في غياب الإحصاءات الدقيقة، اعتاد اللبنانيون لعبة الأرقام المنفوخة. حتى اليوم، لا يزال كثيرون مقتنعين بأنّ الحرب الأهلية قضت على نصف مليون شخص. بعد انتهاء الحرب، سادت قناعة أخرى بوجود مئة ألف جنديّ سوريّ في لبنان. وفي عام 2005، تبارى اللبنانيون في حشر الملايين في ساحات لا تتّسع لأكثر من 350 ألف شخص. بعد اندلاع الحرب على سوريا، قرّروا أنّ في لبنان أكثر من ثلاثة ملايين سوريّ. وعندما حصل الانهيار، خرج من يعمّم أنّ مئات المليارات من الدولارات هُرّبت إلى الخارج. وحتّى عند الحديث عن موظّف فاسد، لا يقبل أحد بحصوله على أقلّ من خمسين مليون دولار أو مئة مليون! طبعاً، من دون أن ننسى الـ 12 مليون لبناني في المهجر، وكأنّ نصف اللبنانيين - على ما يقولون - الذين هاجروا خلال عشرين عاماً، بين القرنين التاسع عشر والعشرين، أنجبوا 12 مليوناً، بينما النصف الثاني الذي بقي في لبنان لم ينجب أكثر من ثلاثة ملايين. وحتى عندما يطرح موضوع العمالة اللبنانية في الخليج، تُطرح أرقام توحي وكأنّ هناك مليون لبناني يعيش في الجزيرة العربية! وقسْ على ذلك.ولأنّ لعبة الأرقام محفوفة بالمخاطر؛ كونها تُلامس القاعدة السّكانية لقوى النظام الطائفي، فإنّ فكرة الإحصاءات مرفوضة فعلياً. لكن، على سبيل المثال، أظهرت لوائح الشطب قبل الانتخابات النيابية الأخيرة، وأقلام اللبنانيين في الخارج، أنّ هؤلاء ليسوا بالرّقم الذي يقلب المعادلات داخلياً، حتى لو أثّروا في هذا المقعد أو ذاك، وأنّ نسب التصويت بحسب توزيعهم الطائفي ليست فارقة إلى حدّ يسمح بالقول إنّ المسلمين في الخارج أقلية مقابل غالبية ساحقة للمسيحيين. وفي انتخابات الداخل، حتى لو حصل تضارب في قراءة الأرقام، فإنّ النسب الإجمالية تشير إلى أنه لو أُتيح التصويت لمن هم في الثامنة عشرة، لكان عدد المسيحيّين سيقارب نحو ثلث اللبنانيين، وربما يصل إلى حدود خُمْس السكان.
صحيح أنّ لعبة العدّ ليست في مصلحة أي لبنانيّ يريد وحدة هذا الكيان وتماسكه، لكنها تصبح إلزامية عندما يطلق التقسيميّون فكرتهم الجديدة عن الانفصال، لأنّ الأمر لا يتعلق عندها بالعدد فقط، بل بأمور كثيرة، أهمها مكان السكن. إذ إنّ هناك مناطق (يفترض التقسيميون أنها جزء من كيانهم المنشود) خالية من أبناء الطائفة التي يسعون إلى «إنقاذها» بالانفصال. فيما ثلُث سكان المناطق التي يعتبرونها ذات صفاء طائفي، هم من غير أبناء الطائفة نفسها. لذلك، فإنّ فكرتهم تقوم على طرد هؤلاء، وعلى أن يشكل الخوف والاضطهاد المضادّ، وإغراء «البلد الجديد» أسباباً كافية لانتقال أولئك إلى هذه المناطق. وهو ما حصل خلال تجربة الانفصال الأولى، عندما طرد حزب الكتائب ومتفرعاته كلّ من هو غير مسيحيّ بالهوية، أو القناعة من مناطق سيطرته، قبل أن يطلق عملية «النّقاء بالولاء» ضدّ خصومه من المسيحيين أنفسهم.
