يؤدي إهمال السجون وأماكن التوقيف في لبنان وعدم تطبيق القوانين التي ترعاها أو إعادة النظر فيها لِقَدَم عهدها، إلى ابتعادها عن دورها الأسمى ألا وهو إعادة تأهيل الموقوفين والسجناء وبالتالي حماية المجتمع. وباتت معاهد لتطوير سلوكهم الجنائي عبر تبادل الخبرات الجرمية بين مختلف السجناء والموقوفين. نصّت المادة 56 من قانون العقوبات على أن «يُحبس في أماكن مختلفة، المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة المؤقتة، والمحكوم عليهم بالاعتقال المؤبد المؤقت، والمحكوم عليهم بالحبس مع التشغيل والمحكوم عليهم بالحبس البسيط».كذلك تضمّن مرسوم تنظيم السجون وأماكن التوقيف الرقم 14310/49 تقسيم السجناء بين ذكور وإناث وأحداث في مادتيه 8 و9. هذه المراسيم والقوانين «القديمة» ربما لا تحاكي تطوّر الأفعال الجنائية. إذ من المفترض الأخذ في الاعتبار التطورات الحاصلة من قبل المشرّع لإجراء تعديلات جديدة عليها لناحية تقسيم السجون وأماكن التوقيف وفق الفعل المرتكب ومدى خطورته. (راجع «القوس»، 19 آب 2023، «تحوّلات الجريمة: مؤشرات مقلقة»).
«التقسيم علينا، نحنا منقرر كيف ومع مين منقعد» يقول جاد أحد نزلاء سجن رومية، وهو محكوم بالإعدام لارتكابه جريمة قتل عمداً المعاقب عليها بموجب المادة 549 من قانون العقوبات، حول تقسيم النزلاء داخل سجن رومية، مضيفاً: «بيتوزعوا السجناء بطريقة عشوائية، بينجمعوا من كل الجرائم سوا، وبكل مبنى بيصير السجناء يعملوا لحالهم جناح خاص حسب العيلة أو الجنسية». ويؤكد جاد تدخل «الواسطة» أحياناً لنقل أحد السجناء من مبنى أو من قاووش إلى آخر. وبطبيعة الحال، يتشارك السجناء تجاربهم الجرمية كما لو أنها إنجازات ويقدمون نصائح للأقل «خبرة»، يشرح نزيل رومية «في كتير أشخاص بيدخلوا السجن بشغلات بسيطة وبيطلعوا للأسوأ. في منهم بيتعلّموا التعاطي هون مع إنهم برّا ما بيكونوا مجربين المخدرات».

جعلوني مُدمناً
«اخترب بيتنا لمّا خيي فات على السجن». يتحدث باسل لـ«القوس» عن تجربة أخيه الذي دخل سجن رومية لأول مرة بعد محاولته قتل أحد الأشخاص. تمسّك باسل بأخيه وسانده بعد أن تبرأ منه والداه، لكن ذلك لم يأت بنتيجة إيجابية «غلط غلطة وتحاسب عليها بس المحيط والعيلة ما سامحوه، ما لقى بالسجن حدا جنبه وقريب منه غير جماعة تجّار وتعاطي المخدرات». يضيف باسل أن بعد خروج أخيه من السجن، بدأ بتعاطي المخدرات، وبعد مدة قريبة أوقف بتهمة الاتجار. «السجن يلّي مفروض يعيد تأهيله طلع منه متعاطي وتاجر مخدرات».
أما زياد، جرى توقيفه بشبهة الاتجار بالمخدرات. ثم صدرت المحكمة قرارها بتبرئته بعد أن تبيّن أنه كان يتعاطى مواد مخدرة. لكن خلال فترة توقيفه في السجن مع باقي المحكومين انتقل زياد إلى نوع آخر من المخدرات، ويقول: «بلّشت بحشيشة الكيف بس، ولمّا فتت على السجن خلّوني رفقاتي جرّب المورفين والباز أو كراك كوكايين، وعلِقت». خرج زياد من السجن مدمناً على مختلف أنواع المخدرات حتى توجه إلى الاتجار مع شبكة تجّار تعَّرف عليها داخل القاووش. «ما كنت بحياتي بتخيّل إنو توقيفي بالسجن بشي ما عملته يخلّيني صير تاجر عنجد».

