عام 2006، بعد نحو أسبوعين على بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان، بدأ يتضح للإدارة الأميركية عجز جيش العدو عن إلحاق هزيمة بحزب الله، «بخلاف ما توقع الجميع»، كما أكد نائب مستشار الأمن القومي الأميركي في حينه إليوت أبرامز (معهد أبحاث الأمن القومي عام 2016)، لافتاً إلى أنه «في الأسبوع الثالث، بدأنا ندرك أن مقولة عدم عودة الوضع إلى ما كان عليه لن تتحقّق».لم يكن فشل إسرائيل وانتصار المقاومة في عدوان 2006، أمراً مسلّماً به أو حتى مُرجّحاً، وفق حسابات واشنطن وتل أبيب وتقديراتهما. بل أتى نتيجة تضافر عوامل موضوعية وذاتية، من ضمنها تفاعل قدرات طرفي الصراع وإراداتهما، واستعدادات سبقت الحرب، إضافةً إلى ما تميّز به أداء كل من حزب الله وجيش العدو.
مع صعوبة الإحاطة بكل عوامل انتصار بحجم انتصار 2006 وتعقيداته وتداعياته، إلا أن هناك عوامل واضحة ساهمت في تحقيقه، وإن كانت متفاوتة الأهمية. في مقدمّة هذه العوامل استعداد حزب الله لإمكانية شن إسرائيل حرباً على لبنان في أي وقت، وهو ما تجلّى في المفاجآت التي أعدّها في البر والبحر وبالصواريخ القادرة على دكّ العمق الإسرائيلي. ومن الواضح أيضاً أن استعدادات المقاومة حاكت سيناريوهات حرب مفترضة بنسبة أو بأخرى، وامتلكت قدرات محددة انكشفت خلال الحرب، وبلوَرت أيضاً خططاً تطورت وتعدّلت وفقاً لسير الحرب (وفي هذا كلام آخر).
وفي السياق نفسه، لم يكن امتناع العدو عن خيار العملية البرية الواسعة طوعياً، بل بسبب كي الوعي الذي حفرته المقاومة خلال فترة الاحتلال، ونتيجة معلومات وتقديرات خلصت إليها قيادة العدو السياسية والأمنية إزاء جهوزية حزب الله لهذا الخيار. وقد تعزّزت مخاوف هذه القيادة بعد المواجهة على «الحافة الأمامية» في بنت جبيل وعيتا الشعب. وأعطت «مجزرة الميركافا» في وادي السلوقي، في الأيام الأخيرة من الحرب، عيِّنة على الضربة التي كان سيتلقاها سلاح المدرعات لو تورّط جيش العدو في خيار كهذا. ففي مواجهة واسعة، بحسب السيناريو المفترض لعملية برية واسعة، كان هذا الجيش سيُمنى خسائر بشرية أكبر، مع إطالة أمد الحرب، وكانت التطورات الميدانية والسياسية ستسلك مساراً أشدّ خطورة بما فيها على العمق الإسرائيلي.
لا شك في أن الثقة المفرطة لجيش العدو بقدراته كانت لها انعكاساتها على تقديراته الخاطئة وخياراته التي ارتكزت على إمكانية حسم الحرب من خلال سلاح الجو والنيران الدقيقة عن بُعد، استناداً إلى تجارب ناجحة في أمكنة أُخرى (يوغوسلافيا والعراق). ويبرز في هذا المجال، فشل الضربة الاستباقية التي يُفترض أنها استهدفت القدرة الصاروخية المتوسطة والبعيدة المدى. ويمكن التقدير أن قرار الحرب والعديد من المواقف استندت - في ما استند إليه - إلى ثقة راسخة بنجاح هذه الضربة، ما كان سيفرض معادلة مغايرة لما شهدته الحرب.
في المقابل، فإن الاستعداد الصاروخي لحزب الله وحصانته الأمنية وتضليله للعدو وفشل الجيش في إحباط عمليات القصف الصاروخي، مكَّنته من فرض معادلة رد تصاعدية طوال الحرب. وتجلى ذلك خصوصاً في ارتداع العدو عن توسيع نطاق القصف التدميري باتجاه العاصمة بيروت بعدما هدد الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله بقصف تل أبيب في المقابل. وكانت هذه المعادلة والقدرات التي استندت إليها من أهم مفاجآت الحرب. وامتدّت مفاعيل هذه المعادلات إلى ما بعد الحرب، وتحوّلت مع تطور القدرات الصاروخية لحزب الله إلى عامل حاسم في ردع العدو عن شن حرب أخرى على لبنان.