يبدو أنّ هناك حاجة إلى نبش الماضي؛ حتى لو خرج من يقول إنّ ذلك نكء للجراح. إذ ثمة ضرورة لإنعاش ذاكرة جيل من اللبنانيين، وإطلاع جيلين آخرين على حقيقة ما كانت عليه الأمور يوم سادت الحروب الأهلية لبنان، وتوضيح الصورة الافتراضية عن مآل العيش في ظل حكم أقلية انفصالية فاشية، وعن طبيعة التحالفات الداخلية والخارجية التي تنشدها هذه الجماعة عندما تتحكم بالأمور.
المرض اللبناني بالأرقام الفلكية يجعل أصحاب طروحات الفدرالية يتخيّلون بلداً مختلفاً عن لبنان اليوم


الفكرة هي أنّ النّسخة الجديدة من التقسيميين ليست أفضل من القديمة، بل إنها، ربما، أقلّ معرفة وجدية وخبرة وقدرة على تحقيق الهدف ذاته. وإذا كانت الأطماع الأميركية والإسرائيلية، في مرحلة ما بعد قيام كيان العدو، فرضت وقائعها على لبنانيين قبل أن تقودهم نحو الحرب المجنونة، فإنّ هذه الأطماع لم تغب بعد. لكن، ما تغيّر هو أنّ العدو الذي كان يستطيع أن يصل بجيشه إلى بيروت لتنصيب رئيس كما فعل في 1982، لم يعد قادراً على تكرار ذلك. حتى الأميركيون أنفسهم يكادون يستنفدون كل أسلحتهم، بما فيها الحصار الاقتصادي والعقوبات المالية والتحريض وأعمال التجسس الفتنوية. مع ذلك، فإنّ من سيقفون مرة جديدة إلى جانب الانتحاريين الجدد يعرفون أنّ المطلوب هو أمر واحد، وهو إدخال لبنان، مجدداً، في أتون حرب تقضي على ما تبقى من دولته، وتُهجِّر أكثر من نصف أهله. والمشكلة أنّ التقسيميين الجدد يفترضون أنّ اللحظة الراهنة مناسبة، فيتخذون من كل حراك داخلي عنواناً لرفع رايتهم. هكذا فعلوا مع حراك 17 تشرين، وبعد انهيار النظام المصرفي، وهكذا يفعلون اليوم مع المعركة الرئاسية، ومشكلة النزوح السوري. وسيرفعون كل الوقت صوتهم ضد سلاح المقاومة التي لا تعنيهم بشيء، لأنّ «علاجهم» لمشكلة الاحتلال الإسرائيلي هو الاستسلام والتطبيع مع العدو. وهم لا يرون حاجة إلى علاقة بين لبنان وسوريا، واعتبار الأخيرة معبراً نحو العالم العربي، إذ إنهم، أساساً، يفضّلون هجرة مسيحيّي الأردن وسوريا والعراق إلى لبنان إن كانوا أغنياء، أو إلى الخارج إن كانوا فقراء.
أمر آخر لا يقلّ خطورة، وهو أنّ أصحاب هذه النظرة العنصرية لم يعيشوا هذا القلق عندما قامت سلطة «داعش» في العراق وسوريا، وكادت تصل إلى لبنان. ولم يقل هؤلاء كلمة عن عمليات الإبادة التي تعرّض لها المسيحيون، بل كانوا يتساءلون في غرفهم الضيقة: لماذا لم يغادروا هذه البلاد أصلاً؟ وبعضهم كان يعتقد أنّ اضطهاد هذه الأقليّات من جانب «داعش» سيتحوّل إلى سلاح إضافي لإخافة من تبقّى من المسيحيين، سواء بعنوان التطرّف السنّي أو التطرّف الشيعي.

* غداً: المسألة اللبنانية أم المسألة المسيحية؟