الأب باسم الراعي * لا يوضع السيّد محمد حسين فضل الله خارج السياق التاريخيّ الذي أتى فيه فكره، إذا كنّا نريد حقّاً فهمه، في وقتٍ كان لبنان وفلسطين والعالم العربيّ يمرّون في مخاضاتٍ وتحوّلات كبيرة سياسيّة ومجتمعيّة وحتى دينيّة. لذلك عكف في الليالي وعلى ضوء الشموع في الملاجئ على العمل على همٍّ مزدوجٍ: التوفيق بين الحوار في التواصل مع الآخر المختلف والعيش معه وبين متطلّبات المرحلة في المجال الإسلاميّ. انعكس هذا الهمّ في كتابيه «الحوار في القرآن» و«الحركة الإسلاميّة هموم وقضايا». من ينظر في مشروع الكتابين يقف على حقيقة التحدّي الذي فرضته المرحلة والخيارات التي كانت تشدّ بالسيّد يومها. لكن مع تقدّم سِنِي الحرب والتحدّيات التي عرفها على صعيده الشخصيّ، تبلورت لديه حقيقة الحوار أكثر، إذ اختبر كما يقول الفيلسوف غبرييل مارسيل تحدّي المفاجئ الذي يدهم الوجود، والذي تمثّل بإشكاليّة نفي الغيريّة.




في هذا الجو بدأت محوريّة الآخر تتكشّف لديه من منطلق النصّ الدينيّ أي من الوحي المقيم للغيريّة وجوباً كتعدّد، محوريّة الآيتين لديه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا * إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ {الحجرات: 13}، و﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ {آل عمران: 64}. ومن ثم كغيريّة تخصّ الفرد مقاومةً للإلغاء، محوريّة الآيتين لديه: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ {الإسراء: 85}، و﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ {فاطر: 18}.
سار السيّد في خيار محوريّة الآخر، فأتت الغيريّة متصلة بفهمه للحوار، حيث الحقائق والأفكار السامية والمحقّة لا تُفرض فرضاً، بل تَفرِض ذاتها.
يتّضح معنى هذا الخيار عيشاً ممّا نقله السيّد هاني فحص عمّا جمعه بالسيّد: «أحببت فيه عمله وديمقراطيّته المركزيّة أو مركزيّته الديمقراطيّة على غير نموذج الأحزاب المركزيّة التي تدّعي الديمقراطيّة في إدارة المؤسّسات وهي شديدة المركزيّة. وكنت أتورّط في نقده فكرياً وعملياً وسياسياً في حدود، وفي حضوره.. ولا يزعل. وأنقده في حضور محبّيه بقوّةٍ أو قسوةٍ أحياناً ولا يصلني منه إلّا عتابٌ قليل.. أمّا أمام كارهيه فقد تورّطت بما جلب لي خطراً وعقاباً».
الآخر في غيريته هذا هو العنوان الذي دافع عنه السيّد فضل الله بمفهومه الحواريّ الحياتيّ.
تُحْفَظُ هذه الغيريّة في الإطار الحواريّ على أساس أن الحوار غير الجدل الذي يحمل «معنى الصراع» في حين أنّ الحوار يتّسع «له ولغيره» لأنه يتصل بالحياة، و«الحياة كلّها تتحاور ولكن بصمت، وقد نجد هناك حواراً لا نفهمه ولكنّنا نحسّه [..] نتعلّم منها كيف نستطيع أن نتكامل وأن نتوازن».
من هذا المنطلق يكون الحوار المتّصل بالحياة قيمةً تنبثق من حقيقة أن الحياة تمثّل تفاعلاً حيوياً يساهم إذا عاشه المرء في كسر «الجمود الفكريّ والروحيّ والثقافيّ الذي يمثّله الاستغراق في الذات أو في الانتماء أو التقليد، ليتحوّل الإنسان إلى حالةٍ متحجّرةٍ جامدةٍ لا تملك أيّ حيويّة، أو حركيّة في اتجاه احتمالات التفكير بالآخر، أو إمكانات التغيير والانتقال، في المستوى الثقافيّ، من موقع إلى موقع، ومن انتماء إلى انتماء». والدخول في هذه الحركيّة، يعني أيضاً أنّ التحدّيات والهواجس وغيرها تأخذ بعداً واقعياً مكوّناً من «أوضاعٍ تاريخيّةٍ وسياسيّةٍ واجتماعيّة».




