضمام تشيكيا وإستونيا وقبرص ولتوانيا ولاتفيا وهنغاريا ومالطا وبولندا وسلوفينيا وسلوفاكيا
  • 29 تشرين الأوّل 2004: التوقيع على مسوّدة الدستور الأوروبي في روما
  • 1 كانون الثاني 2007: انضمام بلغاريا ورومانيا إلى الاتحاد، وأصبح يضمّ 27 عضواً و490 مليون مواطن، وسلوفينيا تدخل في «منطقة اليورو»



    قارة تصارع لإثبات «عظمتها»

    لا يمكن التطرق إلى أي دراسة أو موضوع يعالج مسألة الاتحاد الأوروبي ودوره في العالم من دون أن تقفز إلى الذهن، تلقائياً، صورة الولايات المتحدة، وأن يظهر الأوروبيون الباحثون عن المرآة التي تعكس صورة لهم مطابقة لصورة أميركا

    باريس ـ بسّام الطيارةيرى البعض أن صدمة الحربين العالميتين المكلفتين بشرياً كانت وراء السعي لإنشاء الاتحاد الأوروبي لتجاوز الصراعات الأوروبية. ويعتقد آخرون بأن التشبه بالولايات المتحدة كان المحرك الأول وراء صب لبنة الاتحاد لمواجهة التحدي الكبير الذي كان يلوح في أفق العلاقات بين القارتين. ومن هنا لا يمكن إلقاء نظرة على دور الاتحاد الأوروبي في العالم من دون الأخذ بالاعتبار مواقف واشنطن من كل المسائل المطروحة.
    إلا أنه بخلاف ما تعكسه صورة الموازين الاقتصادية وما تحمله صورة أميركا من ملامح قوة كاسحة لا يمكن منافستها، فإن وزن أوروبا الاقتصادي والمالي يوازي، إن لم يكن يفوق، وزن الولايات المتحدة. الفارق الوحيد هو أن قوة أميركا الاقتصادية مستندة إلى قوة عسكرية ساحقة إضافة إلى قوة سياسية.
    ولا يخفى على الأوروبيين أنفسهم هذا التفاوت، لا بل يتفق جميع الساسة الأوروبيين على أن الاتحاد الأوروبي هو «قلعة اقتصادية تفتقد السور السياسي الذي يحميها» عدا عن عدم التوازن الفاضح بين قوتها المالية والاقتصادية الكبيرة وبين ما يمكن أن تحشده من قوة عسكرية متواضعة بشكل عام.
    ويقول الخبير المالي جان كلود كازانوفا إن هذا «التفاوت بين الوزن الاقتصادي والوزن السياسي ــــــ العسكري يترك آثاراً سلبية على الإنجاز الاقتصادي بشكل عام». ويتفق العديد من الخبراء على أن «مرد هذا الضعف يعود إلى تبعثر مراكز القرار الأوروبي في الحقل السياسي، والذي لا بد وأن ينعكس علىالقرارات الاقتصادية» وذلك بخلاف ما يحصل في الولايات المتحدة «حيث يواكب القرار السياسي الخطط الاقتصادية العامة».
    ومن الأمثلة على ذلك «المفاوضات الاقتصادية الكبرى»؛ ففي حين يستطيع الرئيس الأميركي التفاوض باسم «الكتلة الاقتصادية الكبرى التي تشكلها الولايات المتحدة»، فإن على مفاوضي الاتحاد الأوروبي العودة إلى الدول الأعضاء في العديد من القضايا الكبرى قبل اتخاذ أي قرار، وفي معظم الأحيان، فإن التناقضات تكون كامنة بين هذه الدول بشكل لا يسمح باتخاذ موقف موحد.
    كذلك هو الأمر بالنسبة إلى المسائل العسكرية، وخصوصاً الصناعات العسكرية. فإذا أخذنا الصناعات العسكرية الأوروبية من حيث الحجم العام وأرقام المبيعات نجد أنه يمكن مقارنتها مع الصناعة العسكرية الأميركية. إلا أن الانقسام الحاصل في الجانب الأوروبي يجعل أية مقارنة بين صناعات دولة منها والصناعات الأميركية تصب في مصلحة الجانب الأميركي.
    ومن الغريب أن عين واشنطن ساهرة تراقب التنافس بين الجانبين وتشجعه باسم «التنافس المشروع» الضروري، الذي تكفله القوانين التجارية. وفي كل مرة يحصل تقارب بين الصناعات الأوروبية تكون النتيجة لمصلحة هذه الأخيرة على حساب الشركات الأميركية. وقد حصل هذا بالنسبة إلى طائرات «أيرباص» التي استطاعت أن تنافس شركة «بوينغ»، كبرى الشركات الأميركية في هذا المجال.
    ولا تكتفي الولايات المتحدة في هذا المجال بالتنديد بالتكتلات الأوروبية واللجوء إلى المحاكم (وخصوصاً المحاكم الأميركية) لتتهمها بجرم «التكتل الاحتكاري» فهي في كثير من الأحيان تمنعها من الدخول في المناقصات الأميركية لتزويد الجيش الأميركي بالعتاد والمعدات بحجة حصول الشركات الأوروبية على مساعدات حكومية أوروبية. وهذا ما يفسر احتكار الشركات الأميركية للسوق الأميركية وغياب المنافسة.
    ولا يقف التنافس على حدود العلاقات الأوروبية ــــــ الأميركية، بل يتجاوزه إلى الأسواق العالمية، وخصوصاً الأسواق الناشئة مثل السوق الصينية والسوق الهندية والأسواق الجديدة مثل أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا.
    وتسعى هذه الدول للاستفادة من تنافس العملاقين للحصول على تكنولوجيا تسمح لها باللحاق بركب التصنيع في الدول الأكثر تقدماً. وتميل غالبية الدول ذات الاقتصاد الناشئ للتعامل عموماً مع دول الاتحاد الأوروبي لغياب الرابط السياسي مع العقود التجارية والصناعية الكبرى، بعكس ما هو الوضع مع الشركات الأميركية الخاضعة بشكل أو بشكل آخر للإملاءات السياسية.
    وفي كثير من الحقول التنافسية يجد الاتحاد الأوروبي نفسه في مواجهة الولايات المتحدة، وهذا ما يفسّر الكثير من أسباب فشل دورة الدوحة للتجارة العالمية وخصوصاً في مجال الخدمات (التأمين والأعمال المصرفية) والزراعة؛ فوصول قوى صناعية وزراعية جديدة إلى الأسواق المعولمة فرض تنافساً مثلث الأضلاع بين كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والقوى الصاعدة. ومن أهم المجالات التنافسية التي يمكن أن تحدد مستقبل التجارة العالمية وتترك أثراً كبيراً على الاقتصاد العالمي، التنافس في مجال الزراعة ومسألة الدعم المالي الذي تتلقاه الزراعة الأوروبية والأميركية من قبل حكوماتها، ما يسمح لها بإنتاجية عالية جداً تقفل باب الجدوى الاقتصادية لأي إنتاج من قبل الدول النامية.
    لكن بخلاف الولايات المتحدة، فإن حركة وعي سياسي وبيئي باتت تحرك الشعوب الأوروبية وتدفع بحكومات الاتحاد الأوروبي إلى التقرب مما بات يسمّى «النمو الدائم»، وهو من مطالب الحركات المناهضة للعولمة التي بدأت الأجهزة الأوروبية بالقبول بالدفاع عنها أمام هيئات التفاوض العالمية في مجابهة صامتة مع السلطات الحكوميةوتجدر الإشارة هنا إلى أن الشركات الأوروبية الكبرى ترى في «الليبرالية الأنكلوساكسونية» حليفاً لها في سياق تيار العولمة الذي تستفيد منه، ما يجعل منها حليفة داخلية للتوجهات الأميركية العامة في السياسة الاقتصادية العامة، ويضعف السلطات الأوروبية. مع الإشارة إلى أن بعض التوجهات العامة لبعض الدول الأوروبية، مثل إنكلترا وهولندا، تدعم علناً التوجهات الاقتصادية الليبرالية كما هي الحال بالنسبة إلى بعض الدول الحديثة العهد في الاتحاد الأوروبي، مثل بولندا وبلغاريا. ويضاف إلى هذا الشق، الفارق في معدلات النمو بين مختلف دول الاتحاد وفي مستوى المدخول الفردي الذي يترك أثراً بالغاً على حركة النمو الإجمالي للاتحاد ككيان اقتصادي مترابط.