قرار الحرب استند إلى ثقة راسخة بنجاح الضربة ضد القوة الصاروخية ما كان سيفرض معادلة مغايرة لما شهدته الحرب


بالمجمل، يمكن القول إن نجاح حزب الله في الحفاظ على قدراته العسكرية سمح له بمواصلة القتال إلى مدى أبعد مما كان يُقدر العدو في أقصى سيناريوهاته في تلك المرحلة. ويحضر في هذا السياق أيضاً، فشل العدو في منع مواصلة إمداد الحزب من سوريا وعبرها، خلال الحرب، والذي كان له أيضاً دور رئيسي في وصول مزيد من الأسلحة المتطورة المضادة للدروع وصواريخ متوسطة المدى دكت العمق الإسرائيلي. نتيجة ذلك، تحول قطع هذا الإمداد إلى أولوية لجيش العدو خلال الحرب، لكنه فشل في هذه المهمة أيضاً ما كان له دور رئيسي في بلورة النتائج التي انتهت إليها الحرب.
كما في كل حرب مشابهة فإن للقيادة دوراً أساسياً في تحقيق النصر. وترتفع أهمية هذا العامل عندما تكون موازين القوى راجحة لمصلحة العدو بنسبة كبيرة جداً، كما كانت الحال في حرب 2006. ويصبح الأمر حاسماً أيضاً بفعل التعقيدات والتداخل بين الحرب والمشاريع والدولية والساحة الإقليمية. لذلك، كان لصمود القيادة السياسية لحزب الله وإرادتها الصلبة بمواصلة القتال دور حاسم، إضافة إلى نجاحها وكفاءتها في إدارة المعركة ميدانياً إلى أبعد نقطة في مناطق القتال.
واستناداً إلى حقيقة التفاعل والتداخل بين إدارة الحرب والصمود السياسي، وبين المعطى الميداني، شكّل صمود المقاومين الأسطوري قاعدة صلبة للقيادة في إدارة معركتها السياسية، مكَّنها من الحؤول دون انتزاع إنجازات سياسية تتصل بالمرحلة التي تلي، وتشكل خطّاً أحمر بالنسبة إلى المقاومة. وتجلى هذا الأمر في أكثر من عنوان من ضمنها منع نشر قوات دولية على الحدود مع سوريا. ويسجّل في هذا المجال، دور مهم جداً للتنسيق بين قيادتي حزب الله وحركة أمل، كان من أهم إنجازاته إحباط العديد من المخططات والفخاخ الأميركية، وتعزيز موقع المقاومة التفاوضي. إضافة إلى الانعكاس الإيجابي لذلك على المستوى الشعبي.
تتجاوز أبعاد صمود بيئة المقاومة التي كانت تتعرض مناطقها للقصف والتدمير مجرد كونها صبراً قل نظيره على التضحيات التي تقدمها، وما تُجسده أيضاً من ثقة بالمقاومة وقيادتها. بل شكل أيضاً عاملاً أساسياً في تحقيق النصر حيث كان أحد الرهانات أن تؤدي سياسة التدمير الواسع إلى انقلابها على المقاومة. لكن الالتفاف المنقطع النظير أفشل هذا الرهان. وتحول إلى نصر قائم بذاته وإحدى الظواهر التي ميزت الحرب.
ومن العوامل التي ساهمت في بلورة انتصار 2006، أيضاً، ردع السلطة السياسية اللبنانية عن خيار توريط الجيش ومنعها من التكامل مع المخطط الأميركي في طعن المقاومة في ظهرها. وقد كان للرئيس إميل لحود دور رئيسي في هذه المواجهة. وشكل الدور الذي أدّاه جزءاً رئيسياً من المقاومة السياسية التي تكاملت مع المقاومة العسكرية في مواجهة العدوان العسكري الإسرائيلي، والسياسي الأميركي. كما يحضر أيضاً موقف الرئيس ميشال عون الذي وفّر للمقاومة غطاءً وطنياً واسعاً انعكس على المستوى الشعبي وكانت له آثار كبيرة على النازحين.
تبقى حقيقة ينبغي الإشارة إليها وإعطاؤها قدراً من حقها على الأقل، خصوصاً أنها حضرت بقوة لدى مؤسسات العدو وقياداته ومراكز أبحاثه. وتتمثّل بالدور الذي أداه السيد نصر الله في التأسيس للنصر وإدارة الحرب والمرحلة التي تلتها. فهو، من منظور العدو أيضاً، كان له دور حاسم في العوامل التي سبقت الحرب وخلالها (إدارتها ورفع معنويات المقاومين وبيئة المقاومة)، كما كان تأثيره كبيراً على الداخل الإسرائيلي كما ورد في بعض الشهادات أمام لجنة فينوغراد ونتج عن ذلك تقديم توصيات حول كيفية التعامل مع خطبه. وأيضاً كان له تأثيره المباشر على مرحلة ما بعد الحرب، في الخيارات التي انتهجها حزب الله وصولاً إلى تحوّله إلى قوة إقليمية أسست لتحولات استراتيجية وتاريخية وأرست معادلات غيَّرت اتجاه الصراع مع إسرائيل.