‎‎«خالو الحاج» هو الاسم الذي يُنادى به في ما بيننا. أسد صغير، أو الحاج صالح، القائد الجهادي الذي يخشاه العدو، لم نكن نعرف عنه إلا أنه «مسؤول في الحزب على مستوى». حياته الجهادية لم تغب عنا كعائلة رغم سريّتها التامة. غيابه لأيام عن المنزل وحضوره لساعات محددة تحيطها السريّة والكتمان، جعلانا ندرك الأهمية الأمنية التي يتمتع بها «الخال».مرضه مثل عمله… سرّيّ
‎ما لم نكن نعرفه عنه هو مرضه الذي أبقاه طيّ الكتمان حتى الأيام الأخيرة. فمن المعروف أن مرض السرطان يمرّ بمراحل عديدة وطويلة قبل الوصول إلى الأسوأ، ويتطلب العلاج جلسات طويلة، مؤلمة وراحة من بعدها. لكن كما كلّ شيء استثنائي يحيط «بالحاج»، لم نعرف شيئاً عن هذا المرض طيلة فترة علاجه التي استمرّت لسنة وبضعة أشهر. فهو لم يلزم الفراش طوال تلك المدة، بل كان ينهي جلسة العلاج ويذهب للعمل في ميدان الجهاد. ظلّت الأمور على حالها ولم ينتشر خبر مرضه في أوساط العائلة إلا قبل ثلاثة أيام من وفاته. عندما شعر بقرب الرحيل، طلب من المعنيين المحيطين به إبلاغ إخوته بوجوده في المستشفى.


‎«خالو الحاج بالمستشفى»، جاءني الصوت عبر الهاتف. للوهلة الأولى اعتقدت أنه، إما تعرّض لإصابة في مواجهة ميدانية أو استشهد، فهكذا خبر كنا نتوقّعه دائماً. لكن ما لم يكن في الحسبان أن من لم يقدر عليه عدوّه، نال منه المرض الخبيث. توجهنا إلى المستشفى. الصدمة اعتلت وجوه الحاضرين، الجميع يلتمّس الدعاء بالشفاء، الحزن يسيطر على المكان، الصمت يخيّم داخل صالون الانتظار يخرقه صوت تمتمة قراءة القرآن، وصوت أمي تنادي «الحاج أسد... دخيلك يا ربّ».
‎وسط الدموع والبكاء، حضورٌ أمني كبير وإجراءات استثنائية تحصل، شيء من الاستغراب بدأنا نشعر به. تهمس أختي في أذني «ليش كل هالشباب هون؟ معقول كلو كرمال خالو؟». بعد يومين، كان دوري في البقاء إلى جانبه وقراءة القرآن. صوت أجهزة التنفس لا يزال يطنّ في أذني، لكن صمت تلك الأجهزة كان ينذر بالأسوأ. توقفت الماكينات عدة مرات، هرع الطاقم الطبي لإجراء الإسعافات اللازمة، ويده التي أمسكت يدي كانت تطمئنني إلى أنه لا يزال بيننا. اطمئنان لم يطل كثيراً، فما هي إلا ساعات قليلة حتى تلقينا الخبر المفجع. «خالو الحاج أعطاكم عمره». هذه كانت كلمات أخي الذي كان إلى جانبه في آخر لحظاته، اتصل بنا بعدما لقّنه الشهادة.

‎من يكون خالي؟
‎إلى الجنوب توجّهنا والعائلة، صور «القائد الحاج أسد صغير- الحاج صالح» تملأ شوارع بلدة الخرايب. إجراءات أمنية مكثّفة قبل التشييع، تسألنا من جديد «لم كلّ هذا؟ من يكون خالي؟». الجواب الأول كان عند وصول نعشه إلى الضيعة، تحيطه وفود أمنية وسياسية لم نعهدها عند تشييع الشهداء الذين مضوا من قبل. الجواب الثاني كان الاتصال الذي تلقّته العائلة من سماحة السيد حسن نصرالله الذي قدّم فيه واجب العزاء، بعد ذلك انتشر بيان بخط يده يَنْعى فيه «الحاج صالح».
‎مسيرة طويلة من الجهاد والتضحية، كان لا بد أن ترتقي به إلى مراتب عسكرية وأمنية متقدّمة، ورغم انشغالاته الكثيرة إلا أنه كان حريصاً على متابعة تفاصيل العائلة. هو خرّيج ماجستير في العلوم الإلكترونية والموارد البشرية، وصاحب ثقافة علمية، ويمتلك رؤية تحليلية. كنا نلجأ إليه لأخذ النصيحة في أمور حياتنا، وكان مرشدنا لاختيار اختصاصاتنا الجامعية ووظائفنا، ولم يكن الأمر يقتصر على الحديث العام، بل كان دائم المتابعة والسؤال للوصول إلى المراد.
‎على الرغم من قلة لقاءاتنا، إلا أن اللقاء به كان سرّياً. «جاء خالو الحاج» كانت كلمة السرّ في ما بيننا. يأتينا بضحكته المستبشرة، يحدثنا بهدوء وطمأنينة، ويسأل عن حال العائلة من الكبير إلى الصغير. كان هدوؤه قوّتنا، يبتسم لنا، ويرانا رغم كل المخاوف التي كانت تلاحقه، ولا يخلو الأمر من المزاح والضحك رغم الهيبة التي يفرضها وجوده بيننا.
‎وكان كذلك مع المجاهدين الذين يعتبرونه القائد، الأب، وأمين أسرارهم. لم تكن العلاقة التي تربطهم به علاقة مسؤول بعناصره بل كان أباً حنوناً مطّلعاً على أحوالهم كما يذكر أحد المقرّبين منه. يروي لنا أنّه عندما يستيقظ، كان يقوم بجولة تفقّدية يومياً للسؤال عن أحوال جميع الإخوة العاملين في فريقه، ويطمئن عليهم، من الأكل والشرب والملبس قبل ذهابهم إلى مَهامهم.
‎هذه بعض من تفاصيل حياة الحاج أسد، الذي عرفته ساحات الجهاد باسم «الحاج صالح»، بكلّ صفاته وإنجازاته التي لا تدلّ إلا على اسمه «أسدٌ للميادين». رحل تاركاً وصية تتجلّى بالحكمة والبلاغة، تتضمن كل ما يجب على المؤمن الاقتداء والعمل به ليرتقي بدنياه إلى آخرةٍ حسنة، وسيبقى القدوة لآلاف المجاهدين من بعده وعزاً وفخراً لأبناء عائلته وبلدته.