«المُنَمْنمَة» هي الصّورة المزخرفة في مخطوط. ومن المعنى الإصطلاحي لهذه الكلمة، تنطلق القاصّة السوريّة مي عطّاف لتصوّر لنا خمساً وعشرين مُنَمْنمَةً ضمن مخطوطها الخاصّ الذي سمّته «مُنَمْنمَات» (الهيئة المصرية العامّة للكتاب ضمن «سلسلة الإبداع العربي ــ 2023). ما يُميّز هذه المجموعة ليس موضوع المرأة فحسب، بل أيضاً الجسد الضاجّ بعبق الأنوثة والرّغبة، لتقفز بذلك القاصّة فوق سور العُرف والتّقاليد، فتُحرّر بطلاتها الواحدة تلوَ الأخرى من قيد الشرف، الذي اختصره المجتمع الأبويّ في جسد المرأة، ضارباً جميع القيم الأخلاقيّة الفعليّة بعرض الحائط.

في مُنَمْنمَةٍ بعنوان «المجنونة»، تُعرّي عطّاف المجتمع المُتناقض، الذي يرتدي نهاراً ثوب العفّة، ويخلعه بفُحشٍ عند المساء، مُشيرةً بذلك إلى تناقض السلوك البشري ما بين السر والعَلن. إذ عانت بطلة قصّتها من العنف الجسدي، الذي أودى بها إلى فقدان عقلها، بعد ركلات مُتتالية على رأسها من أخيها، حين اكتشف أنّها عاشقةٌ، فتتحوّل بذلك من دمية بداخلها أنثى، إلى امرأة مجنونة بداخل دُمية، تؤول الحدائق بيتَها، والأرصفة أَسرتَها، تُعاني من تجنّب غالبية الناس لها نهاراً، باستثناء قلّة ممن ما زالت هناك رحمةٌ في قلوبها، ومن اغتصاب الرجال لجسدها ليلاً. تنجح عطّاف عبر هذه القصّة في إيصال فكرة تشييء المجتمع الأبويّ للمرأة، واختزالها في جسد. «في النهار كان الرجال ذوو العفّة... كأنّي غير موجودةً، لا بل يشيحون أعينهم عنّي ككيس قُمامة أو يتلطّف قلّة منهم ويرمون لي بعض النقود. وليلاً كان جسدي ويدي تحت مخالب أنظارهم، يُناولني الرجل ذو العفّة قضيبه لأمسكه دون أن يتأفّف من يدي المُتسخة وأظافري السود، ولم يكن جسدي النّاحل برائحته التي تنزّ جروحاً وقيحاً وهم يعصرونه، قادراً على منع وحوش شهواتهم الهائجة، وحتّى وجهي لم يسلم من رغباتهم».
وفي مُنَمْنمَة بعنوان «مات مرتين»، تروي لنا حكاية المرأة الضعيفة أمام المجتمع، العاجزة عن مجرد التفكير في الطلاق من زوجٍ يخونها كلّ حين في خياله، ومرات عدة في واقعه، مُشيرةً إلى آثار التربية المنقوصة والمغلوطة، التي تقتل الأبناء مراراً وهم على قيد الحياة، وتودي بهم أحياناً إلى الموت الفعليّ نتيجة انصراف الوالدين عن الرعاية والاهتمام. في هذه القصّة، كان موت الابن الوحيد هو الخاتمة. موتٌ أفضى إليه استهتارُ الوالدين، وانصرافهما إلى الملذات والضياع، من دون أدنى مسؤولية تجاه روح أنجباها. «كان إبراهيم الأب يرغب في نساء الأرض؛ هكذا أفصح ذات يوم، لذا فتح محلاً لبيع اللانجري، حيث سيُلبّي بعض شهوته في معرفة مقاس صدر كلّ امرأةٍ، وصار يعرف البريئات منهنّ والفاجرات، فيستغل الاثنتين على حدّ سواء، ويضع حمّالة الصدر على صدورهنّ، أو يضع تفريعةً يستند بها على كتف المرأة، أو يشدّ السترينغ عند خصرها... البريئات يمنعهُنّ من الصدّ الخجل، والفاجرات يرغبن في لعبة الأنوثة معه. عمله كان أكثر من صاحب محلّ، لأنّه اشتغل على خياله أيضاً حدّ الانتصاب. «الثقة ليست بصمة، الثقة سلوك» قالت زوجته حين سمعت وشاهدت بأمِّ عينيها كيف يتعامل مع الزبونات، وكيف يُثار، وحينها عرفت لماذا يصرّ على ارتداء قميص طويل فوق بنطاله...»
