في خضمّ الأزمة الاقتصادية، يأتي عدد كبير من القضاة إلى مكاتبهم. يتابعون الملفات ويستمعون إلى المتخاصمين ويصدرون الأحكام. ولكن، ما يحتاج إليه هؤلاء القضاة هو قليل من واجبات الدولة تجاه المرفق القضائي. قد تحتاج العدالة إلى ميثاق وطني عنوانه «حماية العدالة»، يبتعد عن كل ما هو مبتذل -ولو كان غير مكتوب- يوافق عليه كل أهل الحكم، ويتعهّدون فيه بالقيام بكل ما يمليه عليهم الدستور أو القوانين المرعيّة الإجراء، ما يسهم في تحقيق هدف واحد هو احترام القضاء وتيسير سبل التقاضي على المتقاضين وتسهيل سبل إصدار الأحكام التي يصدرها القضاة ويساهم بها موظفو العدلية.من الظلم القول إن القضاء في لبنان فاسد بالمطلق. فالمرفق القضائي يضمّ، كحال باقي المرافق، القضاة والموظفين ذوي النزاهة اللافتة، ومنهم الموظف النشيط الذي لا يترك واجبه، ومنهم الفاسد، ولكن الفاسدين قلّة. وإذا شاء المعنيون في الحكم مساعدة العدالة، فما عليهم سوى تنفيذ القوانين.

ضمانات القضاة
وضعت المادة 20 من الدستور أسس العمل القضائي المستقل حين نصّت على أنه يقتضي على القانون أن يحفظ للقضاة والمتقاضين الضمانات اللازمة. وللتفصيل، مثلاً، إن ما ينبغي القيام به، إضافة إلى الإنصاف المادي للعاملين في هذا المرفق من قضاة وموظفين، هو حمايتهم من كل ضرر، كما ينصّ قانون حماية كاشفي الفساد الرقم 83/2018 في مادته السابعة، سواء كان الضرر في الإطار الوظيفي كالإجراءات التأديبية الصريحة أو المقنّعة وأي عمل، أو امتناع، أو التهديد بأيّ من الإجراءات، ما يؤثر سلباً على وظيفتهم أو عملهم، وحمايتهم من الضغوط أو الإجراءات الثأرية أو التهديدات ومن التعرض لضرر جسدي أو معنوي أو التعرض لضرر مادي بالأملاك أو بالأموال الشخصية.

(هيثم الموسوي)

أما عن تولّي قضاة لا يتجاوز عددهم الـ 600 لعمل يطاول ستة ملايين شخص (بين لبناني ومقيم)، هو أمر يستدعي الوقوف عنده. فهل من المنطق أن يتولّى قاضٍ واحد عشرة آلاف دعوى؟ وهل يرضى أيّ عاقل بذلك من دون وجود جهاز بشري متكامل يعاونه ويضع بتصرفه الإمكانات المادية واللوجستية لتحقيق العدالة؟ رغم ذلك، نجد أن عدداً كبيراً من القضاة والموظفين يقومون بالعمل اليومي من دون كلل، ومن المفترض الوقوف إلى جانبهم.
إن الاستنكاف عن إحقاق الحق، أي امتناع القاضي عن القيام بواجبه، يجيز للمتضرر مداعاة الدولة بشأن المسؤولية الناجمة عن أعمال القاضي، سواء كان ممّن يتولّون الحكم أو التحقيق أو النيابة العامة وذلك وفقاً للمادة 741 من قانون أصول المحاكمات المدنية. كذلك، شُدّدت عقوبة التدخل في القضاء والتوسّط لدى قاضٍ في أي نزاع بموجب المادة الأولى من القانون الرقم 165 تاريخ 08/05/2020 (تعديل المادة 419 من قانون العقوبات)، فمن التمس من قاضٍ أي طلب متعلق بدعوى أو بمراجعة قضائية، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة تتراوح بين عشرة أضعاف الحدّ الأدنى للأجور ومئة ضعفه، والتي تتراوح حالياً بين 90 مليوناً و900 مليون ليرة. كما تُشدّد هذه العقوبة إذا كان الفاعل أو الشريك أو المتدخل أو المحرّض موظفاً.