    الصراع مع روسيا
    لكن لا يتوقف تناقض المواقف بين دول الاتحاد الأوروبي على السياسة الاقتصادية وتوجهاتها العامة، بل يتجاوزها إلى حقل السياسة الخارجية حيث يوجد تناقض وتباين واضحان في الكثير من المسائل العالمية.
    ولعل أبرزها الموقف من الجار الروسي، الذي يتقاسم مع الاتحاد الأوروبي حدوداً طويلة جداً. وقد طرحت هذه المسألة نفسها بقوة إبان المفاوضات لتوسيع الاتحاد الأوروبي شرقاً باتجاه الدول الشيوعية السابقة. وقد استطاع الاتحاد الأوروبي، بعد مفاوضات شاقة، إقناع موسكو بأن دخول الدول الشيوعية السابقة في الاتحاد ليس موجهاً ضدها، بل إنه يصب في مصلحتها. وساهم ضعف روسيا، الخارجة من أنقاض الاتحاد السوفياتي، والتي كانت تنهش اقتصادها وبقايا الامبرطورية الصناعية الشيوعية مجموعات وتكتلات شبه مافياوية، في رضوخها «للأمر الواقع الناتج من انهيار الامبريالية الروسية».
    لكن هذا لم يمنع التوتر الدائم بين روسيا والاتحاد بسبب بعض المسائل العالقة مع هذه الدول، التي كانت سابقاً مرتبطة مباشرة باقتصادها، أو بسبب مسائل أمنية عسكرية وجيوستراتيجية تمس أمنها. ومع مرور الزمن وسياسة القبضة الفولاذية التي ينفذها الرئيس فلاديمير بوتين منذ سنوات للإمساك بالتكتلات الصناعية والمالية الكبرى في روسيا، عادت موسكو للتشدد في كل ما يتعلق بالتنازلات التي يمكن أن تقدمها للدول التي كانت تدور في فلكها، والتي انتمت إلى الاتحاد الأوروبي. وكان آخر هذه الأزمات أزمة الغاز الروسي، الذي هدد أوروبا الغربية بشتاء قارس لو لم يتم التوصل إلى حل يرضي الطرفين.
    لكن منذ مدة قليلة، عاد التوتر لأسباب أمنية هذه المرة، تعود إلى رغبة الولايات المتحدة في نشر قاعدة صواريخ ومحطة رادارات في كل من بولندا وتشيكيا، أي على أبواب الأراضي الروسية. ورغم أن الاتحاد الأوروبي يختبئ وراء حجة «المفاوضات الثنائية»، التي أدت إلى قبول الدولتين الأوروبيتين باستقبال الصواريخ على أراضيها لتشكيل «درع مضادة للصواريخ»، إلا أن الكرملين يريد أن يكون التفاوض «شاملاً مع الاتحاد الأوروبي» بحجة انتماء هاتين الدولتين إليه.
    فروسيا تندد من جهة بـ« تهديد من الحلف الأطلسي على أبوابها» وتطالب من جهة أخرى الاتحاد الأوروبي بـ«تحمل مسؤولياته في مسائل الأمن الأوروبي» على حدوده الشرقية. ويقول بعض الخبراء إن الروس يدركون تماماً أن هذه الدرع الصاروخية هي لحماية الولايات المتحدة من الصواريخ التي يمكن أن ترسلها دول مثل إيران، وليست قادرة على الوقوف في وجه الترسانة الصاروخية الروسية الأكثر تطوراً. إلا أن المسؤولين في موسكو يفضلون تجاهل هذا الشق من المسألة وطرح «إطار تفاوضي أوروبي» يسمح لهم بالحصول على تنازلات أوروبية ما لم يكن هناك ما يمكن التفاوض عليه مع واشنطن.
    فروسيا تسعى للحصول على مجموعة ضمانات من الاتحاد الأوروبي منها مثلاً تثبيت آلية تسعير للغاز الطبيعي تربط الأسعار العالمية بمعدلات النمو الأوروبية مع ضمان عمليات الشراء لآجال طويلة ومتوسطة. كما تسعى إلى قبول الاتحاد بعدم ربط المسألة الشيشانية (وإذا أمكن المسألة الأبخازية) بمعاهدة هلسنكي مما يعني الاعتراف بكونها مسألة داخلية.
    ولا يستطيع الاتحاد الأوروبي الضغط على الولايات المتحدة في مسألة الدرع الصاروخية، كما لا يستطيع عدم أخذ المطالب الروسية الأمنية بالاعتبار بما يذكر بمسألة «صواريخ برشينغ في الثمانينيات».
    كذلك يدرك الاتحاد الأوروبي أهمية النفط والغاز الروسيين بالنسبة إلى اقتصاده وصناعته في السنوات الثلاثين المقبلة، وخصوصاً أن هذه الصناعة النفطية تحتاج إلى كمّ هائل من التمويل، بعدما وصلت إلى نهاية حياتها الاستهلاكية، وتتطلب عملية إعادة تدوير وهيكلة يعجز الاقتصاد الروسي عن تمويلها. ويفتح هذا باباً جديداً لتنافس مع الولايات المتحدة على هذه السوق مع مجمل العوامل الجيوستراتيجية التي تتداخل في سياق هذا التنافس.
    المعضلة التركية
    وإلى الجنوب، هناك تركيا التي يسمّيها العديد من المراقبين «العظمة العالقة في بلعوم الاتحاد الأوروبي»، والتي يشكل انتماؤها إليه معضلة صعبة شبيهة بتربيع الدائرة.
    فبين تركيا والاتحاد الأوروبي التاريخ أولاً، الذي لا يزال حاضراً لدى الكثير من الأوروبيين، ويذكّرهم بصراعات أوروبا مع السلطنة العثمانية التي وصلت جيوشها إلى أبواب فيينا. يقول أحد المؤرخين «كلما التهم أوروبي كرواسان تذكّر أن الأتراك أرادوا احتلال فيينا» في إشارة إلى المعركة الكبرى التي أنهت تقدم الأتراك في وسط أوروبا بعد هزيمتهم تحت أسوار هذه المدينة. وصفحات هذا التاريخ تقرأها بصعوبة كل من اليونان وبلغاريا ورومانيا وتحتل المسألة القبرصية حيّزاً مهما فيها.
    ويضاف إلى العقبات التي تقف حائلاً بين تركيا وانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي دين تركيا الإسلامي وخصوصاً في خضم أجواء نفور في أوروبا من الإسلام، أسّس له التوتر في منطقة الشرق الأوسط وأسهمت بتأجيجه حرب الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا على العراق، إلى جانب تنامي البطالة في أوروبا، ما أسس لردة فعل تجاه المهاجرين الذين هم في غالبيتهم من الطائفة المسلمة. وفي ما يتعلق ببعض الدول الأوروبية (ألمانيا والدنمارك وهولندا)، نجد أن غالبية المهاجرين من أصول تركية. كل هذا يجعل من مسألة قبول تركيا عضواً في الاتحاد صعبة جداً، علماً بأن العديد من المسؤولين الأوروبيين يرون في هذه الأسباب المذكورة «أسباباً للعمل على إشراك تركيا في الاتحاد» إذ يرون في هذه المبادرة خطوة لسحب حجج صراع الحضارات وإقفال أبواب الفتنة بين الغرب والإسلام عبر إظهار تسامح أوروبا وانفتاحها على الشرق المسلم لدرجة قبول إحدى كبريات دوله الإسلامية عضواً في اتحادها.
    ويسعى قسم كبير من مثقفي «الرعيل الأوروبي الأول» أي الدول الأولى في الانتماء إلى الاتحاد، التي هي الأكثر تقدماً، للقبول بتركيا عضواً كاملاً «من دون وضع شروط تعجيزية مهينة لها».
    طموحات آسيوية
    وتهتم دول كثيرة بالانضمام للاتحاد لما يمثّله من سوق ضخمة للتصريف وللاستيعاب، يعد منفذاً هاماً للسلع ذات القيمة المضافة البسيطة، أي الصناعات الخفيفة التي بدأت أوروبا تتخلص منها رويداً رويداً وتعتمد على الدول ذات اليد العاملة الرخيصة لتصنيعها.
