التصوّرات النظرية لمشاريع الفدرالية، والتي تنتهي إلى توزيع «المقاطعات» الجديدة في لبنان، ليست من النوع القابل للنقاش. ذلك أن من قام بهذا التمرين كان يفترض به الاستعانة بعلم الرياضيات، وهو ما لا يظهر أبداً في كل ما يطرحه دعاة تغيير النظام في لبنان والذهاب إلى فدرالية لا تعني عملياً سوى التقسيم على أساس طائفي.من يردْ، اليوم، في عام 2023، أن يطرح هذه الفكرة، يجب أن يكون مستعداً بصورة منطقية، وأن يطرح ما هو قابل للتحقّق. إلا أن مشكلة هؤلاء تبدأ من تجاهلهم الأسباب الدفينة لخراب لبنان، عندما يتناسون مئة عام من عمر «الشركة اللبنانية» لصاحبها الغربي الذي لم يسأل أحداً من أهل هذه الأرض عمّا قرره من دول وكيانات. كما يتجاهل هؤلاء (عمداً أو سهواً) التاريخ الذي صاحب الولادة العبثية لهذا الكيان، ويقفزون فوق سنوات من الدم والدموع والنار والحديد، إذ لم يكن أمراً عادياً أن يتجاهل دعاة العودة الفعلية إلى لبنان الصغير، أحوال من سلخوا من مجموعات كانت متجانسة طائفياً ومذهبياً، وتنطق اللغة نفسها ويتعامل بعضُها مع بعض تجارياً، مثل سكان الجليل في شمالي فلسطين أو سكان الجانب السوري من الحدود مع لبنان بحدّيه الشرقي والشمالي.
من لا يريد نبش الماضي، ربما يفعل ذلك بقصد إخفاء مسلسل الجرائم التي ارتُكبت بحق أبناء هذه المنطقة على مرّ العقود. لكن أصحاب هذه النظرة، يفتقدون حتى لخيال المبدع عندما يرسمون حدوداً لمناطق وكانتونات ومقاطعات. ومشكلة هؤلاء الأولى والأهم، أنهم يتصرفون وكأنّ شيئاً لم يحصل، أو كأن الأمور لا تزال على حالها منذ مئة عام. ثمة تجاهل غير مفهوم لحقائق صلبة حول تطور الوضع السكاني في لبنان، وتطور الأحوال الاجتماعية والمعيشية للبنانيين، وفوق ذلك، حجم المتغيّرات القائمة من حولنا.
هل فكّر هؤلاء مثلاً، في واقع بيروت الكبرى اليوم، أم يعتقدون أنها لا تزال كما كانت عليه قبل خمسة أو أربعة أو حتى ثلاثة عقود؟ ومن يملك الحق في تقرير مصير سكانها ومالكي عقاراتها ومصانعها وجامعاتها ومستشفياتها، أم هو يفكر في إعادة التاريخ إلى الوراء وربما يذهب به خياله، إن لم يكن عقله العنصري، أن يطالب هؤلاء بالرحيل، لأنه قرّر أن هذه المدينة لا تخصّهم إدارياً، أو أنه سيفرض عليهم قوانين بحسب انتمائهم الطائفي والمذهبي، أو مكان المولد وغير ذلك من الصفات التي تعكس التخلف؟
هل فكّر المنظّرون للفدرالية في الاستعانة بشركات الهاتف الخلوي، أو دائرة الضرائب البلدية، أو مؤسسة كهرباء لبنان، لمعرفة طبيعة التوزّع السكاني في أكثر من منطقة لبنانية؟ هل يعتقد هؤلاء بأن جبل لبنان لا يزال كما كان عليه الأمر قبل خمسين سنة؟ وما هو واقع الحال اليوم في البقاع أو الشمال أو الجنوب؟
ولأن للحقائق الصلبة وقعها القاسي أحياناً، صار لزاماً التوجه مباشرة إلى أصحاب هذه النظريات، رغم أنهم يمثلون أقلية غير متماسكة، ولو أنهم يعملون وسط مزاج مضطرب عند كثيرين. وإذا كان يحق لأي كان أن يفكر كيفما يريد، فالأمر لا يبقى هكذا عندما يختار البعض طريقاً يقوده فعلياً نحو الانتحار، وهو انتحار لا يصيبه وحده بل يصيب الآخرين رغماً عنهم.