تيسير الإجراءات تساعد العدالة
كان ينبغي على القوى الأمنية تطبيق قانون تعزيز الضمانات الأساسية وتفعيل حقوق الدفاع الرقم 191/2020، بإشراف القضاة، ولكن من يؤمّن للقضاة وسائل حديثة تجعل القيام بواجبهم عملاً عادياً لا يستدعي اختراع وسائل لتنفيذه، كطلب القضاة من المحققين تصوير إفادة الموقوف بهواتفهم وانتظار تحميل هذا الفيديو، إذ إن راتبه لا يمكّنه من شراء تجهيزات إزاء تقصير الدولة. فحين صادقت الأخيرة على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهنية بموجب القانون الرقم 185 الصادر بتاريخ 24/5/2000 والتي جاء في المادة 11 منها بأنه يتوجب على الدول الأطراف وبقصد منع حدوث التعذيب، أن تبقي «قيد الاستعراض المنظّم قواعد الاستجواب، وتعليماته وأساليبه وممارساته»، كان يتوجب عليها تيسير هذه المهام على القاضي، وليس تخييره بين غضّ بصره عمّا يجري في التحقيق أو حرمانه من الانتقال إلى مكان التحقيق عبر محاصرته مادياً براتب لا يكفيه لعشرة أيام.
تحديث أصول الإبلاغ للخصوم هو من الإجراءات التي ينبغي تسهيلها على القضاة، ولا سيّما بعد صدور قانون المعاملات الإلكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي الرقم 81 تاريخ 10/10/2018، الذي عرّف في مادته الأولى «السند الإلكتروني» وعدّه كالسند العادي أو الرسمي، كما حدّده قانون أصول المحاكمات المدنية، والذي يصدر بالشكل الإلكتروني، وقد تناول التوقيع الإلكتروني كذلك، إلا أن المرسوم التطبيقي لهذه المادة لم يصدر تنفيذاً للمادة 8 من القانون نفسه. إن مثل هذه الإجراءات يسهّل عمل القضاة والمتقاضين والموظفين على حدّ سواء، فهل يعقل أنه لا يمكن إبلاغ متقاض بمستند ما أو تبليغ ما بواسطة البريد الإلكتروني؟ في حين أن معاملات بمليارات الليرات تُجرى إلكترونياً وبالضغط على زر واحد. حتى إن قانون التجارة البريّة نصّ على معاملات مُرقمنة بعد تعديله بموجب القانون الرقم 126/2019، ما يمكّن القضاة والمحققين والمتقاضين وحتى التجار من التقاضي بيُسر وسهولة ومن دون تأجيل يليه آخر.
إنصاف القضاة وموظّفي مرفق القضاء يستدعي إجراءات تسهّل عملهم


من جهة أخرى، تنصّ المادة 98 الجديدة من قانون التجارة البريّة على أنه يتوجب «على أعضاء مجلس الإدارة، بعد تأسيس الشركة، أن يجروا المعاملات الأولية المتعلقة بالنشر عن طريق الإيداع والتسجيل لدى أمانة السجل التجاري المختصة، وذلك خلال الشهر الذي يلي التأسيس، تحت طائلة غرامة يقررها القاضي المشرف على السجل التجاري، تفرض على الشركة وتتراوح بين خمسمئة ألف ليرة ومليون ليرة»، وأنه «يمكن إتمام المعاملات المذكورة في الفقرة السابقة عبر الوسائل الإلكترونية التي يحددها وزير العدل، على أن تتم بالوسائل الإلكترونية حصراً بعد سنتين على نفاذ هذا القانون ويكون النشر الإلكتروني على موقع السجل التجاري متاحاً لاطلاع الجمهور».
ولكن ما يجري في معرض نزاع يتعلق بشركة ما مثلاً، هو أن القاضي لا يمكنه فوراً بيان معلومات تفصيلية عن أي شركة، وقد يكلّف الخصوم بذلك، فيستمهلون لإبراز ما يلزم من قلم السجل التجاري، في حين أن الولوج إلى هذه المعلومات ينبغي أن يكون متاحاً للعامّة، فكيف للقاضي!
وكذلك كان يقتضي للدفاتر التجارية، التي تعدّ دليلاً أساسياً في النزاعات القضائية، بموجب المادة 16 الجديدة من قانون التجارة البريّة المعدّل، أن تُصبح متوفرة بواسطة التطبيق الرقمي إلزامياً بعد سنتين من صدور القانون، ولكن وضع خصائص التطبيق الرقمي المحصّن تُحدّد معاييره بموجب مرسوم يصدر بناءً على اقتراح وزيرَي العدل والمالية، وهذا المرسوم لم يصدر بعد.



رقمنة القضاء
أجاز القانون الرقم 306/2022 تاريخ 3/11/2022، الرامي إلى تعديل بعض مواد القانون الصادر بتاريخ 3/9/1956 المتعلق بسرية المصارف، للقضاء المختص الحق بطلب معلومات من المصارف عن أي مشتبه فيه، إذ لا يتمتع الموظف العمومي بالسرية المصرفية. فلنفترض أن القضاء أراد الاستطلاع عن الحساب المصرفي للمشتبه فيه، وأرسل كتاباً إلى جمعية المصارف وبدأت رحلة هذا الكتاب بالتجوال لأشهر، وذلك بعد تعذّر طباعته لعدم وجود مستلزمات الطابعة أو لغياب الكهرباء، فيصبح القاضي مخيّراً بين إبقاء المشتبه فيه موقوفاً لحين ورود الجواب أو إخلاء سبيله إذا ما تأخر، فماذا لو أجزنا للقاضي إرسال الكتاب بالبريد الإلكتروني وورود الجواب إلكترونياً أيضاً؟
كان يبحث القضاة، قبل المكننة ورقمنة البرامج الإلكترونية للقوانين، في آلاف الكتب والأوراق وفي مكتبات عديدة عن القوانين والأحكام والاجتهادات، أما اليوم وبعد رقمنتها من قِبل شركات في القطاع الخاص والجامعة اللبنانية وبعد انتشار البرامج الإلكترونية القانونية باتت مهمّتهم أسهل، ماذا لو سهّلنا عليهم الإجراءات كافة؟
إنصاف القضاة وموظّفي مرفق القضاء لا يكون مكتملاً بالكلام عن استقلال السلطة القضائية فحسب، بل يستدعي إجراءات عمليّة تمكّنهم من القيام بواجباتهم من دون تكبّد عناء لا لزوم له.