    وهذا ما دفع الدول الصناعية الآسيوية للاهتمام بدول الاتحاد الأوروبي الجديدة. ومن هذه الدول النمور الصغيرة (تايوان وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية وسنغافورة). ومنذ مدة غير طويلة بدأت الصين (وكذلك الهند) تظهر اهتمامها أيضاً بدخول هذه الدول مشاركةً ومستثمرةً في الصناعات الخفيفة بشكل يسمح لها بتجاوز «العقبات الجمركية» التي يضعها الاتحاد على أبوابه الخارجية. وهكذا بدأت الدول «الأوروبية الجديدة» تشهد «ثورة صناعية مستوردة من الدول الآسيوية» إلا أن الكثير من الخبراء يصفونها بـ«الثورة القصيرة الأمد».
    وتعتقد الصين ومعها الهند بأن الاتحاد الأوروبي قادر، في حال توحده سياسياً، على الوقوف في وجه الهيمنة الاميركية على شؤون العالم وإدارتها حسب مصالحها الضيقة.
    ويقول ديبلوماسي هندي «عجيب أمر أوروبا! نطلب منها توحيد سياستها وجعل قراراتها أكثر مركزية لتزداد قوة لكنها قابعة بتردد يشل قدراتها!». والواقع أن الهند ومثلها الصين ترفضان «رقصة السولو التي تفرضها الولايات المتحدة عليهما» في مجال فتح أبواب أسواقها الكبيرة وفي مجال انتقال التكنولوجيا وتبادل الخبرات.




    عقبات... ومتاعب
    ترى، ما هو موقف روبير شومان اليوم، بعد خمسين عاماً على مرور حلم تحقق بطريقة عقلانية وذكية، القيامة من قارة مدمرة منقسمة على ذاتها إلى قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية جبارة؟
    لا شك في أن مـــــــــــــــا حققه الاتحاد الأوروبي في هذا المسار الزمني القصير يعد إنجازاً كبـــــــيراً، وخاصة في حال مقــــــــــارنته بسلبيات تاريخ ماضيه الدموي والممزق.
    ... لكن، هل يمكن لهذا الصرح الأوروبي الكبير أن يطال الكمال من دون عقبات ومتاعب بين الدول الأعضاء، وخاصة في تحديد علاقته مع العالم الخارجي؟ وهل تكفي خمسون عاماً من «التواريخ» المختلفة والمصالح المتناقضة، عاشتها 27 دولة محكومة بتحالفات ونزاعات وحروب، للحكم بالنجاح أو الفشل على هذه التجربة السياسية الفريدة في تاريخ الإنسانية؟ ثم يأتي السؤال الأهمّ.. أين هي الشخصية الأوروبية الواحدة؟ هل فعلاً دخل الأتحاد الأوروبي ما يكفي من الاختبارات للحكم على هيكليته بالنجاح أو الفشل؟ وهل تكفي مكاسب السوق المالي والامتيازات لطمس معالم فولكلور الدول وثقافات الشعوب؟
    ويبقى أن النظرة المتفائلة لهذا المسار الاتحادي، لا تخفي اعترافها بأربعة عوائق هامة، تشكل حالياً نقاط خلاف حول المسار المستقبلي، وهي: الاتفاق حول الدستور الأوروبي وتحديد دور البرلمانات الوطنية، والوضع القانوني لشرعة الحقوق الأساسية حول مفهوم القيم الأوروبية.
    حول هذه القضايا لا يزال النقاش الداخلي قائماً ومتواصلاً، وقد حددت ألمانيا عشية تسلمها رئاسة الدورة الحالية للاتحاد، جانباً من هذه القضايا العالقة التي تعمل على حلحلتها، وهي: أولاً، السعي لإحراز تقدم في ما يتعلق بالدستور، الذي أصبح حالياً رمزاً لانغلاق أوروبا على نفسها. ثانياً، التحدث بصوت واحد والتصرف بحزم إزاء النزاعات العديدة في العالم. وثالثاً، تحديد موقع أوروبا في السنوات العشر المقبلة. هذا يعني تحديد موقف أوروبي موحد يتعلق بمصادر الطاقة وحماية المناخ... في مواجهة هذه العوائق، يستمر ويتواصل النقاش الداخلي بين الدول الأعضاء.
    ومع الاعتراف بأهمية الإنجازات التي تحققت في فترة زمنية قصيرة، سواء في مجالات التعاون الاقتصادي وإزالة الحواجز والعوائق المعطلة لدورة الحياة الاجتماعية ـــــ الاقتصادية الواحدة إلا أن النظرة الموضوعية والعقلانية تكشف أن قاعدة الاتحاد الأوروبي لا تزال طريّة العود، ولا يزال اتحادها قائماً على رفض السلبيات الضارة والمعطلة، لا على وحدة الموقف السياسي ووحدة الشخصية الثقافية.
    إنه الســـــــــؤال المشـــــــــروع دائماً، عن ماهية ملامح الشخصية الأوروبية الجديدة؟... هل تستطيع مساحة السوق الاقتصـــــــــادية ودورة المال والأعمال، أن تحلّ مكان الجغرافيا ودورة الحياة الإنسانية عليها؟ هل توحّد سوق «اليورو»، الشخصية القبرصية أو التركية أو اليــــــــــونــــــــــانية، مع الشـــــــــــــخصية الألمانية أو البريطانية؟
    إنه التحدي الكبير، طرحه في الماضي عالم الاجتماع العربي ابن خلدون الذي خلص إلى القول إن «الإنسان هو ابن بيئته الطبيعية».. وبين السياسي اللامع روبير شومان، الذي خلص بتجربته الأوروبية إلى القول إن «الإنسان هو ابن المصلحة»... ربما كان الموقف الأوروبي من عضوية تركيا للاتحاد اختباراً جديداً لمفهوم القيم الذي تستظله الشخصية الأوروبية.



    اتحاد متعدد اللغات
    يتألف الاتحاد الأوروبي من ٢٧ دولة تتكلم ٢٣ لغة مختلفة. وتقول شرعة الاتحاد إن كل دولة يحق لها اختيار اللغة أو اللغات التي «تمثلها» لتصبح لغة أو لغات رسمية للاتحاد.
    فالمادة ٢٢ من الشرعة الأوروبية تضمن «التنوع الألسني»، وتمنع أي تمييز بسبب اللغة، وخصوصاً في مجال الوظائف حيث يستطيع أي موظف أوروبي ، من حيث المبدأ، العمل بلغته الأم أو بأي من اللغات الإقليمية المستعملة في بلده.
    ونجد في مــــــــــعظم نشرات الاتحاد الأوروبـــــــــــي شعاراً يقول «التنوع الألسني ليس حملاً بل فرصة!». إلا أن هذا لا يمنع أن تحتل اللغة الانكليزية المركز الأول في «الاستعمال اليومي» لموظفي الاتحاد الأوروبي.
    يشار إلى أن تكلفة الترجمة وحدها في الاتحاد الأوروبي تبلغ أكثر من مليار يورو سنوياً.



    أوروبا والصراعات العسكرية
    أعطت مـــــــــــقدمة اتفاقية «ماستريخت» الموقعــــــــــــــة عام ١٩٩٢ الاتحاد الأوروبي توجــــــــــــــهاً أكثر انفتاحاً على العالم، بعد أن حمل منذ تأسيسه طابع «السوق المشتركة» التي أســــس على فكرتها.
    فقد حددت المعاهدة في فصلها الخامس مهمات الاتحاد وأهدافه عبر إيجاد «سياسة خارجية ونظام أمن مشترك».
    وتقول الفقرة الـ١١ إن مبادئ هذه السياسة هي:
    ـــ الحفاظ على المبادئ المشتركة والمصالح الأساسية للاتحاد.
    ـــ دعـــــــم أمـــــــن الاتحاد والدول الأعضاء.
    ـــ حــــــفـــــــظ الســـــــــــلام والأمـــــــــن في العالم.
    ــ مســــــــــاندة كل أشكال التعاون الدولي.
    وتم دمج «منظمة أوروبا الغربية»، وهي ذات توجه عسكري أمني، في هيكلية الاتحاد بعد أن بات كل أعضائها مشاركين فيه.
