أدى الانفجار الضخم في مرفأ بيروت، يوم 4 آب 2020، إلى مقتل أكثر من مئتي شخص وإلى جرح الآلاف، مخلّفاً خراباً واسعاً في الأملاك الخاصة والعامة. وبما أن المرفأ هو من مرافق الدولة، فإنها بالتالي مسؤولة عن إدارته وصيانته وحمايته من خلال مؤسساتها، والمطلوب منها أن تحقق مع نفسها وأن تتّخذ الإجراءات بحق القيّمين على مؤسساتها وإنزال أشدّ العقوبات بحق من كان سبب الأذى الذي أوقعه الانفجار.
لكن لا يمكن للدولة أن تفعل ذلك، إذ لا فصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والإجرائية والقضائية) ولا انتظام في عملها. وفي ظل تراجع عمل كل منها، لا شك في أن السلطة الأضعف والأقل قدرة على القيام بالمهام الدستورية الموكلة إليها هي السلطة القضائية.
يُلاحَظ أن بعض القضاة الذين يفترض أن يشرفوا على التحقيقات الجنائية، إما يتأخرون في التحرك وفي اتخاذ القرارات وملاحقة المشتبه فيهم، أو تحصل فجأة فوضى في تحديد الصلاحيات وفي التعامل مع مسرح الجريمة ومع المشتبه فيهم، وخصوصاً في الجرائم التي يمكن توظيفها سياسياً. فقد يتردّد هؤلاء القضاة في اتخاذ خطوات حاسمة خوفاً من اتهامهم زوراً بالانحياز السياسي أو الطائفي، وخشية تعرّضهم لـ«عقوبات» من قبل المرجعيات الطائفية والمذهبية والسياسية في هذا البلد، الذي يعاني من انقسامات طائفية ومذهبية وسياسية حادة، وصلت إلى حد مطالبة البعض بالتقسيم أو بـ«الطلاق» والانعزال عن باقي المكوّنات. علماً أن من المفترض أن «تُلغى قاعدة التمثيل الطائفي ویُعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء» كما جاء في المادة 95 من الدستور. غير أن المادة نفسها تستثني «وظائف الفئة الأولى فیها وما یعادل الفئة الأولى فیها، وتكون هذه الوظائف مناصفة بین المسیحیین والمسلمين من دون تخصيص أي وظيفة لأي طائفة مع التقيّد بمبدأي الاختصاص والكفاءة». وبما أن القضاة من موظفي الفئة الأولى أو ما يعادلها، لا بد من الأخذ بالانتماء الطائفي للقضاة خلال وضع التشكيلات القضائية. يعني ذلك أن للطائفة التي ينتمي إليها كل قاض دوراً قد يكون محدداً لوظيفته القضائية. فلو تبيّن لمجلس القضاء الأعلى ولوزير العدل، مثلاً، إن 60% من القضاة الذين يتمتعون بالاختصاص والكفاءة ينتمون إلى طائفة معيّنة، لا يمكن تعيينهم إلا بعد حذف عدد منهم واستبدالهم بقضاة من طائفة أخرى يتمتعون بمستوى أدنى من الاختصاص والكفاءة.
ينصّ الدستور على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في وظائف الفئة الأولى خلال «المرحلة الانتقالية» إذ يفترض إلغاء الطائفية تدريجاً، غير أن ذلك لم يتحقق وما عدّه الدستور مرحلياً بات دائماً بكل أسف.
خلال مرحلة تعيين محقق عدلي للنظر في جريمة تفجير مرفأ بيروت، أوردت بعض وسائل الإعلام خبراً عن إصرار بعض القوى السياسية بأن يكون المحقق العدلي من طائفة محددة، بحجة أن معظم الضحايا ينتمون إلى هذه الطائفة. وقد دل ذلك إلى ثلاث مشكلات:
أولاً، جهل فاضح بوظيفة القاضي ودور المحكمة. إذ إن قضاة التحقيق كما قضاة الحكم لا يعملون لصالح الضحايا ولا يفترض أن ينحازوا إليهم، بل على القاضي أن يسعى إلى تحقيق العدالة وألا ينحاز إلى فريق ضد فريق آخر.
ثانياً، رغبة البعض في استخدام القضاء واستثمار الجريمة لرفع مستوى الشحن الطائفي وتحويل الأمر إلى مادة دسمة للاقتتال بين اللبنانيين، انطلاقاً من تحميل طائفة محددة مسؤولية الانفجار والمزاعم بأن هناك طائفة أخرى استهدفها الانفجار عن سابق تصوّر وتصميم.
ثالثاً، تصاعد التوتر الطائفي في ما خصّ التحقيق في انفجار المرفأ وتكاثر الأحكام المسبقة الموجهة سياسياً والتي واكبتها العديد من وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. ولا شك في أن ماكينات إعلامية ومجموعة من المحامين والناشطين والسياسيين المدعومين مالياً من سفارات غربية، أصدروا أحكاماً مسبقة وما زالوا يعملون بجهد وإبداع على نشرها وتعميمها وترسيخها في عقول الناس ونفوسهم.
على أي حال، بعد تعيين المحقق العدلي في القضية بأيام قليلة، بدأت وسائل الإعلام بنشر محاضر ووثائق ومستندات ادّعت أنها من ملف التحقيق السرّي. ولم يُعرف حتى الآن مصدر تلك «التسريبات» التي بدت، بالنسبة إلى البعض، مناسبة للتوظيف السياسي والتحريض الطائفي. فقد فُتح تحقيق قضائي لتحديد مصادر التسريبات، لكنه لم يصل إلى أي نتيجة. لماذا؟
لأن نظام «العدالة» في لبنان يخضع للحسابات والتوازنات والمحميّات الطائفية. وقد بدا جلياً أن الاندفاع نحو ملاحقة فريق سياسي محدد أو جهة طائفية أو مذهبية معيّنة أقوى بكثير من الاندفاع نحو ملاحقة أشخاص مشتبه فيهم قد ينتمون إلى جهات متعددة. ويبقى اتفاق زعماء الطوائف والمذاهب الحلقة الأقوى التي تتفوّق على السلطة القضائية وترديها قتيلة.