تكتب الروائية الإيرلنديّة الشابة سالي روني (1991) جملاً متهورة وذكيّة ومزعجة أحياناً، عن الحياة الشخصيّة والعلاقات الحميمية كما يعيشها أناس عاديون في دبلن في أوقاتنا الراهنة. هكذا تصوّر الاغتراب والعزلة التي تقض مضاجع الجيل الجديد، وترصد تأثيرات الطبقة، كبنية اجتماعيّة عميقة ومعقدة، على مشاعر الأفراد، وأحلامهم، وسلوكياتهم اليومية، وعلاقاتهم، المختلّة غالباً، بالآخر. ويبدو أن سحر السهل الممتنع في نصوصها قد أصاب وتراً لدى القراء الشبان في العالم الأنغلوساكسوني، فنجحت رواياتها الثلاث (محادثات مع الأصدقاء/ 2017 ــــ أناس عاديون/ 2018 ــــ عالم جميل: أين أنت؟/ 2021) نجاحاً تجارياً مبهراً وسريعاً، وتكاثرت عليها الجوائز الأدبية، وتحوّل بعض أعمالها إلى مسلسلات تلفزيونية عرضت على أهم الشاشات في العالم الغربيّ، ووصفها النقّاد بأنها «أول روائية عظيمة من جيل الألفية بقصصها عن الحب في زمن الرأسمالية المتأخرة».

لكن روني، نجمة الناس العاديين، التي تتبنى فلسفة ماركسيّة في مقاربتها الذاتية للحياة، صدمت المجتمع الأدبيّ والفنيّ في 2021 عندما تبنت باكراً موقفاً نقدياً جذرياً من الكيان العبري، ورفضت ــ رغم ضغوط من جهات متباينة الأغراض ــ أن تمنح ناشراً إسرائيلياً حقوق نقل «عالم جميل، أين أنت؟» إلى العبريّة، معلنة التزامها بمقاطعة «إسرائيل» وتأييدها الصريح لنضال الشعب الفلسطيني. موقف يكلّف غالياً في المجتمعات الأوروبيّة التي تغلب الصهينة على مفاصل صناعة الثقافة فيها.
حرب الإبادة الإسرائيلية في غزّة أثارت في قلبها غضباً يعرفه الإيرلنديون جيداً، فأصبحت من أكثر المدافعين عن قضية الشعب الفلسطيني صخباً وبلاغة في العالم الأدبي، وربّما أشرس من يجرؤ على انتقاد التوحش الإسرائيلي علانيةً في أوروبا كلها. اندفعت لتنظيم أنشطة ثقافية في مدن إيرلندية وبريطانية بهدف جمع التبرعات لمنظمة تقدم العون الطبي للفلسطينيين (الأخبار 23 كانون الأول/ ديسمبر 2023)، وشاهد الملايين مقطعاً مصوراً لها بينما تقرأ «رسالة من غزّة»، وهي قصّة قصيرة كتبها القائد الفلسطيني الشهيد غسّان كنفاني. ونشرت الشهر الماضي مقال رأي في جريدة «الأزمنة» التي تصدر في دبلن قرّعت فيه النخبة الإيرلنديّة الحاكمة متمثلة في شخص رئيس الوزراء الذي كان يعتزم حينها زيارة البيت الأبيض في مناسبة عيد القديس باتريك. تحت عنوان «السيد رئيس الوزراء، إذا كان لا بدّ لي...» قالت إن «حكومتنا تنعم بالوهج الأخلاقي المتمثل في رفاهيّة إدانة المفجرين، بينما تحافظ في الوقت عينه على علاقة وثيقة مع من يزودونهم بالقنابل»، معتبرة أن الإبادة التي تنفذها القوات الإسرائيلية في غزّة تحظى بدعم وتغطية جوزيف بايدن «صديق إيرلندا الحميم» المقيم في البيت الأبيض. وتابعت إنّ «هذا يوضح بدقة نهج الحكومة الإيرلندية (المنافق) تجاه الحرب على غزة: انتقادات لاذعة مباشرة توجه إلى الدولة العبرية - الصغيرة نسبياً والمعزولة عالمياً بشكل متزايد -، وفي الوقت نفسه، يتم التعامل مع الولايات المتحدة، التي توفر أكثر من ثمانين في المئة من واردات إسرائيل من الأسلحة، فضلاً عن مليارات الدولارات من المساعدات، كنوع من الطرف الثالث المحايد، وبالطبع كصديق جيد جداً لإيرلندا. لكن ما يحدث في غزة ليس فقط حرب إسرائيل: إنها حرب أميركية، وعلى وجه الخصوص حرب بايدن، ولم يكن في وسع إسرائيل ببساطة أن تتحمل تنفيذ هذا الهجوم المطول والكثيف الموارد على الشعب الفلسطيني من دون الأموال والأسلحة الأميركية».
إن خطاب روني العالي ومنهجها العمليّ في الانتصار للضحايا ورجم القتلة أمر ذو مغزى كبير لدى الأجيال الجديدة التي لم يتكلّس وعيها بعد، فيما يأوي معظم الكتاب والأدباء البارزين في أوروبا والعالم العربي، إلى جبل الصمت ليعصمهم من بحر الدماء الفلسطينية المتدفقة حولهم بغزارة. لقد أرتهم أن الناس العاديّين، لكي يظلوا بشراً، فإنهم لا يلتزمون الصمت في زمن الإبادة، وأنّ التعافي من أكوام الإحباطات الفرديّة غير ممكن سوى بالانخراط في نضال جماعيّ ضدّ العدو الأساسي.