    وفي معاهدة أمستردام ١٩٩٩ تمت تقوية هذه السياسة ودعمها عبر إنشاء هيئات إدارية وتعيين ممثل أعلى لها وهو المنصب الذي يحتله خافيير سولانا.
    يشار إلى أن الــــــــــدول الأوروبــــــــــــية لا تزال تــــــتــــدخــــــــــل فـرادى في حـــــــــــــفظ الأمن والـــــــــــسلام في عــــــــــدد من دول العالــــــــــــم، أو في احــــــــــــــــتلالها، إن في إطار حـــــــــــلف شمالي الأطلــــــــــــــــسي، أو الأمم المتحدة أو تحالفات مع دول أخرى.
    ومن بين الدول التي تشهد انتشاراً لقوات من دول أوروبية، أفغانستان والعراق ولبنان.



    عندما أدركت أوروبا المخاطر الشرق أوسطية
    علاقة الشرق الأوسط بأوروبا ليست جديدة. بل إنها تمتدّ إلى قرون. لطالما كانت سمتها الاحتلال، وآخرها على شاكلة «انتداب»
    أممي. لكن طبيعتها تغيرت في السنوات الماضية. أدركت الدول الأوروبية أن كل شرارة تشتعل في هذه المنطقة سرعان ما يمتد لهيبها إلى داخل قارتها، فكانت «الشراكة»


    باريس ــ الأخبار
    يبدو الشرق الأوسط مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بالاتحاد الأوروبي حتى وإن كانت نشأة هذا الأخير تمت لعوامل لا علاقة للمنطقة بها لا من قريب ولا من بعيد. إلا أنه كما يقول المؤرخون «هو وزن التاريخ إلى جانب وزن الجغرافيا» اللذين يجعلان لكل هزة في الشرق الأدنى أو الشرق الأوسط ارتداداً في دول المجموعة الأوروبية التي باتت تسمى الاتحاد الأوروبي.
    النزاعات كلها، من فلسطين إلى أفعانستان مروراً بالعراق شرقاً، وغرباً باتجاه السودان والصومال، في ثناياها رابط بين تاريخ الدول المؤلفة للاتحاد الأوروبي وبين بؤر التوتر التي تجترح العالم العربي ومحيطهفعلى سبيل المثال، باتت مسؤولية بريطانيا في مسألة فلسطين منذ وعد بلفور حقيقة تاريخية. كما أن الدراسات أظهرت أن المناورات الأوروبية حول فلسطين، التي انغمست فيها فرنسا وإيطاليا وألمانيا الموحدة، بدأت قبل وعد بلفور بسنين، منذ أن نزلت القوات الأوروبية ثغور شرق المتوسط وشواطئه مستفيدة من ضعف «الباب العالي».
    والارتباط العضوي بين النزاعات الأخرى والمسألة الفلسطينية أمر لا يختلف عليه اثنان، حتى وإن كان تداخل النزاعات وتعاقبها منذ زمن طويل، رمى في طيات النسيان هذا الترابط المباشر الذي لم ينته من التأثير على نمط الحياة السياسية في منطقتي الشرق الأدنى والأوسط.
    لكن الاتحاد الأوروبي يدرك جيداً هذا الارتباط العضوي. وكان آخر من ذكّر به وزير خارجية فرنسا فيليب دوست بلازي في تصريحات عديدة أعقبت العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز الماضي، وإن كانت هذه النغمة لا تروق بتاتاً آذان واشنطن وتل أبيب.
    ومنذ ما قبل الحرب الإسرائيلية الأخيرة، ومسألة الشرق الأوسط مدار بحث في الأوساط الأوروبية، ويعود ذلك بالتحديد إلى الفترة التي تلت حرب الخليج الثانية التي شهدت تحرير الكويت عام ١٩٩١ وتلاها مباشرة مؤتمر مدريد الذي همّش الاتحاد الأوروبي.
    وكانت لكل دولة أوروبية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سياستها الخاصة، إذا استثنينا «حلف ١٩٥٦ بين فرنسا وبريطانيا وإسرائيل» بعد تأميم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر قناة السويس، وتحالف فرنسا مع إسرائيل التي «ربحت حرب عام 1967 بطائرات الميراج والميستير» الفرنسية، كما يحب أن يذكّر البعض، قبل أن يفرض الجنرال شارل ديغول حصاراً على تصدير الأسلحة إلى الدولة العبرية بعدما هاجمت مطار بيروت ودمّرت طائرات «الميدل إيست» التي كانت شركة «إير فرانس» من أكبر المساهمين فيها.
    أما بريطانيا فكانت مكبّلة بما كان يسمّى «سياسة شرق السويس» أي وجودها في عدن المستَعمَرة وتحاول المحافظة على نفوذها في إمارات الخليج ولدى حكام العراق وشرق الأردن من آل هاشم.
    غير أن حرب عام 1973 كانت المؤشر الأول إلى ضرورة الالتفات إلى «الحريق الذي لامس أبوابنا»، كما كان يحلو القول لميشال جوبير وزير خارجية فرنسا الديغولي. ومما لا ريب فيه أن «حرب النفط» التي ردت بها الدول العربية على «الدعم الغربي لإسرائيل» كانت بمثابة إشارة إنذار تسلّمتها الدول الأوروبية بجدية وبدأت تدرك النتائج السلبية التي يمكن أن تنعكس على دولها جراء تفاعل الصراع في الشرق الأوسط.
    كانت ردة الفعل على حرب 1973 متنوعة الأوجه: تابعت فرنسا السياسة العربية لديغول، فانفتحت على دول «قومية يعقوبية» مثل ليبيا والعراق وبعض دول الخليج للاستفادة من «هبة النفط». أما بريطانيا، الداخلة حديثاً في الاتحاد، فقد التصقت بالسياسة الأميركية، التي باتت أكثر دينامية في الشرق الأوسط مع «انفتاح» الرئيس المصري الراحل أنور السادات على طروحات وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسينجر، وتوقيعه صلحاً مع إسرائيل، أخرج مصر من الصراع.
    كان الاهتمام الأوروبي منصباً بشكل أساسي على امتصاص الثروة النفطية التي «ولّدها الصراع الإسرائيلي ـــــ العربي»، مع ضمان عدم امتداد الحريق إلى أراضيها.
    بدأ التفكير الأوروبي الجدي بإيجاد حلٍ لمسألة الشرق الأوسط في قمة البندقية عام ١٩٨٠، التي خرجت بإعلان شهير سرعان ما تناساه السياسيون. نص إعلان البندقية على أربع نقاط تختصر مواقف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي آنذاك: الاعتراف بحق الفلسطينيين بتقرير المصير، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وعدم شرعية المستعمرات وتغيير وضع القدس القانوني، وضرورة إشراك منظمة التحرير في مفاوضات السلام.
    واعتبر حينها أن الاتحاد الأوروبي أسس لسياسة مستقلة عن الولايات المتحدة في ما يتعلق بالشرق الأوسط. «سياسة مستقلة» دامت حتى عام ١٩٩٠ وحرب الخليج الثانية.
    ورغم اصطفاف الاتحاد الأوروبي وراء واشنطن في حرب تحرير الكويت، إلا أنها بشكل عام «خسرت المعركة الاقتصادية» التي تلت الحرب، والتي كان لواشنطن وحليفتها بريطانيا نصيب الأسد فيها، بينما العراق، الذي كان «زبون فرنسا وإيطاليا» التجاري، وضع تحت حصار رهيب، كانت هاتان الدولتان من أولى ضحاياه.
    وكان من نتائج هذه الحرب أن سقطت معظم «مكامن أوروبا» في الشرق الأوسط الواحد تلو الآخر في كفة الولايات المتحدة، التي باتت «شريكة الخاسرين كما هي شريكة الرابحين»، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
    وهكذا، يمكن القول إن «حرب تحرير» الكويت كانت نقطة تحول في مواقع الاتحاد الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط. فهي كانت نقطة انطلاق لتثبيت «القوات الأميركية في قواعد في المنطقة» وتأطير الحلف الاستراتيجي الذي يجمع واشنطن بتل أبيب بـ«رباط عربي غير مرئي» له فعل تحالف مصالح، لا اسم له، إلا أن سمته البارزة والأهم كانت استبعاد الاتحاد الأوروبي كقوة تسعى إلى أداء دور في المنطقة. وهو ما يسمى حتى الآن «استفراد واشنطن بمفاتيح الحل».
