«اللي ما عندو تيتا وجدّو ما يجيب ولاد»، يقول الممثل باسم مغنية، فيما «يفتي» الناقد والإعلامي جمال فياض بأنّ على الأمّ أن «تربّي ولادها. أمّا إذا بدها تتحرّر وتشتغل وتشوف حياتها ولمّا تخلّف تترك للمريضات نفسياً يربّو ولادها، فعليها أن تنتظر مثل هذا وأكثر...»، قبل أن يطلّ مقدّم البرامج وسام بريدي في فيديو على إنستغرام، ليؤكّد أنّه «إذا مش قادرين تعطوا وقت لولادكن بأوّل عمرن وتكونوا حدّن بلا ما تتجوّزوا وبلا ما تجيبوا ولاد». علماً أنّه في مواجهة الردود الغاضبة التي تلقّاها، حاول بريدي تبرير موقفه بمقطع مصوّر آخر يندرج في خانة «جاء ليكحّلها فعماها». هذه عيّنة بسيطة من المطالعات الفذّة لبعض المشاهير اللبنانيين الناشطين على مواقع التواصل تعليقاً على الفيديو الذي انتشر كالنار في الهشيم من داخل حضانة في منطقة الجديدة في المتن، يظهر إحدى العاملات وهي تعنّف الأطفال.بكبسة «كيبورد»، حرفت مجموعة من الرجال أصحاب الامتيازات النقاش عن مساره وفرّغته من جوهره الحقيقي المرتبط بسيّدة مجرّدة من كلّ أشكال الإنسانية مسؤولة عن العناية بصغار في مكان يُفترض أن يكون مساحة آمنة لهم، إلى لوم للأهل، خصوصاً الأمّ كالعادة، وتحميلها مسؤولية ما جرى لابنها أو ابنتها.

أرشيف (مروان طحطح)

مجدّداً، تجد النساء أنفسهنّ في دائرة الاستهداف في مجتمع ذكوري نصّب نفسه وصيّاً عليهنّ. تشكيك في الأمومة وحُكم على مدى الأهليّة والحبّ والاهتمام، لدى نساء معظمهنّ عاملات ويشكّلن حجراً أساساً في دعم عوائلهنّ، لا تمنّ عليهنّ الدولة الكريمة سوى بسبعين يوماً (إجازة أمومة).
لسنا في صدد استعراض الأسباب الكثيرة والمنوّعة التي تدفع الأهل لإرسال أولادهم إلى الحضانات، إلا أنّ المشهد يحيلنا إلى حالات لا تُعدّ ولا تُحصى حُمّلت فيها مثلاً المرأة المُغتصبة مسؤولية ما ارتُكب في حقّها، فـ«أبصر شو كانت لابسة»، أو اعتُبرت ضحية العنف الأسري سبباً لما حلّ بها لأنّه «مدري شو عاملة أو قايلة»... كل ذلك في ظلّ أداء إعلامي مخزٍ كالعادة، يمعن في الاستغلال والاستعراض، ضارباً عرض الحائط بأدنى المعايير المهنية والأخلاقية والإنسانية كرمى للإثارة والمشاهدات. لكن هنا تجدر الإشارة إلى أنّ الاهتمام الإعلامي الواسع الذي لم يقتصر على الساحة الداخلية، أسهم في الضغط على الجهات المسؤولة للتحرّك.
الأستاذة والباحثة في علوم الإعلام والاتصال، نهوند القادري، تؤكّد «أننا في مجتمع يعاني من حالة إفلاس أو خواء على المستويات كافة، فيما الإعلام يعزّز هذا الواقع، مهرولاً خلف الإثارة والمشهدية، مدّعياً الإنسانية والمعرفة والموضوعية، في وقت يدور فيه حول المشكلة المطروحة بعيداً عن الخوض في صميمها، مغفلاً السبب، مهتماً بالنتيجة، مجهّلاً الفاعل الحقيقي. يتصدّى للحكم على الموضوع وإن كان أصلاً غير مؤهّل ومُهيَّأ للعب هذا الدور».
الخفّة في التعاطي مع المواضيع على اختلافها، تشمل أيضاً الفضاء الافتراضي: «نرى حتى من يريد التعليق على السوشل ميديا، ينصّب نفسه خبيراً وعالماً، يلوم الناس حتى وإن كانوا ضحايا، ويوزّع الشهادات... إنّه عصر التخبّط والضياع في معنى الأشياء التي تحيط بنا».
لا يخفى على أحد أنّ لحادثة الحضانة جذوراً اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وتربوية: «الأمر معقّد جداً». وفي هذا السياق، تشدّد القادري على أنّه «أصبحنا في وقت، كلّ شخص هو دولة بحدّ ذاتها، يظنّ أنّه على دراية بكلّ شيء وقادر على البتّ في أي شيء في أي وقت، يستسهل رمي التبعات على الآخرين، معفياً نفسه من أي نقد ومساءلة، في ظلّ غياب أي تلاقٍ حول نقطة مشتركة متعلّقة بالمصلحة العامة. عندها، يعمّ استسهال الحكم على الأشخاص».
في مجتمع مأزوم على الأصعدة المختلفة، هناك من يرى أنّ ما نشهده على الشاشات وعلى الساحة الافتراضية من فوضى، وعنف وتلوّث فكري ومعرفي، وقلب لسلّم الأولويات، وضياع في نقاط الارتكاز، نتيجة «طبيعية»، خصوصاً عندما ذهب بعيداً في الهذيان، فألقى اللوم على الأمهات كونهنّ اخترن العمل وأرسلن أولادهنّ إلى دور الحضانة. غير أنّ هذا «الطبيعي» اليوم نابع من النظام الرأسمالي - النيوليبرالي الذي يحدّد كل مفاصل الميديا، ومن ضمنها شبكات التواصل، فهو من يرعى المفاهيم المحرّكة لهذه الشبكات، ويؤطّر المعاني، ويحرك الأفكار ويتلاعب بالمشاعر تبعاً لمصالحه. «هذا النظام يحرّك كلّ شيء»، يخوض حروب الداتا، ونحن مجرّد وقود لها، وفق ما تقول القادري.
الأمّهات اللواتي تعرّض صغارهنّ للعنف تحت تأثير صدمة كبيرة ويحتجن دعماً وليس جَلداً