بهذا يصير الحوار فرصةً للعمل على هذه الأوضاع ومناسبةً لوحدة تجمع النظريّ والواقعيّ في قلب التعدديّة، «فلا يبقى [الإنسان] في ازدواجيّة تجعله يتحرك بين الشيء ونقيضه» ولا منعزلاً، بل يترك الفكر يحرّك ويحدّد مجالات الالتزام. هكذا يصير الآخر المختلف شريكاً حراً ومتفاعلاً، والحوار وسيلةً صادقة، إذ إنّ ما «لا أرضى بما تفكّر ولا ترضى بما أفكّر [..] لا تكون حالةً [..] عدوانيّة [بل] مسألةً واقعيّةً عمليّةً [..] تنطلق لتطرح فكرك بكلّ عناصره ولتعرف كيف تهندس الطريق إلى عقلي وأعرف كيف أهندس الطريق إلى عقلك».
يكتمل هذا المعنى للحوار في البعد الحياتيّ، فلا يكون في جنس الملائكة أو لغواً، بل تكويناً لمسؤوليّةٍ مشتركة، وزّع السيّد مضامينها على مستويات ثلاثة:
المستوى الدينيّ: الدين قيمٌ تعاش، لا مجرّد عقائد تطاع. إنّه دين الإنسان وللإنسان، من منطلق قيمٍ مشتركة، ذلك أنّ «القيَم الروحيّة والأخلاقيّة ليست مُجرَّد عناوين سحريّة في عالم الفكر والمثال، بل هي عناوين واقعيّة تدفع الإنسان إلى الدفاع عن الضعفاء والمحرومين والمشرَّدين والمظلومين وإلى الاستشهاد في سبيلهم بالمستوى الذي يجعل ذلك شهادة في سبيل الله». هذا الموقف يعيد الروحيّة إلى الدين ويحرّره من الطائفيّة التي هي عشائريّة متستّرة في الدين.
بدأت محوريّة الآخر تتكشّف لديه من منطلق النصّ الدينيّ أي من الوحي المقيم للغيريّة وجوباً كتعدّد


المستوى الاجتماعيّ، المرتبط بالمستوى الديني، إذ يصير الدين عندها: «مُثقفاً، مُفكّراً، واعياً [..] فكراً ارتآه [الإنسان] وإيماناً التزمه في مقابل فكر ارتآه الآخر وإيمان التزمه الآخر [فيكون الدين] قضيّة فكرٍ وفكرٍ لا قضيّة غريزةٍ وغريزةٍ فيما هي قضيّة طائفةٍ وطائفة».
المستوى السياسيّ، يجمع فيه السيّد حصيلة تفكيره السابق، حيث إنّ السياسة هي مصبّ الحوار الحقيقيّ، لأنّها تعمل على واقعيّة هي الإنسان في واقعه الواقعيّ. هنا يحضر مفهوم «دولة الإنسان» التي يقول فيها: «من الممكن جدًّا للبنانيّين أن يثيروا مسألة النظام المستقبليّ على أساس إنسانيّة الإنسان اللبنانيّ ولا أريد أن أضيف تعبيرات أخرى [..] عندما ندعو إلى دولة الإنسان في لبنان فلكي يتحرك اللبنانيّ بإنسانيّته [..] ليفكّر بشكلٍ مطلق».
هكذا ترجم السيّد إيمانه في الآخر بالتمسك بغيريته، مع عدم التنازل عن هوّيّته أو المساومة عليها، جاعلاً هُويّته باباً إلى الغيريّة، لا سجناً لها أو مقيداً لها أو مَهلَكةً لها.

* خادم رعية القدّيسة تقلا في شامات، وأستاذ مادّة الفلسفة في عدد من الجامعات والمعاهد
المراجع:
- السيد محمد حسين فضل الله، الحوار في القرآن، مكتبة الشهيد الصدر، 1982م، ص 18 - 20.
- محاضرةٌ ألقاها العلامة فضل الله في كليّة الآداب الإنسانيّة ـ البقاع، بتاريخ 5/5/1994، ص 2 - 4.
- السيّد محمد حسين فضل الله، في آفاق الحوار الإسلاميّ - المسيحيّ، ط 1994، دار الملاك، المقدمة، ص 8-13، 80-81، 95 - 96 و227-228 و243.
- العلامة محمد حسين فضل الله، من أجل الإسلام، دار التعارف للمطبوعات، 1989، ص 547 - 548.