لم تترك السلطة أيّ سبيل للاعتراض على تصرّفاتها وتغوّلها على حقوق ومكتسبات الموظفين إلّا وسدّته. الروابط في ما مضى كانت أداة التغيير الحقيقي، تدرس الموازنات وقرارات الحكومة، وتضغط من أجل تعديلها لتتوافق مع مصلحة الموظف. لكن، عندما اكتشفت الأحزاب «قدرتها على فرض أجندات مغايرة وتغيير مسارات، قمعتها وعملت على تصفيتها بأبشع الطّرق، وحوّلتها إلى اتحاد عمالي عام لا يمثل أغلبيّة العمّال في لبنان»، يقول نقابيون.للوصول إلى مشهد الاتحاد العمّالي العام، «عملت الأحزاب على إدخال الملتزمين بالأوامر الحزبيّة من الموظفين إلى الروابط لتعطيلها من الداخل». ثمّ أوصلتهم إلى الهيئات الإدارية، ورئاستها، فحوّلتها من أدوات للتغيير والتعبير عن صوت الموظف إلى «مجالس وجاهة، لا عمل لها سوى التطبيل لأركان الحكم، ومنع التظاهر والتحرّك أمام الوزارات، في حال كان الوزير ينتمي لنفس فريق سياسي ممثل داخل الهيئة الإدارية».
الأمثلة كثيرة، والمخالفات بالجملة والمفرّق. أبرز الأمثلة رابطة موظفي الإدارة العامة الحالية، أو «رابطة بيانات» بحسب موظفين، إذ «تستمر بتمديد إضراب غير موجود على أرض الواقع». في الوقت الذي تعمل فيه كلّ الدوائر الحكومية من دون أيّ أثر لإضراب، أو تحرّكات مطلبيّة «تكتب بيانات كل 15 يوماً تجدّد إضراباً صورياً، ثمّ ينزل الموظف كاتب البيان، الداعي للإضراب إلى دوامه في اليوم التالي بشكل عادي».
«رابطة موظفي الإدارة العامة منتهية الولاية»، يؤكّد موظفون، و«رئيستها خرجت إلى التقاعد منذ سنوات. ولكن، الانتخابات معطّلة، بل ممنوعة كي لا يصل الموظف الفاعل إلى سدّة القرار». وأمام هذا المشهد، «تقف مديريّة الشؤون السياسيّة في وزارة الداخلية مكتوفة الأيدي، وهي المعنيّة بمراقبة عمل الروابط من ناحية الالتزام بالأنظمة الداخلية، والدعوة للانتخابات في حال المخالفة».
إلا أنّ الروابط المستقيمة من ناحية التمثيل والانتخاب، وضعها ليس أفضل حالاً. فروابط التعليم في القطاع العام (ثانوي، أساسي، مهني) تعاني من ذات المشكلة، غياب القدرة على الضغط، والارتهان للقرار الحزبي بشكل كامل. فروابط التعليم مثلاً، تضرب كلّ أسس العمل النقابي مع تغيّب مجالس المندوبين، وتضرب مقرّرات الجمعيات العموميّة، وصولاً إلى التفرّد بالقرارات، من دون القدرة على المحاسبة، أو التغيير. وخلال العام الدراسي الماضي انقسم التعليم بشكل عمودي على نفسه بين أقليّة التزمت قرارات الروابط، وبين أكثريّة من الأساتذة التزمت الإضراب، والتوقف عن العمل.
عملت الأحزاب على إدخال الملتزمين بالأوامر الحزبيّة إلى الروابط لتعطيلها من الداخل


وعلى مستوى العمل النقابي الداخلي، فإن «أُسسه مضروبة بشكل كامل»، إذ تعمد الهيئات الإدارية في الروابط إلى تغييب مجالس المندوبين، وتضرب بعرض الحائط مقرّرات الجمعيات العموميّة، ما يعطّل قدرة القواعد على المحاسبة أو التغيير، وصولاً إلى تفرّد بعض أعضاء الهيئات الإدارية بالقرارات بشكل شبه كامل. ومن أمثلة اضمحلال العمل النقابي، أنّه خلال العام الدراسي الماضي انقسم التعليم الرسمي، بمختلف فئاته، بشكل عمودي على نفسه بين أقليّة التزمت قرارات الروابط، وبين أكثريّة من الأساتذة التزمت الإضراب والتوقف عن العمل. وحتى اللحظة لا خطة عمل واضحة لدى أيّ من الروابط، بل زيارات للرّسميين، وبيانات شكر للوزراء، وتمنٍّ من الحكومة، وتعازٍ عند وفاة أحد الأساتذة قهراً وظلماً.
بهذا المعنى، فإن الروابط لم تعد تتمايز أبداً عن قوى السلطة مثلها مثل الاتحاد العمالي العام الذي اندمج في قوى السلطة وأصبح جزءاً لا يتجزأ منها وخادماً مطيعاً بين يديها. التشابه بينهما مردّه إلى أن السلطة تمكّنت من القضاء على البنية المؤسسية النقابية في الاتحاد العمالي العام أولاً، ثم لاحقاً في الروابط. وجعلت أزلامها يتزعّمون القيادة النقابية ويحدّدون جدول الأعمال. واللافت أن الأمر كان سهلاً، نسبياً، بالنسبة إليهم، نظراً لخبرتهم في القيام بذلك في الاتحاد العمالي العام.
اليوم، في عزّ الإفلاس وتآكل الأجور وحقوق نهاية الخدمة وسائر الحقوق والمكاسب العمالية، هناك حاجة ماسة إلى اتحاد عمالي عام يدافع عن الأجراء وحقوقهم، وحاجة لروابط تدافع عن مصالح فئات واسعة في القطاعين العام والخاص أيضاً. فالسلطة استسهلت التعاطي مع تصحيح الأجور لأنها تقبض يدها على الاتحاد والروابط.