أمام حفلة الجنون التي شهدتها الساحتان الإعلامية والافتراضية، استحالت مواقع التواصل الاجتماعي منابر للاستنكار والتوعية إزاء ما يجري. هكذا، لجأ اختصاصيون كثيرون إلى صفحاتهم للتعليق لمحاولة إعادة تصويب النقاش بعيداً عن وضع الأمّهات في قفص الاتهام كما درجت العادة. ومن هؤلاء الاختصاصية في علم نفس الأطفال وفي الإرشاد العائلي، رهام منذر، التي استنكرت الهجوم الذي يُشنّ على النساء في هذه الحالة. وتقول لـ «الأخبار»: «تربّينا في مجتمع قائم على الحكم على الآخرين وإلقاء اللوم عليهم جزافاً من دون معرفة ظروفهم أو مراعاتها. مجتمع اعتدنا فيه أن يلوم الأهالي أولادهم على الأمور التي يفعلونها. وهو جزء لا يتجزّأ من حياتنا اليومية...». وتتابع: «الأمّهات موضع انتقاد، ولا سيّما بسبب تعدّد الآراء حول أساليب تربية الأطفال. وكلّ يريد إبداء رأيه حول ما يتعيّن على كلّ أمّ فعله، من دون الأخذ في الاعتبار المناسب لها ولأسرتها، والظروف المحيطة بالقرارات، سواء كانت مادية أو معنوية أو اجتماعية أو دينية...».
وعلى الصعيد نفسه، تشدّد منذر على أنّ الأمّهات اللواتي تعرّض صغارهنّ للعنف يعشن حالياً تحت تأثير صدمة كبيرة تماماً كما أطفالهنّ، فيما الذنب يأكلهنّ لأنّهن لم يستطعن حمايتهم من الأذى، «وما بالك بشعورهنّ في وقت تُوجَّه إليهنّ أصابع اللوم والاتهام؟ كلّ ما يحتجنه هو الدعم والمؤازرة، وحتماً لا الجَلد».
هنا، تشير رهام إلى أنّ مَنْ يُطلقون الأحكام، وعلى السوشل ميديا خصوصاً، يفعلون ذلك انطلاقاً مما عاشوه أنفسهم. هكذا، نجد شخصاً لا يعاني من ضيق مالي مثلاً وقادراً على إبقاء أطفاله في المنزل لغاية سنّ متقدّمة، يطلب من الجميع فعل الأمر نفسه في بلد يرزح تحت مختلف أنواع الأزمات والأوضاع المتردية اقتصادياً واجتماعياً!