    خلال السنوات العشر التالية لهذه الحرب، ازداد اهتمام الاتحاد الأوروبي بالشرق الأوسط، بسبب تصاعد «ضغط القوى الإسلامية»، التي لم تعد تكتفي بحدود الدول الإسلامية ومهاجمة الأنظمة فيها، بل باتت لها نافذة على الاتحاد الأوروبي عبر المهاجرين من أصول عربية أو إسلامية. ويقول أحد المستشرقين إن «خطر التطرف الإسلامي لم يعد على أبوابنا بل أصبح خلفها».
    ويرى البعض أن المعاناة العراقية تحت الحصار، الذي رأت فيه الشعوب العربية تجسيداً «لازدواجية المعايير» مقارنة بما يحصل في فلسطين، كان لها تأثير كبير على نمو «التطرف الإسلامي» وسلوكه درباً لا يمكن أن يصل إلا إلى الاصطدام مع «الغرب» البعيد (أميركا)، والقريب (أوروبا). وقد قام الاتحاد الأوروبي بمحاولات عديدة للتخفيف من هذا الشعور بالغبن لدى الفلسطينيين والشعوب العربية والإسلامية، وخصوصاً بعد وصول بنيامين نتنياهو إلى الحكم في إسرائيل وتجميده كل الخطوات المتفق عليها سابقاً. عندها، أقرت أوروبا في قمة برلين «حق الشعب الفلسطيني بالحصول على دولة قابلة للحياة»، وعيّنت ممثلاً خاصاً لها في المنطقة هو ميغيل أنخيل موراتينوس، وزير خارجية إسبانيا الحالي.
    وقد جاءت أولى ضربات «الإرهاب الإسلامي» في نيويورك وواشنطن بعد سلسلة اعتداءات وتفجيرات في أوروبا (بين عامي ١٩٨٦ و١٩٩٨). كانت ردة فعل الاتحاد الأوروبي التضامن التام مع حليفته الكبرى بعد «صدمة ٩/١١» ، من دون أن يدرك أنها ستستغل هذه الضربة لإعلان حرب طويلة جديدة تحت تسمية «الحرب على الإرهاب» وأن الشرق الأوسط، الموجود على أبواب الاتحاد الأوروبي، سيكون مسرحاً لها.
    وافق الأوروبيون على المشاركة الفعلية والفعالة في الحرب علىطالبان في أفغانستان. وابتلعوا مجموعة من «الأفاعي القانونية» المتناقضة مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان في ما يتعلق بسجن أسرى الحرب في أفغانستان من دون محاكمة في سجون أميركية وفي سجون سرية في أوروبا.
    إلا أن غزو العراق كان له تأثير كبير على العلاقات بين واشنطن والاتحاد الأوروبي وبين أعضاء الاتحاد أنفسهم. فقد انقسم أعضاء الاتحاد بين مؤيد لأميركا في رغبتها في شن حرب من خارج إطار الأمم المتحدة وبين معارض لها.
    كانت المرة الأولى التي يجد فيها الاتحاد الأوروبي، ومن ضمنه دول نافذة مثل فرنسا وألمانيا، اللتين عارضتا الغزو بشدة، أن أحد أعضائه، انكلترا، قرر الدخول في مغامرة عسكرية من خارج إطار قرارات الأمم المتحدة وبشكل مخالف لها، ضاربة عرض الحائط بمستقبل «سياسة أوروبية مشتركة».
    يقول العديد من الخبراء إن التشنج الذي رافق الفترة التي سبقت الحرب الأنكلوساكسونية على العراق كان يمكن أن يؤدي إلى شرخ كبير في العلاقات بين أعضاء الاتحاد «لولا موقف الشعوب الأوروبية»، الذي اصطبغ بلون شبه موحد هو أقرب لطروحات المعارضين للحرب.
    أدرك القادة الأوروبيون أنه لا إمكان للانتصار أو لإقرار السلام في العراق في ظل الخرق الذي حصل لشرعة الأمم المتحدة. وضع رأى فيه الأوروبيون تجسيداً لمبادئ الرئيس الأميركي جورج بوش المبنية على أفكار المحافظين الجدد، الداعية إلى حالة «العنف الدائم»، وأيضاً حالة يمكن أن تخلق شرحاً تاريخياً في العلاقات الأوروبية ــــــ الأميركية.
    وهذا ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى العمل لإعادة «إدخال الحرب الأنكلو ــــــ أميركية» في لعبة الأمم المتحدة لإضفاء لباس قانوني على الاحتلال يعترف به ويضع «أفقاً للخروج منه». وهو ما دأبت فرنسا ومعها بعض الدول المؤثرة على المطالبة به (جدولة الانسحاب) والسعي إلى أن يعطي المجتمع الدولي إشارات إيجابية إلى أن الاحتلال هو «حادثة تاريخية فريدة» في العلاقات بين الأمم في التاريخ الحديث، وأن هذه الحرب هي حال استثنائية وليست «إحدى معارك الحرب بين الخير والشر ضمن الحرب العالمية على الإرهاب» كما تحاول تصويرها بعض القوى في واشنطن.
    لكن مع مرور الوقت، ومن دون أن يتراجع الاتحاد الأوروبي عن مطالبه التي تعكس مطالب شعوبه، أطاح الواقع على الأرض مواقف أوروبا التي سبقت الحرب وأعقبتها، وجعلها تلتحق بشكل أو بآخر بالسياسة الأميركية.
    ويعود ذلك لأسباب كثيرة منها أن طبيعة الحرب العراقية قد انتقلت من «حرب تحرير» إلى «حرب أهلية» وساحة اقتتال داخلي مطعمة بميدان عمل للجماعات «الإرهابية» يراه البعض منطلقاً لتجاوز حدود العراق.
    كذلك الأمر في فلسطين، حيث تراجع نفوذ المنظمات الفلسطينية «التقليدية» لمصلحة منظمات ذات طابع ديني، بسبب الممارسة اليومية للحكم والتفاوض مع المحتل دون الوصول إلى شيء ملموس على الأرض.
    وكان للتجربة اللبنانية، حيث استطاع لبنان ومقاومته تحرير القسم الأكبر من أرضه (عام 2000)، من دون أي تنازلات مبدئية، صدى كبير «قرأته» بعض الدول الأوروبية بأنه بداية لتفاعل المقاومة اللبنانية مع «جبهات الرفض» المتعددة في المنطقة ورأت فيه دول أخرى «أنه يعطي مثالاً سيئاً للأطراف الفلسطينية».
    ومن هنا، أعيد فتح الملف اللبناني بدءاً من عام ٢٠٠٤، الذي شهد إعادة العمل على تجريد المقاومة اللبنانية من سلاحها «وتفعيل هدنة ١٩٤٨». وقد أدى الهجوم الإرهابي، الذي قضى على الرئيس رفيق الحريري، إلى وضع لبنان تحت مجهر الأمم المتحدة. وقد تركت واشنطن لباريس دوراً في لبنان، بخلاف المناطق الأخرى. وعبر الدور الباريسي، أو بسببه، أعاد الاتحاد الأوروبي الدخول إلى معترك مسألة الشرق الأوسط، وخصوصاً عبر المساهمات العسكرية في قوات اليونيفيل التي كلفت حفظ «وقف الاشتباك» في جنوب لبنان بعد العدوان الإسرائيلي الأخير.
    وفي فلسطين، أعيد تفعيل هيكلية اللجنة الرباعية في محاولة لامتصاص نقمة احتلال جنين ومجازرها. وكان الاتحاد الأوروبي وراء هذا التفعيل للجنة، ولو أن الهيمنة الأميركية عليها بارزة ولا مجال لنفيها. وقد خرجت الرباعية بمطالب جديدة، وضعتها أمام السلطة الفلسطينية، ومنها الانتخابات الحرة، دون أن تلتفت للاحتلال الذي أعاد عقارب الزمن إلى ما قبل مدريد وأعاد احتلال كل الأراضي التي كان قد أعادها بموجب دينامية مدريد والتفاوض. ولما أتت الانتخابات لمصلحة حماس، قبل الاتحاد الأوروبي بتطبيق حصار شديد على الأراضي الفلسطينية ملتحقاً بالسياسة الإسرائيلية والأميركية.
