صدر بيان عن المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي - شعبة العلاقات العامة هذا الأسبوع، أشار إلى «تراجع كبير في الجرائم الهامّة المُرتكبة» خلال الأشهر السّبعة الأولى من العام الجاري، مقارنة مع الأشهر عينها من العام الماضي.لا شك أنه خبر إيجابي مفيد، خصوصاً في بلد يعتمد على السياحة ويسعى إلى جذب الاستثمارات في مختلف قطاعاته الإنتاجية. كما أن نشره على نطاق واسع قد يعطي انطباعاً جيداً عن الوضع في لبنان وسط تكاثر الأخبار المقلقة أمنياً، وأبرزها أخيراً الاشتباكات المسلّحة المأساوية التي وقعت في مخيم عين الحلوة وتسبّبت بشلّ الحركة في مدينة صيدا والجوار، والاشتباك الذي سالت فيه الدماء على أرض الجبل في الكحّالة، وارتفع معه منسوب التوتر الطائفي والمناطقي مذكّراً بالحرب الأهلية.
بيان قوى الأمن صدر بعد يومين على دعوة بعض السفارات العربية رعاياها إلى مغادرة لبنان فوراً لدواعٍ أمنيّة، إذ إن قوى الأمن سعت إلى طمأنة الوافدين والمقيمين من أن المخاطر الأمنية التي تحذّر منها تلك السفارات هي فعلياً تحت السيطرة ولا داعيَ لتخويف الناس، لأن ذلك يؤثّر سلباً على الوضع الاقتصادي في ظل الأزمة الراهنة. ورغم النقص في الموارد والرواتب والعديد والتجهيزات والمعنويات، لا يزال آلاف العسكريين والرتباء والضبّاط من قوى الأمن الداخلي والجيش والأمن العام وأمن الدولة والشرطة البلدية يلتحقون بمراكزهم ويقومون بوظائفهم على مدار الساعة وفي كل أنحاء البلاد.
لكن، مع غياب القضاء المستقلّ والتراجع المستمر لثقة الناس بالقضاء المحلي، يوضع الجيش وقوى الأمن في «بوز المدفع». وما حصل في الكحّالة خير دليل على ذلك.
فبعد وقوع حادث انقلاب الشاحنة، حضر درّاج من قوى الأمن إلى المكان وعمل على تنظيم حركة السير، ثم استُقدمت رافعة لإزالة الشاحنة من وسط الطريق وتبع ذلك توتر وظهور مسلح ورمي الحجارة وإطلاق نار، ما أدّى إلى إراقة دماء شخصين، ولم تُعرف حتى الآن تفاصيل ما حصل. (فصيلة بعبدا في قوى الأمن الداخلي باشرت في التحقيق منذ وقوع الحادث وجمعت الأدلة وكشفت على مسرح الجريمة وأحيل المحضر أول من أمس إلى مديرية المخابرات في الجيش بناءً على إشارة مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية).
تدخّل الجيش بسرعة وسيطر على الموقف، وانتشر عناصره في المنطقة لمنع توسّع الاشتباك المسلح وباشروا العمل على إزالة الشاحنة من المكان.
منذ هذه اللحظة، بدأ التحريض ضد الجيش اللبناني عبر وسائل الإعلام واتّهامه بالانحياز إلى مصلحة «حزب الله» بسبب قيامه بإزالة الشاحنة من المكان. وادّعى البعض أن المكان هو مسرح جريمة ولا يجوز إزالة شيء منه إلا بعد حضور وحدة الأدلة الجنائية لرفع الأدلة والبصمات. يشهد للبعض إصرارهم الحفاظ على مسرح الجريمة وهو ما لم يكن يحصل سابقاً. إنما كان يفترض أولاً توسيع دائرة مسرح الجريمة لتشمل كامل منطقة الحوادث التي وقعت وألا تقتصر على الشاحنة ومحيطها المباشر. وأن يبتعد الجميع، بمن في ذلك المواطنون وأهالي المنطقة، عن مسرح الجريمة الموسّع، لا أن يسعى بعضهم إلى فتح الصناديق التي كانت داخل الشاحنة كما ظهر في بعض التسجيلات المصوّرة. كما أن الحفاظ على مسرح الجريمة لا يكون برشق الحجارة وإطلاق النار باتجاه الشاحنة بعد وقوع الحادث كما فعل بعض من أطلقت عليهم وسائل إعلام صفة «الأهالي».