النقاش الواقعي يفرض القول إن معظم دعاة هذه الطروحات هم من المسيحيين، ومن الموارنة على وجه الخصوص، ويؤيدهم بعض المسلمين، من الشيعة والدروز والسُّنة أيضاً. وهؤلاء المسلمون يريدون أصلاً الانتماء إلى «لبنان القديم»، ويأملون بنمط عيش يتوافق مع النمط المقترح من فريق التقسيم. ولذلك، يصعب أن تجد اليوم بين المسلمين حالة وازنة تقبل النقاش في فكرة التقسيم، لكن ستجد حشداً كبيراً من المسيحيين يستمعون إلى هذه التوجهات، وإن كانت القوى السياسية الممثّلة للناخب المسيحي اليوم، تعرف أن نظام مصالحها يتحقق من خلال فكرة المحاصصة مع الفريق المسلم، وهو ما فعلته خلال كل العقود الماضية، بمعزل عن هوية الراعي الخارجي لكل تسوية.
أصحاب الأفكار الفدرالية يتجاهلون عن عمد حجم التغييرات الهائلة التي أطاحت بالحدود الإدارية لما يفترضونه مقاطعات متجانسة


بناءً عليه، يفترض بالغالبية اللبنانية التي تريد بقاء لبنان موحّداً أن تتحمل المسؤولية، وأن لا يقتصر موقفها على رفض فكرة التقسيم، بل عليها البحث عن علاج جذري، لا يستهدف حصراً «هواجس العقل الأقلوي»عند البعض، بل يجب النظر إلى الأمر بهدف تقديم علاج للمسألة، باعتبارها تخصّ كل اللبنانيين الذين يعانون الأمرَّيْن من هذا النظام المتخلّف، سواء كان اسمه ميثاق الـ 43 أو الطائف أو ما يعادلهما. وإذا كان أصحاب طروحات التقسيم لا يعتبرون تجربة الجبهة اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي تعبّر عنهم، أو يأخذون على قادتها فشلهم في تحقيق الهدف، فإنه لا يمكن لهؤلاء أن يعتبروا فشل القوى اليسارية أو العلمانية في فرض النظام غير الطائفي بالمطلق، وكأنه غير صالح، بل ربما يكون فشله ناجماً عن سوء إدارة من قبل قيادات هذه القوى.
الواقع البسيط يقول إن فكرة التقسيم دونها أهوال كبيرة، أبرزها أن الوقائع اللبنانية اليوم لا تترك مجالاً لعيش هذه الفكرة، وليس في لبنان من قوة قادرة على فرضها بالقوة. أما الإصرار على القول بأن «هذا ما يناسبنا ونقطة على السطر»، فهو كلام لا مكان له في قوانين العلوم السياسية ولا في آليات بناء الدول، ولا في تطوير أنظمتها، وهو برغم كل الكلام المشذّب والملطّف، لا يخفي ما تضمره الأنفس من سعي مجموعة إلى الانفصال، بحجة أنها لم تعد تستفيد من النسخة الجديدة للبنان.
لقد بالغ المسيحيون في رفع سقف هواجسهم وإعلاء شأن مخاوفهم، فيما يبالغ المسلمون في الرهان على عامل الوقت حتى ينال الضمور من المحتجّين، فلا يبقى لهم حول ولا قوة لفعل أي شيء. وفي الحالتين، سيكون صادماً القول لكل هؤلاء إن علاج المسألة اللبنانية، قد لا يستقيم قبل إسقاط الحدود التي رسمها الاستعمار لتسهيل قيام إسرائيل... سيكون من الغريب إقناع هؤلاء بأن إزالة إسرائيل شرط إلزامي لقيام بلد عربي قادر على تأمين الحقوق لجميع أبنائه!