في زمنٍ ليس ببعيد كانت طريق بيروت - دمشق الدولية مغلقة بسبب سيطرة ميليشيات متقاتلة على «أكواعٍ» منها. فإذا أردت أن تقصد غرب بيروت انطلاقاً من شتورة حيث ترعرعت، كان عليك أن تسلك ما كان يُسمّى طريق الكرامة وهو تحويلة كانت تضيف إلى زمن الرحلة نحو ساعة. على طريق الكرامة، كانت هناك «أكواع» يصرّ الوالد أثناء المرور بها أن أنبطح أرضاً في السيارة لتفادي القذائف الصاروخية المنطلقة من الجبهة المقابلة، وبالطبع كان شعوري بالكرامة لا يُضاهى في حينها، ولا أزال أشكّك في ثقته الفائقة في معدن الهوندا أكّورد موديل 1984 فوق زجاجها، ولكن فهمت خوف الأب مع الوقت. بعد الثالث عشر من تشرين، الذي سبق السابع عشر من تشرين بعشرة آلاف وبضع مئات من الأيّام، باتت الطريق من عاليه إلى اليرزة والفياضية سالكة مختصرة الرحلة ومتخطّية مخاطرها إلّا المروريّة منها. ما يغيب عن جيل 4 آب هو أنه خلال الحرب الأهليّة، كان كل يومٍ 4 آب، الحرب الأهليّة لم تكن مزحة. هناك اليوم من صبيان السلالات الحربيّة من يرفع صوته مهدّداً بحرب، وميّل يا جميّل، يا جميّل ميّل. أنت صبيٌّ أبله لا تعرف الحرب. أنا أكبر من سامي عمراً بسنة ونيّف. وأبي أطول من ابن بيار بشبرين ونيّفين رغم أن حكم عليه الإله بصلعة تامة. المهمّ أن طريق الكرامة اليوم سالكة على أكثر من جبهة. طريقُ الكرامة تتفادى دشم الرمل. طريق الكرامة تتفادى حرباً أهليةً. كان يسيطر على الطرقات بين شتورة وبيروت يومها ميشال عون ووليد جنبلاط ونبيه بري الذين، الحمد لله، لم يبقوا بيننا. فالإله يمهل ولا يهمل وفقاً للديانات السماوية. في لبنان جيل جديد من المهيمنين على «الأكواع».الحربُ الأهليّة بشعة. أبشع مما يمكن أن يتصوّرها أيٌّ من القرّاء إلّا من عايشها. كان كلّ يومٍ 4 آب. مشكلة أجيال لبنان أنها لا تتذكّر بشاعة الحرب، لا تتذكّر بشاعة آل الجميّل وكتائبهم. هناك من يذكر بشير الفاشستي بالخير. لا بل هناك من يذكر أبا بكر البغدادي وأبا محمّد الجولاني بالخير نفسه. في الوقت نفسه هناك من يريد المزايدة على «حرب الكلّة» بـ«حرب الباربي» والحرب على المثليّين. هنا نعود إلى كوع الكحّالة. كوع الكحّالة منطقيّاً وعلميّاً خطأ مروري شنيع. هناك من الخبثاءِ بيننا من أحصى ضحايا السلاح في لبنان في السنوات العشرين الأخيرة. أتعرفون عدد موتى حوادث المرور على كوع الكحّالة؟ لم يتسنَّ لي إحصاؤها، لكنّها حتماً أكثر من قتلى قذائف وشظايا ورصاص طريق الكرامة. عندما تتدهور الأمور، لا يحمي معدن الهوندا من يحتمي خلفه، ولا تحمي أكياس الرمل اللاجئين خلفها، تماماً كما لا يحمي الفاصل الإسمنتي على كوع الكحالة الطالع من النازل. الفاصل الإسمنتي جديدٌ نسبيّاً، أجدد من هوندا الوالد حتماً. حادثة الأسبوع الماضي تظهر هشاشة الوضع الأمني في لبنان، إذ إنه مهدّد بحادث سير أو فيلم هوليوودي، يفيض باللون الزهريّ، رديء جدّاً.
في ثمانينيات القرن الماضي كان كل يومٍ 4 آب. كان مشوار الباص المدرسي الذي أسلكه من شتورة إلى معلّم لغتي العربيّة الكتائبيّ يمرّ بسبعة حواجز لفصائل متحاربة تتبادل غنائم حربها مساءً بعد تبادلها إطلاق النار والقتل صباحاً. الحرب بشعة، المحاربون بشعون، طريق بيروت - دمشق يجب أن تبقى سالكة بأقصر وقت ممكن. طريق بيروت - دمشق تمرّ بالقدس.