تحرّكت النيابة العامة العسكرية وبدأت تحقيقاتها بعيداً عن الإعلام، والتقط المحققون العسكريون صوراً مفصّلة للمكان وجمعوا بعض الأدلة الجنائية. إشارة هنا إلى أن المعايير العلمية في التحقيقات الجنائية تتيح إزالة بعض موجودات مسرح الجريمة بعد تصويرها ورفع البصمات عنها إذا كانت تعيق حركة المرور على طريق حيوية.
لم ترد منذ أول من أمس معلومات عن توقيف أشخاص رهن التحقيق، بينما كان يفترض الإسراع في جمع المعطيات منذ اللحظات الأولى للاشتباك المسلّح، وتوقيف جميع الأشخاص الذين كانوا في المسرح واقتيادهم إلى مركز التحقيق لأخذ كامل إفاداتهم ثم ترك غير المسلحين منهم بسند إقامة والتوسّع في التحقيق مع الآخرين، ثم مقارنة أقوالهم بإفادات الشهود وبالتسجيلات المصوّرة. كما كان من المفترض تحديد تسلسل الأحداث بدقّة والاستعانة بتحليل الأدلة الجنائية للقيام بذلك، لأن الساعات الأولى التي تتبع الحدث تُعدّ أساسية للكشف عن الملابسات.
بكل أسف لم يحصل كل ذلك، ولم يحضر مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية إلى المكان بعد الحادثة، ولم يُحدد مسرح الجريمة بالشريط الأصفر وإبعاد الناس عنه، بل عمّت الفوضى وارتفعت الأصوات المهاجمة للجيش اللبناني. حاول بعض الضبّاط التوضيح بأن الجيش صادر الشاحنة لنقلها إلى مركز عسكري ومتابعة التحقيقات القضائية، غير أن بعض القوى السياسية المعادية لـ«حزب الله» تجمهرت في المكان ودقّت أجراس الكنائس. علا الصراخ وارتفعت الدعوات لحمل السلاح واستذكر البعض مجازر ارتُكبت بحق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان مهدّدين بتكرارها بحق جمهور الحزب.
وجد الجيش نفسه في «بوز المدفع»، ليس بسبب تدخّله لمنع الاقتتال الداخلي، بل لاتهامه زوراً بالانحياز إلى مصلحة فريق ضد فريق آخر. علماً أن الجيش قام بواجباته ولم يتجاوز المعايير القانونية.
وفي قراءة أولية شاملة لتسلسل الأحداث منذ صدور بيانات التحذير عن بعض السفارات العربية، لا يُستبعد أن يكون لأجهزة استخبارات أجنبية دور في افتعال التوترات وتحريض بعضِ اللبنانيين على بعضهم. يستدعي ذلك تحقيقاً موسّعاً ومراقبة رسمية صارمة لنشاط بعض السفارات وبعض الجهات الأجنبية والعربية في لبنان قبل وقوع الأحداث الأخيرة وبعدها.
لكن لا بدّ من التشديد هنا على ضرورة أن تُجرى التحقيقات بإشراف القضاء المختص، وأن تحال إلى القضاء الجالس لإصدار حكمه وتبيان الحقيقة بشكل قاطع لا يحتمل الشك. فهل سيتمكّن القضاء اللبناني الذي يعاني من التدخلات السياسية في عمله ومن نقص حادّ في الموارد ومن نظام لا يضمن أصلاً استقلاليته من كشف ملابسات ما حصل أخيراً في الكحّالة وغيرها من الحوادث الأليمة التي أدّت إلى إراقة الدماء ووقوع ضحايا وبلبلة أمنية؟
يبقى الجواب المنطقي على هذا السؤال سلبياً، لكن ذلك لا يعني تبرير الاستعانة بجهات أجنبية أو دولية للمساعدة، لأن لكل من الدول الأجنبية سياساتها ومصالحها، ولن تتردد أيّ من الدول «المساعدة» للبنان في تقديم مصالحها على مصالح اللبنانيين حتى لو كان في ذلك تجاوز للقوانين والأصول والمعايير.
في ختام هذا المقال، كما في مطلعه، إشارة إلى بيان قوى الأمن الداخلي الذي دعا إلى «الحرص على تطبيق القوانين النّافذة واحترامها، فالأمن مسؤوليّة مشتركة». والوصول إلى العدالة والإنصاف كذلك: مسؤولية مشتركة.