    أما في ما يتعلق بإيران، فتبدو الشعوب الأوروبية غير مستعدة بعد لفكرة حرب عليها، رغم وجود «قبول عام لدى الأوروبيين بضرورة عدم السماح لها بامتلاك سلاح نووي». ويقول أحد الإعلاميين في بروكسل، المتابع لاستطلاعات الرأي التي تغطي مجمل دول الاتحاد، إنه «لاحظ أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تشن أية حرب في الشرق الأوسط إن لم يكن الرأي العام الأوروبي معها في بداية الأمر».
    أدركت واشنطن، منذ قامت بالحرب على العراق، أن الشعوب الأوروبية قاسية مع زعمائها، إذا لم تكن على اقتناع بسياسة ما. وقد تضررت سمعة أميركا كثيراً من جراء هذه الحرب ودفع أقرب حلفائها، ممن ساندوها فيها، ثمناً لمساندتهم هذه، فطار سيلفيو برلسكوني الإيطالي، ورحل خوسيه ماريا أثنار الإسباني، وشهد طوني بلير انخفاضاً تاريخياً لشعبيته أجبرته على إعلان انسحابه من السياسة نهائياً في نهاية السنة.
    وقد يكون إدراك القيّمين على الاتحاد الأوروبي لهذه الحيطة التي تأخذها واشنطن قبل أن تقوم بمغامرة في «محيطهم القريب»، هو السلاح الوحيد الذي يملكونه لمجابهة الولايات المتحدة في انتظار وضع سياسة خارجية موحدة تجاه الشرق الأوسط، يديرها جهاز واحد، وتخضع لقرارات موحدة، لأن مصير أوروبا مرتبط بمصير الشرق الأوسط الذي بات قريباً أكثر مما مضى.

    مساعدات
    ¶ يتواجد الاتحاد الأوروبي في معظم مناطق العالم حيث الكوارث الطبيعية أو النزاعات العسكرية. ويمكن للوجود الأوروبي أن يأخذ طابعاً عسكرياً أو إنسانياً، بحسب طبيعة الأزمة التي يواجهها. وفي بعض الأحيان، يكتفي الاتحاد بتمويل منظمات غير حكومية متخصصة ويدعمها سياسياً للقيام بمهمات المساعدة الانسانية.
    ونجد للاتحاد وجوداً مباشراً في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي العراق المحتل وفي أفعانستان وفي بعض الدول الأفريقية. وللاتحاد حضور على صعيد المساعدات الانسانية في شمال القوقاز في الشيشان وطاجكستان وفي أواسط آسيا وسريلانكا.
    وتدير نشاط المساعدات الانسانية وكالة أوروبية معروفة بـ إكو (ECHO)، تبلغ ميزانية عملها ٦٠٠ مليون دولار، ما عدا الميزانيات التي تصرف في الحالات الاستثنائية (مثل عام ٢٠٠٤ مع كارثة التسونامي وعام ٢٠٠٥ لمواجهة إعصار كاترينا في خليج المكسيك) وهي عملت منذ تأسيسها عام ١٩٩٢ في ٨٢ دولة.



    يوروميدشكّل مؤتمر برشلونة، الذي ضم وزراء الاتحاد الأوروبي ودول حوض البحر المتوسط عام 1995، نقطة البداية لتأسيس مرحلة شراكة جديدة ما بين الاتحاد الأوروبي وهذه الدول، بما في ذلك التعاون الثنائي والإقليمي، وهو ما يعرف باسم «عملية برشلونة» أو «الشراكة الأورو ــــــ متوسطية". ومن ملامح هذه الشراكة وأهدافها:
  • في المجال السياسي والأمني: تهدف «الشراكة» إلى توفير منطقة من السلام والاستقرار عبر وضع «الميثاق الأورو ــــــ متوسطي للسلام والاستقرار». إقامة الندوات وتقديم المساعدة والاستجابة وقت الكوارث.. في مقابل اتخاذ إجراءات كفيلة بوقف الهجرة والنزوح واللجوء.
  • في المجال الاقتصادي والمالي: تهدف «الشراكة» إلى إيجاد منطقة أورو ــــــ متوسطية للتجارة الحرة بحلول عام 2010.
  • في المجال الاجتماعي والثقافي والإنساني: تهدف «الشراكة» إلى تعميق التفاهم المشترك بين الثقافات وتنمية الموارد البشرية وتعزيز التبادلات ما بين المجتمعات.
    وتتكوّن الشراكة الأورو ــــــ متوسطية، من مجموع دول الاتحاد الأوروبي، ومجموعة من الدول العربية تضمّ كلاً من: الجزائر ومصر والأردن ولبنان والمغرب والسلطة الفلسطينية وسوريا وتونس... بالإضافة إلى كل من تركيا (دولة مرشحة للانضمام للاتحاد) ودولة إسرائيل.



    دستور أوروبا: «الأمر لي»؟!
    من المشاكل الرئيسية التي تعترض مسار الاتحاد الأوروبي، الخلاف على الهيكلية القانونية، أي الدستور الذي ينظّم طبيعة العلاقات بين الدول الأعضاء، وخاصة العلاقة التي تربط قرارات وبرامج البرلمانات الوطنية المحلية بقرارات وبرامج الاتحاد الأوروبي.
    هذا الموضوع، يراه البعض معطلاً للسيادة الوطنية، ويراه البعض الآخر مخلاً بتوازن الأحجام والقوى بين الدول الأعضاء، وخاصة بين الدول الأوروبية القوية، المعتبرة «دولا أساسية مؤسسة» وبين الدول الصغيرة، المعتبرة «دولاً ملحقة». باختصار، هو خلاف حول قضية المساواة والعدالة بين الدول، وبشكل أوضح، هو خلاف حول صاحب القرار الآمر!
    يهدف الدستور الأوروبي إلى إجراء إصلاحات في أوروبا، لكي تصبح مؤسساتها أكثر شفافية وفعالية وقابلة للمحاسبة، وأفضل قدرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. كما أنه يشير إلى الاتحاد الأوروبي على أنه اتحاد مكون من دول أعضاء، لكن اللافت في الأمر أنه لا يلزم إلا الدول التي اختارت حكوماتها المصادقة عليه.
    وترى بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، المتخوّفة على دورها وسيادتها الوطنية، أنه لا ضرورة لقيام دستور أوروبي، ما دامت الاتفاقات التي وقّعت عليها الدول الأعضاء ملزمة لها. ويضيف المنتقدون للدستور الأوروبي العديد من الأسئلة المتعلقة بإدارة الشأن السياسي والعلاقات الدولية بعد توسيع إطار العضوية للاتحاد من دون توسيع إطار المفوضية السياسية، وهذا الأمر مناقض للمبدأ الديموقراطي الأساسي للاتحاد الديموقراطي. وينتقد هؤلاء ضعف موقع البرلمان الأوروبي في مواجهة المفوضية الأوروبية، ويطالبون بتقوية العلاقة بين مواطني الاتحاد وبرلمانهم، كما يطالبون بالمزيد من الشفافية في توضيح القرارات ورسم السياسة المعتمدة للاتحاد..
    وفي المقابل، ينظر المدافعون عن ضرورة قيام دستور إلى أن الاتفاقيات القائمة في الاتحاد الأوروبي تشكل هيكلاً دستورياً، لكنها معقدة أكثر من اللزوم وغير واضحة. وبالتالي فإن الهدف من الدستور هو إعادة تنظيم وتجميع هذه الاتفاقات ومراقبة حسن تطبيقها. ويشيرون إلى أن مسوّدة الدستور الأوروبي، تنص في بعض بنودها على ضرورة قيام منصب رئيس المجلس الأوروبي ووزير مفوض للشؤون الخارجية، كما تنص في بنود أخرى على منح الحرية للدول الأعضاء بالخروج من الاتحاد إذا ما رغبت في ذلك، وهذا الأمر هو من صلب ديموقراطية العمل... هكذا يمكن تلخيص النقاط الخلافية المحورية حول مسوّدة الدستور الأوروبي بأربع نقاط:
    • خلافات تتعلق بتوازن المؤسسات والقدرة على اتخاذ القرارات.
