مع كل خطوة متقدّمة على أعتاب الرئاسيات، يتضح شيئاً فشيئاً حجم المواجهة الصامتة بين السعودية وحزب الله. بين زيارة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان والتحرك القطري نحو لبنان رئاسياً، ثمة مساحة لموقف سعودي يتبلور منذ أشهر، لكنه لا يزال ضمن خط تصاعدي واحد. إلا أن الالتباس الذي وقع فيه خصوم السعودية وحلفاؤها أن كلا الطرفين كانا يحتاجان إلى إعلان صريح وواضح عن النهج الذي تتبعه، وتسمية الأشياء بأسمائها. وهذا ليس حال الدبلوماسية السعودية تجاه لبنان.منذ أن تقدّم الملف الرئاسي، بدأ حزب الله والمقرّبون منه يغمزون من أقنية السفارات ودعم المرشح الرئاسي في مواجهة الحزب، حتى قبل أن يعلن الثنائي الشيعي في شكل واضح وصريح مرشّحه رئيس تيار المردة سليمان فرنجية. كانت الإشارة إلى السعودية على أنها تقف خلف المعارضة قبل أن تسمي النائب ميشال معوض مرشحاً لها وبعد تسميته.
جاء الاتفاق السعودي - الإيراني ليسحب الكلام الموجّه ضد السعودية إلى صيغة ولهجة مختلفتين، فبدأت رسائل الرئيس نبيه بري وحزب الله تسعى إلى تلطيف الأجواء مع الرياض، وانتظار ما سيسفر عنه التفاهم الإقليمي. وما بين المرحلتين كلام يتكرر عن لسان بري بأن لا فيتو سعودياً على أي مرشح، في حين كان فريق الثنائي يتحدث عن رضى سعودي على المبادرة الفرنسية القائمة على فرنجية رئيساً والسفير نواف سلام رئيساً للحكومة. بدوره، وجّه فرنجية - قبل أن يعلن الثنائي الشيعي ترشيحه - رسائل مماثلة لطمأنة السعودية في أحاديث واضحة منذ كانون الثاني وشباط، إلى أن تبنّى الثنائي ترشيحه، فأعاد في نيسان الكلام نفسه قبل أن يزور السفير السعودي وليد البخاري في أيار الفائت، في الإطار نفسه.
مع ذلك، بقيت السعودية منكفئة عن القول والعمل صراحة عما تريده في لبنان، وهو الموقف نفسه الذي اتّخذته من الرئيس سعد الحريري قبل اعتكافه، ومن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وخلال عهد العماد ميشال عون والمرحلة التي تلته. بالنسبة إليها، الخطوة الأكثر تعبيراً عن دورها في ذلك الوقت كانت بيان نيويورك الثلاثي، ولم تكن في حاجة إلى توجيه رسائل أكثر وضوحاً. ولم تكن المشكلة بالنسبة إليها في صياغة موقف واضح، بقدر ما كان الهدف الابتعاد في شكل غير ملتبس عن التعاطي في الشأن اللبناني تحت سقف الارتضاء بما هو قائم راهناً، كما عبّر عنه البيان الخماسي أخيراً. في حين أن خصومها في لبنان - وحتى بعض حلفائها - كانوا ينتظرون إشارات أكثر وضوحاً وعملية، تُترجم في الساحة السياسية دعماً صريحاً للمعارضة في مواجهة حزب الله كي يُبنى على الشيء مقتضاه. وإذا كان بعض النواب السُّنة تذرّعوا بأنهم كانوا يحتاجون إلى رسالة واضحة من السعودية لجلسة المواجهة في 14حزيران، إلا أنهم لم يتلقّفوا أن الرياض وقفت إلى جانب المعارضة، بعد تبنّيها مع التيار الوطني الحر المرشح جهاد أزعور، ولو لم تتصرف علانية في شكل يأخذ المواجهة إلى حدها الأقصى في جلسة الانتخاب أو في الإطار السياسي العام. في المقابل، لم يتصرف رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل بموافقته على ترشيح أزعور، بمعزل عن توجيه رسائل إلى السعودية والدول العربية. فاصطفافه إلى جانب المعارضة لا يحمل فقط رسائل داخلية، وهو أمر وصل صداه إلى حيث يجب أن يصل ولكن من دون ترجمات مقابلة.
وضعت الرياض بالتنسيق مع واشنطن إطاراً واضحاً لما هو مطلوب من لبنان


مع مرور أشهر الانتظار لموقف واضح من الرياض، تغيّرت معطيات داخلية وخارجية وبني الكثير على التحول السعودي تجاه سوريا وعودتها إلى الجامعة العربية. إلا أن السقف السعودي تجاه لبنان بقي على حاله، في انضباط واضح لعدم الانتقال إلى مرحلة ثانية إلا في خطوات مدروسة وفي إطار موسّع وليس إفرادياً. وهذا ما حصل تباعاً في الأسابيع الماضية. نجحت السعودية حتى الآن في جرّ فرنسا إلى ملعبها وتعطيل مبادرتها التي لم تكن يوماً معها على خطَّي الرئاسة والحكومة، بدليل ما كانت تصرّ عليه من سلة متكاملة رئيساً وحكومة ووزراء ينطبق عليهم المعيار نفسه. وتمكّنت من إعادة تسليط الضوء على دور قطر في تحريك الملف الرئاسي، ووضعت بالتنسيق مع واشنطن إطاراً واضحاً لما هو مطلوب من لبنان، في بيان لا يحمل أي التباسات. كل ذلك من دون الدخول في صراع مكشوف مع حزب الله كما كانت الحال سابقاً. إلا أن الطرفين يظهران كمن يجسّان النبض، أو ينتظران تحوّلاً إقليمياً حاسماً يعيد الأمور بينهما إلى مرحلة صدام مفتوح على احتمالات كثيرة. لم يكن موقف حزب الله من بيان الخماسية إلا رداً مدروساً يحتاج إلى وقت لبلورته، بعد اتضاح الحركة القطرية وتسليم فرنسا أوراقها اللبنانية، من أجل بناء مرحلة جديدة قد تحمل في طيّاتها عناصر مواجهة معلنة.