تقضي العجوز الوقت جالسة أمام دكة باب بيتها، سارحة ببصرها بعيداً. لا ترد على تحايا جيرانها، ولا تلعب مع الأطفال الصغار كما كانت تفعل في السابق، لم تعد تمازح الفتيات المراهقات اللواتي يتعمّدن المرور أمامها لترمي أمام مسامعهن بعضاً من ملاحظاتها، فمنهن من لها حوض عريض سيمكّنها من إنجاب أطفال كثر، بينما الأخرى قصيرة وممتلئة لها ردفان مثيران سيجن بهما زوجها المستقبلي... ليسمع إثر ذلك صدى قهقهتن داخل كل البيوت.ألف سكان الحي مشهد العجوز الجالسة أمام الدكة كأنها تمثال قديم. أعطوا تفسيرات لهذا التغيير الذي لحق مزاجها وحالتها النفسية، ومع مرور الوقت تناسوا أمرها وتركوها وشأنها.
يأتي حفيدها لزيارتها والاطمئنان على حالها يومياً، بما أنها قد رفضت بعد موت زوجها أن تغادر بيتهما، وفضلت أن تبقى هناك لتحرس ذكراهما من الاندثار، أن تنظف كل يوم الجدران والطاولات والأرضية من غبار النسيان. في بعض الأحيان، يتسلّق السور الواطئ ثم يقفز وسط البيت؛ إذ تكون قد أغلقت الباب بالمزلاج لأنه تأخر عن موعده، يجبرها على أكل الطعام الذي أحضره لها، يرافقها إلى فراشها ولا يتركها قبل أن تغفو.

أشباحٌ في غرفة (Pngtree)

فعل الشاب كل ما بوسعه ليمسح هذا الجمود عن محيّا جدته. وفي ذلك اليوم، أصر كثيراً وهو يكرر على مسمعها بأنه لن يبرح مكانه حتى تقول له سبب هذا الصمت المفاجئ الذي لم يعهده فيها، ألم تعد تحبه؟ هل فعل شيئاً أغضبها منه؟ غالب الشاب دهشته وهي تخبره بأنها رأت شبح والدها هنا، على هذه الدكة، ليقول لها بأنّها ستتمكن من بعث الموتى إلى الحياة، لكنه لم يخبرها متى أو كيف، كما لم يعد لزيارتها منذ تلك الليلة.
فهم الشاب بأن الخرف أخذ طريقه إلى عقل العجوز المسكينة. ولم يكن يعلم وهو يهمس في أذنها مطمئناً إياها بأن تنسى أمر شبح جده الذي ربما قد يكون الآن محلقاً في مكان آخر، وأن تفكر بدلاً من ذلك في شخص تحبه ومن ثمة تقوم باستحضار روحه، لم يكن يعلم ساعتها بأنه أعطاها عصا سحرية ستبعث فيها روحاً جديدة.
لقد ابتكرت «العجوز الصامتة» نظاماً دفاعياً ضد الموت، فتمكّنت من تشذيب الماضي وإعادة تدوير التفاصيل والذكريات. أصبحت النساء الأرامل يأتين إليها، ويترّجينها لتبعث أزواجهن من الموت. يكون نصيب كل امرأة، مرة واحدة فقط، عليها أن تلملم كل ما تريد قوله أو ما فاتها قوله أثناء حياتهما المشتركة، محبتها وشوقها وعتابها وضجرها من وحدتها... في هذه المرة التي لن تتكرر. لا أحد يعلم بشكل دقيق متى يظهر الطيف الزائر، فكل ما عليهن هو الانتظار والصبر. وكما لم يكن للأشباح وقت أو مكان محدد تظهر فيه، لم تكن تنذر بموعد اختفائها. كان بعضها عنيداً، يأبى أن يخضع لمحاولات العجوز، بينما البعض الآخر بدا كأنه كان ينتظر الفرصة للتجلي والانكشاف. لقد تعرّف الناس إلى موتاهم، رغم أن ملامح جميع الأشباح متشابهة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ذاع صيت «العجوز المعجزة»، فأصبح يتردد عليها جميع الأهالي بمن فيهم الرجال والشباب الذين فرّق الموت بينهم وبين أحبائهم.
عاش الناس هنا لزمن في مكان تسكنه الأشباح ومع الوقت، بدا الموت كأنه مسرحية تارة يكون بطلها الاختفاء وتارة الظهور. لقد شعروا أنّ الموت مجرّد خدعة لأخذ قسط من الراحة من الحياة، بينما الحياة هي فرصة لتدارك ما فات قبل الموت.
قبل وفاتها، قالت العجوز بأنّها ستتوقف عن التطفل على راحة الموتى وسكينتهم، رفضت توسّلات الأهالي وعادت إلى ركنها وصمتها المطبق. قضت أيامها الأخيرة عصية على البوح، رافضةً هذه المرة وإلى الأبد أن تفصح عما يدور في عقل أشباحها.
توفيت العجوز صبيحة اليوم، باغتها الموت في ركنها المعتاد، أمام الدكة حيث كانت شاخصة ببصرها بعيداً.
يُشاع أنها ماتت حسرة وقهراً وأن السبب الحقيقي وراء ذلك هو عجزها عن استدراج شبح زوجها. ويُقال أيضاً إنّه قد مشى في جنازتها الكثير من الأشباح.

* النورماندي/المغرب