    • خلافات تتعلق بالسياسة الخارجية والأمنية.
    • خلافات تتعلق بتعزيز وتوسيع المجال للحرية والأمن والقانون.
    • خلافات تتعلق بالوضوح في توزيع الصلاحيات وآليات أكثر قابلية للفهم.
    • خلافات تتعلق بطرق تنسيق أفضل للسياسة الاقتصادية والمالية
    حول هذه النقاط الخلافية المحورية، وهناك حالياً العديد من الدراسات التي رفعها مختصون بالشؤون القانونية، وهي قيد الدرس والتمحيص من قبل قانونيين ومستشارين في الدول الأعضاء لوضع الملاحظات النهائية قبل التصويت النهائي المقرر عام 2009. لكن، كيف هي الحال الآن؟ من الملاحظات اللافتة للنظر، أن تأتي معارضة الدستور الأوروبي من الدول الكبرى المؤسسة للاتحاد، وتحديداً من فرنسا وألمانيا وحتى بريطانيا.. حتى الآن رفضت فرنسا وهولندا ونصف ألمانيا (الرئاسة) المصادقة على الدستور، بينما تركت دول أخرى باب الموافقة أو الرفض مفتوحاً لطرحه على المواطنين في استفتاء شعبي.. على أي حال، فإن هذا الموقف هو لمصلحة عظمة الاتحاد الأوروبي، الذي يثبت قواعد الديموقراطية وحرية الاختيار.




    فرنسا لا تزال منقسمة على نفسها
    باريس ــ الأخبار
    احتفلت أوروبا أمس بالذكرى الخمسين لنشأة الاتحاد الأوروبي. لكن فرنسا التي رفضت باستفتاء شهير الدستور الأوروبي، على موعد أيضاً مع انتخابات رئاسية مهمة جداً. إلا أن من المفارقات أن معظم المرشحين يتجاهلون هذا الرفض الفرنسي الشعبي لأوروبا وكأن الاستفتاء... لم يكن.
    حملت «الأخبار» السؤال الآتي البسيط والشامل في آن واحد إلى «عينة» من المواطنين الفرنسيين في باريس وفي شمالي العاصمة ولكن أيضاً في مقاطعة بريتانيا الغربية:
    «ماذا تعني لك هذه الذكرى أنت مواطن الدولة الأوروبية الكبرى التي رفضت الدستور الأوروبي؟ ما رأيك في دخول تركيا إلى الاتحاد؟». قالت المواطنة الباريسية إفلين غارنيه (٤٦ عاماً)، «لم أكن من الذين صوّتوا سلباً في الاستفتاء. لكن في الوقت نفسه لا أرى ماذا قدمت لنا أوروبا منذ فشل الاستفتاء لجذب الذين صوّتوا بلا». وأضافت إفلين، وهي موظفة مصرف بعقود عمل غير دائمة، «هم يعماملوننا مثل الخراف. يظنون أنه بمجرد إعادة الاستفتاء بصيغة جديدة يمكن للـنعم أن تمر».
    وأوضحت إفلين، رداً على سؤال عن هوية الذين يفعلون ذلك، «جميع السياسيين الفرنسيين والأوروبيين... عفواً ليس هناك سياسيون أوروبيون، هناك فقط موظفون. ألم تسمع بالبيروقراطية الأوروبية؟».
    اختصرت إفلين بكلمات بسيطة ورصينة ما يحمله المواطن الفرنسي لأوروبا من رغبة بالالتحاق بهذه الهيكلية الكبيرة، التي لا يجهل الأبعاد التي يمكن أن تفتحها أمامه في ظل العولمة، إلى جانب خوف من بيروقراطية تسحق الخصائص الفرنسية.
    أما هوغ فييه (٥٤ عاماً)، وهو بلاسيه تجاري متنقل في باريس، فقال من جهته إن «أوروبا هي أمل لنا كي لا نخسر موقعنا المتقدم في العالم. يجب ألا ننسى أن الأميركيين، وكذلك الصين والهند، لن يقدموا لنا هدايا. إما أن نكون أقوياء أو نذهب ضحية هذه العولمة الهاجمة علينا». وأضاف «لكن في المقابل، إن السياسة ناقصة في الاتحاد الأوروبي العتيد الذي لا يفهم ولا يتعامل إلا بالأرقام ويهمل السياسة الاجتماعية. أما بالنسبة للاستفتاء، فأنا كنت مع هذا الدستور الذي سقط، ولكن بتحفظ شديد».
    كذلك قالت برناديت هوا (٦٧ عاماً)، وهي معلمة مدرسة سابقة، «تعرف أنني كنت صبية عندما بدأ الحديث عن تكتل الفحم ولم نكن نعطي أهمية لنتائج هذه الاتفاقات بين رجال السياسة. أهلي كانوا ينهشون الحياة نهشاً لتجاوز فترة الحرب القاسية. ولكن ما زلت أذكر أن أستاذاً في ثانويتي قال: لا أمل بالانتهاء من الحروب إلا بتوحيد أوروبا». وأضافت «عشت على هذه الفكرة، وكنت أويد معظم القرارات التي تقرب الدول الأوروبية وشعوبها بعضها من بعض. ولكن في الوقت نفسه أوروبا البيروقراطية ابتعدت عن الشعوب. أقول لك هذا مع أني متأكدة من أن الشعوب الأوربية قريبة بعضها من بعض».
    وقالت هوا، رداً على سؤال عما إذا كانت تؤيد انضمام تركيا إلى الاتحاد، «ألم تقرأ موليير؟! التركي بالنسبة إلى الأوروبي هو ياماموشي، وهو ليس اسماً بل تعبير عن أن الأوروبيين يخافون الأتراك إن لم أقل لك يكرهون الأتراك. بالنسبة إلي، ليس عندي أي مانع من دخول تركيا ولكن هل يقبل بذلك العنصريون؟ أنا لست عنصرية، ولكن أرى أن من الأفضل لأوروبا أن تزداد صلابة قبل أن تتوسع شرقاً وجنوباً».
    أما الفرنسي الجزائري الأصل مزيان مخلوف (٤٢ عاماً)، فقال من جهته «نعم. لا تزال لديّ علاقات مع بلدي الأصلي، وأعتبر نفسي فرنسياً وأنا مع أوروبا المنفتحة على العالم وخصوصاً الجنوب».
    وأضاف مخلوف، وهو عامل في مطبعة يقدم نفسه كفرنسي بربري جزائري الأصل من الجيل الثاني وعاشق لـ«زيدان ابن البلد»، «لم أؤيد الدستور خلال الاستفتاء، لأن كثيراً من مواده لم تكن مفهومة، كما أنه أهمل كثيراً الجانب الاجتماعي والسياسة الاجتماعية. وهو أعطى الأعضاء الجدد في الاتحاد الكثير من الميزات. لا يمكن أن أتصور تركيا عضواً في أوروبا. كذلك المغاربة يقال إنهم يريدون أن يصبحوا أوروبيين. على أوروبا أن تقفل باب الاتحاد وتلتفت إلى الداخل».
    وفي السياق، قال مامادو ديالي ٣٢ سنة، الفرنسي المالي الأصل، إن «أوروبا لا تعني لي أي شيء. ما أريده أنا هو المزيد من الرخاء هنا في فرنسا. طبعاً أعتبر الألمان والهولنديين والآخرين قريبين من الفرنسيين، ولكن هل هم قريبون مني؟ القريب مني ومن أمثالي هم فقراء ألمانيا وهولندا وبريطانيا. هؤلاء أياً كانت أصولهم يكونون قريبين بعضهم من بعض. لهذا أنا ضد توسيع الاتحاد الأوروبي وأطلب من السياسيين الاهتمام بنا»وأضاف ديالي، الذي يعمل سائق شاحنة في غرب باريس ويقدم نفسه كـ«فرنسي أبوه حضر من اماكو وعمل كناساً في بلدية، ويعتبر نفسه من الجيل الفرنسي الجديد الملون أزرق أبيض وأسود»، «لا أريد فقراء جدداً من الدول الشرقية لينافسوا فقراءنا هنا. كما أن هذا يزيد العنصرية لدى الفقراء ويزيد الشرخ بين الفقراء من أصول أوروبية والفقراء من أصول أفريقية أو عربية. لهذا لا أقبل انضمام تركيا لنا».