ما يُميّز المجموعة ليس موضوع المرأة فحسب، بل أيضاً الجسد الضاجّ بعبق الرّغبة


وتتطرّق عطّاف في أكثر من قصّة إلى الحياة الزوجيّة، لتأخذنا عبرها إلى تفاصيل الحياة الزوجيّة وما يُصيبها من رتابةٍ وجمودٍ، وبشكلٍ خاصّ الزيجات الناجمة عن الأسس التقليدية لاختيار الشريك، حيث يحكم اختيار الرجل للمرأة أساسٌ وحيدٌ: أن تكون عذراء، وهذا ما اختتمت به عطّاف إحدى مُنَمْنمَاتها بعنوان «السرّ»، عبارةٌ يُمازح الزوج فيها زوجته بمزاح مُبطَّن بالجديّة قائلاً: «المهم كنتِ عذراء» ويقصد بذلك ليلة الدُّخلة، هذا الزوج الذي دائماً ما رافقته شكوكٌ حيال زوجته، لأنّها انطوائية، وتتجنب التعامل مع الآخرين، وقد طلبت منه ليلة الدّخلة بنفسها أن يتأكدّ من عذريتها! وتبوح الزوجة ــ التي تحاول طوال سنوات حياتها الزوجيّة أن تؤدي بصمتٍ جميع مهماتها وعلى أكمل وجهٍ، ومن دون أن تطلب مساعدةً من أحد، حتّى في لحظة مخاضها ــ بالسرّ الذي شوّه نظرتها للحياة، والحبّ، والأمان، والعلاقات. تحرشٌ تعرّضت له على مدار سنتين في طفولتها المبكِّرة من عمّها. «كان العم حنوناً، استيقظ ليلاً ليتأكدّ من أنّ الصغيرتين مرتاحتان في النوم.... في الصباح غادرت زوجته للعمل، والولدان إلى المدرسة، فقال للطفلتين: سنلعب بالماء ونستحم. خلع الثياب عن ابنته كمصيدةٍ لدعاء، لتطمئن وتشلح ثيابها طواعيةً، أمّا هو، فبقي بثيابه الداخليّة، ودخلوا الحمام وهو يقول: سنلعب بالماء ولا تُخبروا أحداً. ووعدهما بألعابٍ كثيرةٍ وهدايا.... صارت الحادثة تتكرّر والعم الخمسيني، يُحمّم دعاء مادّاً يده على أعضائها. ومرّةً ألهى ابنته، فوضعها في حوض الغسيل المملوء بالماء، وأدار لها ظهره، وقرفص قُبالة دعاء العارية التي تلعب بالفقاعات، وقربها لجسده يحضنُها، وأخرج عضوه لتُمسكه له وهو يضحك قائلاً: لديك نون صغير، وأنا نونو كبير...»
الأرملة الأربعينية التي تشتعل فيها رائحة الرّغبة فيطفئها شابٌّ عشريني، والثلاثينية التي تقف في نظَر المجتمع على عتبة «العنوسة»، فتشتدّ عليها نظراته الرقيبة قبل أن تقترف الخطيئة، والعاشقة التي تؤول مجنونة، والصبيّة المكتئبة التي تُفكّر في الانتحار، والزوجة التي يسافر زوجها فتتناول ألسنة الجارات سيرة وحدتها... بعض نماذج النّساء التي صوّرتها عطّاف في مجموعتها القصصيّة بجرأةٍ، لتقول إنّ المرأة ليست جسداً فحسب، بل هي روحٌ، فكتلةٌ من الشعور، فعقلٌ، يسكن ثلاثتُها جسداً معجوناً من العاطفة والرغبة.