إلا أنّ نتيجة التهديدات باتت مغايرة لمقصدها، ولم تعد تؤثر كثيراً في الوعي الجمعي لجمهور المقاومة، وبطبيعة الحال ليس لدى صاحب القرار في حزب الله. وهذه نتيجة طبيعية جداً في مقابل أي جهة عدائية تهدّد كثيراً وتفعل قليلاً، وفي الحالة الإسرائيلية - اللبنانية، تكاد تل أبيب لا تفعل شيئاً رغم كثرة تهديداتها.
يقع عدد من المحللين في خطأ تحليل الواقع وتقدير ما يليه، لأنهم يكونون أسرى الحديث عن تفاصيل تهديد معيّن وعن مناسبته وظرفه، ما لا يوصل إلى فهم تموضع إسرائيل الآني، وهو الأهم، وتحديداً إمكان نشوب مواجهة محدودة أو واسعة. وهذا يوجب العودة أعمق قليلاً للبحث في نقطة التحول التي بدأ منها إطلاق التهديدات، وفي المقاصد بناء على سياقات أوسع وأشمل.
واحدة من الأخطاء هي القراءة التلقائية للتهديدات الإسرائيلية على أنها إشارة إلى قرب نشوب حرب أو اعتداء محدود. وهو تحليل بات ممجوجاً، ولم يعد يفي بالغرض منه، إذ إنه قائم على عوامل ترتبط بالماضي وظروفه ومكوّناته عندما كانت إسرائيل تعمل وفقاً لتشخيص المصلحة، فيأتي العمل وفقاً للتشخيص ويتناسب مع توقعات تكاد تكون متطابقة مع الواقع. أما اليوم، فقد باتت الأمور مغايرة، وما يحكم قواعد الاشتباك التي ثبتت صلابتها عبر السنوات الماضية، هو أنه ليس كل تهديد يصدر عن إسرائيل يعني ما يعنيه، وأنه سيُترجم أفعالاً. صحيح أنه لا يزال في الإمكان تقدير المصالح الإسرائيلية، لكن لم يعد ممكناً تقدير كيف ستحقق إسرائيل هذه المصالح أو ما إذا كانت قادرة على تحقيقها بالمطلق.
المتغير الرئيس في كل ذلك هو قدرة الطرف الآخر، حزب الله، على إيذاء إسرائيل رداً على اعتداءاتها، ما يدفعها للموازنة بين العمل الاعتدائي وبين المنفعة المحققة منه. وقد بلغت القدرة على الإيذاء مستوى عالياً جداً من شأنه أن يجعل من مجرد منع وقوع الحرب واحدة من أهم المصالح الإسرائيلية.
طبيعي جداً ألا يعود للتهديدات تأثير عندما تهدّد كثيراً وتفعل قليلاً أو لا تفعل شيئاً كما هي حال إسرائيل
فالحرب في مواجهة حزب الله لم تعد خياراً أو وسيلة لتحقيق أهداف، بل بات منع وقوعها هو الهدف لمنع الأذى عن إسرائيل، والفارق كبير بين الحالتين. مع ذلك، لا يزال كثير من الكتبة والمحللين والسياسيين أسرى معطيات الماضي، عندما كانت إسرائيل تقرر، وتنفّذ ما تقرّره.
في التهديدات الإسرائيلية، هناك تهديدات ناجمة عن خشية من توثّب الطرف الآخر ونيته الإقدام على الإضرار بمن يهدّد، فيأتي التهديد لمنع الأذية أو الحدّ منها؛ وهناك الردّ التهديدي على تهديدات «فعلت فعلها» بين المستوطنين وأثارت قلقهم. فيرى صاحب القرار نفسه مضطراً، رغم التبعات السيئة على المصالح الإسرائيلية، إلى الردّ بتهديدات مقابلة لتظهير القدرة والجهوزيّة؛ وهناك تهديدات تهدف إلى منع الطرف الآخر من القيام بما لا يتناسب مع المصالح الإسرائيلية، ليس في الإضرار أو الأذية المباشرة، بل مثلاً في تعظيم القدرة على الأذية بما يقيّد هامش المناورة الإسرائيلية في لبنان. وهي تهديدات ذات أهداف خاصة بها، تنتهي بانتهاء مفعولها وما تتسبب به: إذا تراجع الآخر تكون التهديدات نجحت في تحقيق أهدافها، وإذا لم يتراجع، فلا تعني أن أفعالاً ستعقبها، بل تتجوّل - كما باتت العادة الإسرائيلية - من التهديد إلى الاحتواء السلبي بلا أفعال.
في المقابل، هناك تهديدات تشير إلى نيات اعتدائية، لكنها تهدف إلى منع الطرف الآخر من الرد إذا نفّذت إسرائيل تهديداتها، أو إلى أن يكون الرد شكلياً؛ كما توجد تهديدات هي بمثابة تمهيد الأرضية الميدانية للعمل العسكري الذي هو موضوع التهديدات.
على ما ورد، فإن التهديد الذي تعقبه أفعال هو واحد من أصناف عدة من التهديدات، لكنه معيوب: إن أرادت إسرائيل الحرب فلن تهدد بها وتنذر أعداءها مسبقاً بما يعطي الطرف الآخر، القادر على أذيّتها، فرصة الاستعداد للمواجهة.