    كيفين دمانغيه (٢٤ سنة) طالب في مؤسسة مهنية، يعيش في بيت أهله. يقول «أنا ضد أوروبا مهما كان شكلها. أنا مع علاقات قوية مع الأوروبيين ولكن على فرنسا أن تكون سيدة سياستها وخصوصاً السياسة الاقتصادية والاجتماعية. أرفض أن يقرر بعض البيروقراطيين في بروكسل ما يجب أن نفعله هنا في فرنسا. تركيا؟ من الطبيعي أن أرفض دخولها إلى أوروبا، لأن هذا يعني فتح حدودنا لهجرة كثيفة من الأتراك الذين عندهم عادات مختلفة عن عاداتنا. يكفينا ما عندنا من غرباء».
    في المقابل، يقول جوستان إيغليه (٢٦ عاماً)، وهو موظف إداري في جامعة باريسية، «أنا مع أوروبا مئة في المئة، مهما كانت السبل. أنا مع توسيع الاتحاد لأنه يقضي على أي أمل بنشوء النزاعات بين الدول. تركيا. لمَ لا؟ أنا لا أرى أي فارق بين تركي ومغربي، ونحن هنا نعيش مع المغاربة الذين باتوا جزءاً من المشهد الفرنسي ومواطنين فرنسيين. هناك بعض العنصريين في فرنسا وفي أوروبا، لكنهم لا يعنون أي شيء. إن دخول تركيا يؤكد للمشرق وللعالم الإسلامي أن الاتحاد الأوروبي ليس موجهاً ضدهم بل هو اتحاد تعاون».
    انقسام في الرأي يعكس خلافاً في النظرة إلى الاتحاد داخل فرنسا نفسها. اختلاف لم يأت من العدم، يحكمه توزع الخريطة السياسية داخل هذا البلد. لكنه يعبّر أيضاً عن مشكلة داخل الاتحاد الأوروبي نفسه، أو على الأقل سوء تسويق لبرامجه داخل فرنسا.
    لا شك في أن الأشهر المقبلة حاسمة في تحديد خيارات الشعب الفرنسي من انتمائه الأوروبي، علماً بأن الرفض الفرنسي للدستور الأوروبي لم يكن رفضاً لأوروبا ككل بل رفض لطبيعة الاتحاد ونظرته إلى نفسه والدول الأعضاء فيه.
    وهكذا يبدو أن المواطن الفرنسي، بعد مئتي سنة ونيف على الثورة، لا يزال «ثورياً»، مستعداً لقول «لا» وقد قالها في استفتاء عام ٢٠٠٥ محدثاً زلزالاً في هيكلية الاتحاد. قضية ستكون من أولويات الرئيس المقبل لأن «لا» جديدة يمكن أن تكون ضربة قاصمة للاتحاد ولآمال الكثيرين من الأوروبيين الحقيقيين في فرنسا المتنوعة الصعبة المراس.



    برلين تحيي الذكرى: فرح ... ولا مبالاة
    برلين ـ الأخبار
    كيف استقبل البرلينيون الذكرى الخمسين لقيام الاتحاد الأوروبي؟ ما هي مشاعرهم في هذه المناسبة؟ هل تعني هذه الذكرى عامة الناس، كما تعني الأحزاب الألمانية؟ هل يشعرون بوقوعها ووقعها؟
    جولة سريعة على الناس العاديين، بعضهم ينقطع عن عمله للإجابة السريعة، والبعض الآخر يرفض الرد.. الخطير في هذه الجولة أن معظم الذين التقت بهم «الأخبار» «لا تعنيهم المناسبة»، أو هم «لم يسمعوا.. ولا يريدون أن يعرفوا..».. في المقابل، هناك تشجيع من آخرين، لمسوا خيرات الاتحاد في الانفتاح الحاصل وإزالة الحدود الجغرافية... ما سمح بقضاء «عطلة أجمل وأسهل.. وأوفر».
    تقول سابينا، وهي معلمة، «أنا فرحة جداً.. لم أتوقع إطلاقاً أن ينجح برنامج الاتحاد الأوروبي.. أستطيع بعد اليوم الانتقال حيث أريد، بسهولة. ربما كان ترحيبي بنجاح الاتحاد الأوروبي سببه أنني مواطنة برلينية شرقية قضيت معظم حياتي في مدينة منقسمة على ذاتها محاطة بالجدران، لكني أشعر بالفرح اليوم كما أشعر بالحرية.. أتمنى لو تسقط جميع الحواجز في جميع الدول».
    أما إيرينا، وهي ممرضة، فتقول «هذا الموضوع لا يهمني.. أنا لا أتابع السياسة ولا أريد أن أعرف شيئاً.. ماذا تقول؟.. انضمام تركيا؟ لا..لا.. يكفي ما عندنا حتى الآن... نحن نعمل ونتعب وما يعنينا هو الضمان الاجتماعي. بصراحة أنا خائفة من الإرهاب وفلتان الأمن...».
    بدوره يقول يورغن، وهو موظف، «حتى الآن، يســــــــــــير الاتحاد الأوروبي بخطى ثابتة، لكن لا تزال الفـــــــــــــــوارق بين الدول الأعضاء قائمة وتزداد الخلافات.. من الصعب الحكم بالنجاح أو الفــــــــــشل.. لا تـــــــــزال أوروبا في بداية الطريق».
    كذلك تقول روزا، وهي جامعية، «أنا سعيدة جداً ولم أتوقع أن أشهد هذا التحوّل الكبير في حياتي.. أتمنى نهاية الحروب وتضامن الشعوب بعضها مع بعض.. إذا كانت هناك انتخابات للبرلمان الأوروبي، فأنا أفكر جدياً بترشيح نفسي.. لمَ لا؟ ربما لديّ الحظّ في اختبار قدراتي».
    «وأخيراً.. أصبحنا نتمتع بعملة واحدة.. أعتقد أن ما حصل بين الدول الأوروبية على هذا الصعيد هو أكبر إنجاز»، يقول بيتر، المصرفي البرليني، مضيفاً «ربما لم يحن الوقت لتلمس هذا العمل الأوروبي الجبار، لكن أوروبا قطعت المشاكل والعوائق الخطيرة.. تبقى قضية اللغة والتواصل داخل الاتحاد الأوروبي.. هذه مشكلة لا أعرف كيف سنتخطاها ولكن لا شيء مستحيل».
    أما برهان، التركي الذي يعمل سائقاً، فيقول «هذا حلم كبيرنراه أمامنا يتحقق.. بصراحة أنا خائف نوعاً ما وأشعر بأن انضمام تركيا لا يزال بعيداً، لكن أنا أعيش حالياً في برلين ولا أشعر بكــــــــــوني غريباً.. هذه صورتي مع ابني.. أنا تركي مــــــــن هواة لعبة كرة القدم ومن مناصري فريق «بريمن»..كل شيء ممكن.. تسألني عمّا إذا كنت أحبّ الهمبرغر أكثر من الشاورما؟؟ لماذا لا تسأل الألماني إذا كان يحب الشاورما أكثر من «الهوت ــــــ دوغ»، أو تسأل الإيطالي إذا كان يحب الشاورما أكثر من البيتزا؟».
    الطالب اللبناني هاني المقيم في العاصمة الألمانية يقول «ستنجح بكل تأكيد لأن الواقع يفرضها.. إنها اتحاد وليست وحدة، يعني أن الشعوب الأوروبية فتشت عن القواسم المشتركة في ما بينها.. لم تتخلّ عن شخصيتها وثقافتها، بل هي تسير برضى وحرية الجميع، إنها برنامج ناجح وتاريخي وهي نجحت لأنها قائمة على وحدة المصالح وعلى مبدأ الحرية، بعيداً عن الشعارات الفارغة التي تخدّر الشعب بالأغاني والأناشيد الحماسية وتعمل عكس ما تنادي به.. أنت تعرف ماذا ومن أقصد.. فهمكم كفاية.. أتمنى حصول اتحاد مشابه في الشرق الأوسط، تبنيه الشعوب الحرّة، بالحوار والديموقراطية».