«وَمَنْ ضَرَبَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ يُقْتَلُ قَتْلًا.
وَمَنْ سَرَقَ إِنْسَانًا وَبَاعَهُ، أَوْ وُجِدَ فِي يَدِهِ، يُقْتَلُ قَتْلًا».


سفر الخروج (21:15-16)

«التناقضات بيننا وبين أعدائنا هي تناقضات ذات صفة عدائية. أمّا في صفوف الشعب، فإنّ التناقضات بين الكادحين إنّما هي تناقضات صفتها غير عدائية، في حين أنّ التناقضات بين الطبقات المستغَلَّة والطبقات المستغِلَّة تحوي إلى جانب صفتها العدائية صفة أخرى غير عدائية».

حول المعالجة الصحيحة للتناقضات بين صفوف الشعب - ماو تسي تونغ


بين العهد القديم والثورة الثقافية البروليتارية العظمى في الصين قرونٌ وقرون، تخلّلها صعود لثقافات وإمبراطوريّات وأديان وإيديولوجيّات ساهمت بشكل أو بآخر في تكوين عالمنا ومفاهيمه اليوم. لذلك تتداخل قضيّة قتل شرطيّ فرنسيّ لصبيٍّ فرنسيٍّ (وإن كان ليس من أبناء جلدته)، مع مشادّاتٍ كلاميّة بين جزائريّين ولبنانيّين على منصّات التناحر الاجتماعي، مع الاستحقاق الرئاسي وملفّ النازحين والتنقيب عن الغاز، وصولاً إلى «التّوجُّه شرقاً». فلنفكّك المشهد من ضواحي باريس إلى مستعمراتها مروراً بالجمّيزة في الطريق إلى مضيق تايوان.
اشتعلت فرنسا جرّاء موجة غضب ناتجة من جريمة قتل مصوّرة بالفيديو من عدّة زوايا، ارتكبها شرطيّ بحقّ قاصرٍ إثر مخالفة سير في ضاحية نانتير الباريسية. معظم الغاضبين هم من أصول أفريقيّة من كلتا ضفّتي الصحراء الكبرى، وتترجم الغضب تظاهرات وشغباً وإعادة توزيع مباشر للثروة لمن استطاع إليه سبيلاً على طول فرنسا وعرضها، بل تخطّى حدود فرنسا ليصل إلى المناطق المُفَرْنَسَة من بلجيكا وسويسرا. ردود الفعل تفاوتت بين الشماتة بـ«الأمّ الحنون» لتسامحها واستقبالها لمهاجرين من مستعمرات فرنسا السابقة والتقيّؤ العنصري تجاه المهاجرين الوقحين الذين يعضّون اليد التي تطعمهم. إذا ما لجأنا إلى حكمة آيَتَي الإصحاح 21 من سفر الخروج المذكورتين في أعلى المقال، تُقتَل قتلاً فرنسا لسرقة الإنسان بالإضافة إلى من ضربها لعصيانه أحد الوالدين. طبعاً، إنجيل لوقا في العهد الجديد كان أكثر تسامحاً وأوصى بإدارة الخدّ الآخر عند التعرّض إلى الصفع. هذه التناقضات موجودة بين عهد وآخر، فما بالك عندما تتعدّد الأديان والأعراق والشعوب. فما الذي يجعل شعوباً تتماهى مع نقيضها الظاهري، وتتناقض مع من هو في صفّها؟
نتجت من أحداث فرنسا نقاشات كثيرة على جبهات عديدة. هناك تأثيرات الحرب في أوكرانيا على الوضع المعيشي في أوروبا، ومحاولة ماكرون كسر التبعية الفرنسية للولايات المتّحدة إثر زيارته في نيسان الماضي للصين، وسياسات الهجرة ورهاب الاختلاط، والتنظيم المُدُني وأحزمة البؤس، والتنافس «الديكنزي» الأزلي بين مدينتي باريس ولندن، وغيرها، لكن أهمّ هذه الجدالات في ما يخصّ «لبناننا» كان استقتال فئة من اللبنانيين، المسلمين والمسيحيّين والحمدُ لله، في الدفاع عن جريمة الشرطيّ الفرنسيّ (خوفاً على سمعتهم كمهاجرين فئة أولى ولأنّ «من ضرب أباه وأمّه يقتل قتلاً»)، وهو ما لم يفعله رئيس فرنسا. أثار ذلك استنكاراً واسعاً من الأشقّاء الجزائريين، لكنّ أكثر من الاستنكار كان هناك استغراب من موقف هؤلاء الذين يفترض أن يكونوا ضحايا للاستعمار الذي عانت منه ولا تزال تعاني من تداعياته الجزائر وعدد غير قليل من جاراتها جنوب الصحراء. هو كذلك، لكنّ الفرق بين لبنان والجزائر هو أن الجزائر نالت استقلالها وكتبت تاريخها، بينما لبنان «المستقلّ» عن فرنسا حجب أغنية لفيروز (نعم، أيقونة لبنان والعرب فيروز)، ومنع بثّها على الإذاعات اللبنانيّة عندما غنّت إحدى بطلات التحرّر والتحرير في الجزائر جميلة بوحيرد، وكان ذلك نزولاً عند رغبات باريس بعدم انتقال عدوى التحرّر الوطني إلى أرجاء الوطن العربي. الأنكى هو أن «براغماتية» لبنان المقاومة ارتأت أن المرحلة القادمة تتطلّب تقارباً مع الأم الحنون لإنجاز مشروع شفط الغاز من بحرنا لتعويض فرنسا جزءاً من خسارتها للغاز الروسي الذي حطّ رحاله شرقاً.
هناك ظاهرة عند أكثر من فصيل في عالم الحيوانات، حيث تلتهم الأم رضيعها الضعيف أو المريض الذي لا يملك فرص العيش من أجل أن تتغذّى به وتتمكّن من رعاية إخوته وإعطائهم فرصاً أكبر للنجاة. هذا هو واقع حنان الأم عند الوحوش، والسؤال هنا كيف يتصرّف الوحش الفرنسي عندما يضطر أن يختار بين أولاده؟ وما هي «العاهة» التي تقتضي التخلّص من ولد ما لصالح الأصحّ؟ المهاجر اللبناني هنا يقول لأمّه أنا الأصحّ، بينما فرنسا ترى في لبنانه بأمّه وأبيه، وغازه ومرفئه وكهربائه، فريسة ضعيفة مريضة جاهزة للالتهام. في هذه الحال، من المنطق أن يقلق نجيب ميقاتي وكومبرادورية البلد على وضع ماكرون وأسياده في شركات ومنظّمات الاستعمار الجديد، لكن من ليسوا في تلك الطبقة المستغِلَّة مصلحتهم، رغم التناقضات، هم أبناء جلدة الشعب المستغَلّ.
الأنظار بعد أوكرانيا تتجه نحو النشاط العسكري في مضيق تايوان ولعبة الشطرنج التي تدور هناك بين أميركا والصين. ليس من الضروري أن نحجّ شرقاً كغيرنا، لكن في ظل انعدام الحلول غرباً، لا ضير في أن نلقي نظرة شرقاً على الأقلّ، علّنا نجد حلولاً غير عدائية لتناقضاتنا.