التوقيف ليس عقاباً بل تدبيراً
يتحدث أحد القضاة حول مدى أهمية تقسيم السجون بحسب أنواع الجرائم لناحية إعادة التأهيل، كونه «الهدف المطلق». فإن فلسفة القانون الجزائي ليس الانتقام بل حماية المجتمع وإصلاح السجين. ويقول لـ«القوس» إن «دخول السجون اللبنانية اليوم يعني تحويل السجين للأسوأ لأنها تخلق مجرماً جديداً. فهناك أشخاص يتعاطون المخدرات يدخلون السجن بتهمة الترويج فيصبحون بعد اختلاطهم مع مروّجين حقيقيين تجار مخدرات» فالتأهيل لا يكون بوضع متعاطٍ أو مرتكب جريمة سرقة مع آخر تاجَر بالمخدرات، إذ تختلف طريقة التعامل مع كلاهما. مضيفاً أن هناك نزلاء ضعفاء النفوس، يمكن أن يتعرّضوا إلى غسل دماغ بعد اختلاطهم مع إرهابيين ومجرمين خطرين، ليخرجوا من السجن منظّمين وجاهزين لتنفيذ عملية إرهابية «أصبحت السجون مراكز لتخريج مجرمين برتبة أعلى».
مشيراً إلى أن المسؤولية تقع على الدولة التي «تنفق أموالاً لبناء منتجع سياحي بدل إنفاقها على إعادة تأهيل السجون». وعلى القضاة لناحية الالتزام بنص المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، فالمفترض عدم توقيف الأشخاص جراء حوادث السير مثلاً والتمييز بين مطلق طلقة نارية واحدة في الهواء أو ثلاثين طلقة.
ويستطرد القاضي «نهج النيابة العامة وبعض قضاة التحقيق في توقيف الجميع لا يساعد على إعادة التأهيل، الشطارة مش بالتوقيف بل بقرار الترك»، فالتوقيف ليس عقاباً بل تدبيراً، والمحكمة هي التي تعاقب وتحاكم المتهم وليس النيابة العامة. لافتاً إلى أنه من الأفضل تعديل القوانين وتطبيقها، وترك الموقوفين بسند إقامة عوضاً عن زجّهم داخل سجون ونظارات مكتظة ليراكموا خبرات جنائية إضافية في بيئة بعيدة كل البعد عن التأهيل.

مؤهلة للتأهيل؟
«التجربة أثبتت أن في كل بلدان العالم وخاصةً في لبنان، العقوبة التي تحرم الحرية مثل الحبس والأشغال الشاقة والاعتقال.. أي السجن عموماً هي عقوبة مفسدة أكثر مما هي مصلحة» يقول القاضي المتقاعد ورئيس غرفة محكمة التمييز سابقاً جوزيف سماحة. مضيفاً أن تلك العقوبة لا تؤدي الدور المنتظر منها. لذلك يفترض سماحة أن تُحصَر تلك العقوبات بالجرائم شديدة الخطورة، أي الحالة الجرمية التي تستدعي إبعاد المحكوم عليهم عن المجتمع. «على القاضي أن يتجنّب قدر الإمكان عقوبة احتجاز الحرية على أنواعها، وذلك يتطلب ضرورة توفّر مجموعة بديلة من العقوبات والتدابير العقابية غير الحبس والغرامة».
السجن يلّي مفروض يعيد تأهيله طلع منه متعاطي وتاجر مخدرات


أي بتعديل مواد قانون العقوبات أو مرسوم تنظيم السجون، لجهة تفصيل تقسيم السجناء ووضع كل فئة من المحكومين والموقوفين في أماكن مختلفة. فالموقوف احتياطاً ليس من المفترض حجزه مع الموقوفين الذي ينفذون عقوبات (أي محكومين وموقوفين في ملفات أخرى). كذلك الأمر للمحكوم بعقوبة تعدّ جنحة، لا يفترض احتجازه مع محكوم آخر بعقوبة جنائية. والمحكومين بالمؤبد والإعدام يفترض احتجازهم بمكان مخصّص بهم فقط. مع التفريق طبعاً بين القصّر والبالغين.
يؤكد سماحة أن هدف العقوبة هو الردع والتوجه نحو شعور المحكوم عليه بالندم والذنب، وذلك يشكل البداية لإعادة تأهيل السجين، وما نحتاجه اليوم قبل أي شيء «إعادة تأهيل السجون، لتصبح مؤهّلة لتأهيل السجناء».
أما في ما يتعلق بالمرسوم 14310 يقول سماحة إنه «أصبح قديم العهد. لأنه يتضمن أحكاماً تتعلق بنمط حياة السجين داخل مراكز الاحتجاز لا تحاكي التقدم القانوني وتطور السلوك الجنائي». والأسباب دائماً هي «ما في أموال» و«الأمور متروكة على حالها» والأموال التي تتوفر تتبخر «وما حدا بيعرف كيف» وهذه الحجج ليست مقبولة. إذ يمكن تخصيص عائدات الغرامات التي تدفع بنتيجة الأحكام لإعادة تأهيل السجون وتفريعها. كما يمكن تخصيص مثلاً الغرامات لتعزيز تأهيل المحكوم عليه نفسه. وذلك يتطلب من المسؤولين عن هذا الأمر أن يتسّموا بالجدية والنزاهة والشفافية و«الشغل بضمير حيّ».



المادة 108
لا يجوز أن تتعدى مدة التوقيف في الجنحة شهرين. يمكن تمديدها مدة مماثلة كحد أقصى في حالة الضرورة القصوى. ما خلا حالة المحكوم عليه سابقاً بعقوبة مدتها سنة على الأقل.
لا يجوز أن تتعدى مدة التوقيف في الجناية ستة أشهر، يمكن تجديدها لمرة واحدة بقرار معلّل. ما خلا جنايات القتل والمخدرات والاعتداء على أمن الدولة والجنايات ذات الخطر الشامل وجرائم الإرهاب وحالة الموقوف المحكوم عليه سابقاً بعقوبة جنائية.
لقاضى التحقيق أن يقرر منع المدعى عليه من السفر مدة لا تتجاوز الشهرين في الجنحة والسنة في الجناية من تاريخ إخلاء سبيله أو تركه.
(من أصول المحاكمات الجزائية، المعدّلة بموجب القانون 111/2010).