تخرق دروب طبيعية عدّة العوائق القائمة بين اللبنانيين، و«توحّدهم» من شمال البلاد إلى جنوبها، في رحلات ظاهرها مسلٍّ ورياضي وباطنها مليء باكتشاف الآخر وتقبّله. المشي في الطبيعة أو ما يُعرف بالـ«هايكينغ»، هواية شهدت نمواً لافتاً خلال السنوات الماضية في لبنان، فأسرت قلوب كثيرين من مختلف الأعمار، حتى باتت تشكّل ركيزة سياحية أساسية، وقطاعاً نشطاً مدرّاً للأرباح، سواء لمقدّمي الخدمات أو للقطاعات السياحية الأخرى التي تستفيد منها مباشرةً.قبل أن يُسوّق بشكل استهلاكي وجذّاب ويصبح مادة محورية على إنستغرام وتيك توك، المشي في الطبيعة قديم قدم الإنسان. أساساً، الرعاة هم أول من رسم دروب المشي، ولا تزال مجموعات الـ«هايكينغ» تستعين بهم، وفق ما يقول أنطوني موسى، أحد أعضاء مجموعة Lebanon By Nature. ويشرح أنّه ومن ضمن الطرق التي يعتمدونها كمجموعة لاستكشاف دروب جديدة، «التواصل مع الرعاة في المنطقة والاستدلال منهم على المسارات التي يعتمدونها للرعي».
صورة من العاقورة (قضاء جبيل) من صفحة Lebanon By Nature على فايسبوك

يتعدّى الـ«هايكينغ» فكرة المشي في الطبيعة. هذا ما تؤكده نائبة رئيس جمعية «درب الجبل اللبناني»، جمانة بريحي. وتوضح أنّه يشمل «الانتقال من قرية إلى أخرى، النوم في بيوت الضيافة، واكتشاف العادات والتقاليد والإرث الثقافي والغذائي والطبيعي والمعالم الدينية والتاريخية التي تميّز كل منطقة. فهو إذاً طريقة لاكتشاف البلد بكل تنوّعه».
أما موسى، فيعرّفه من منظار المجموعة التي ينتمي إليها على أنّه «المشي الطويل لساعات في الأماكن الطبيعية التي يصعب الوصول إليها والمجهولة لمعظم الناس، حتى لأبناء المنطقة التي تتواجد فيها هذه الأماكن».
أوّل من أعاد إحياء هذه الرياضة في لبنان بشكل منظّم ووضع ركيزتها الأساسية على نطاق واسع، هو «درب الجبل اللبناني» التي تأسّست عام 2007، وكان من ضمن مهامها الأساسية إعادة رسم الدرب وتحديده، خصوصاً أنّ الدرب موجود منذ مئات السنين. وقد «استعنا لهذه الغاية بخبراء ومختصّين، حتى أنجزنا تحديد الدرب الذي يمتد على مسافة 470 كيلومتراً، ويتألف من 27 قسماً، ومن 5 محميات طبيعية، ويمر عبر 75 قرية»، وفقاً لبريحي.
إلّا أنّ اللافت والمؤسف أنّ الدرب غير محميّ بقوانين، ما يعرّضه لانتهاكات تفرض إعادة رسمه بشكل دوري. في هذا الإطار، تكشف بريحي أنّ «حماية الدرب صعبة في لبنان، كونه يتعرض لاعتداءات سنوية بسبب المقالع والتمدد العمراني المتفلّت. هناك بلديات تتعاون معنا إلى أقصى حد في محاولة للحفاظ عليه، في مقابل آخرين لا يكترثون».
وعلى خط موازٍ، يتحدّث موسى عن الصداقات التي تنشأ بين الأشخاص الذين يشاركون في مجموعات المشي و«يأتون من خلفيات مناطقية وثقافية ودينية وسياسية متناقضة إلى أقصى حد في كثير من الأحيان، فتنمو بينهم علاقات وطيدة، وتمتد صداقاتهم...».
سارة مشاركة دائمة في مشاوير الـ«هايكينغ» منذ عامين، ترى أنّ الأمر ساعدها على اكتشاف نفسها أوّلاً ومن ثم الآخر. «تكتشف نفسك لأنك تكون محاطاً بقيود من صنعك ومن صنع غيرك، ولا تتحرّر منها إلا حين يتسع أفقك. كنت أعيش في بيئة شبه منسجمة، قليلة التنوع، لا أعرف الكثير عن الآخر لا بل أجهله. حين انضممت إلى رحلات الهايكينغ، خصوصاً في زمن كورونا حيث أصبحت الطبيعة متنفساً لكثيرين، خجلت من نفسي. كانت لديّ الكثير من التصورات المسبقة عن الآخر، فتبيّن لي أن الكثير يجمعني بهم. لم تزل الاختلافات طبعاً، وقد لا تزول، لكن حين تتقرب من الآخر في جو من الوئام والمحبة، تتعلم كيف تتعايش مع التنوع بدون صدام ومن ضمن الاحترام المتبادل».
يخضع الـ«هايكينغ» لشروط وقواعد، أوّلها وجود الأدلاء ذوي الكفاءة والقادرين على تحمل مسؤولية قيادة مجموعات كبيرة، والتثقيف خلال الرحلة من خلال الشروحات عن المناطق والمعالم التي يزورونها. في هذا الإطار، توضح بريحي أنّه «من ضمن مهام «الدرب اللبناني» تدريب الأدلّاء المحليين دورياً، وخاصة لجهة إجراءات الأمن والسلامة ومعايير احترام البيئة. ومن هذا المنطلق نفضّل أن يكون العدد الأقصى لأي مجموعة مشي 20 شخصاً فقط. يتعيّن وجود دليل في مقدّمة المجموعة وآخر في مؤخّرها. وفي حال كان عدد المشاركين كبيراً، تصبح هناك حاجة إلى مزيد من الأدلّاء لما يحملة الأمر من مخاطر من حيث المراقبة والانتباه».
كذلك، «تتولى الجمعية تدريب بيوت الضيافة حول إجراءات السلامة والأمن، ومعايير الصحة والنظافة وسلامة الغذاء، ولائحة الطعام وما يُستحسن أن تتضمنه، وطرق الاستقبال المثلى. علماً أنّ «الدرب اللبناني» ليست منظمة رحلات مشي، لكن توفر على موقعنا الإلكتروني لائحة بالأدلّاء وبيوت الضيافة وحتى منظّمي رحلات معتمدين».
في المقابل، تحدّد Lebanon By Nature، عند تنظيم كل رحلة، بشكل مفصّل «معلومات عن المسار ومدى صعوبته والتوقيت التقريبي الذي يتطلب لسلوكه، والعمر الأدنى المسموح به، والحالة الصحية التي يفترض أن يتمتع بها المشاركون... وحرصاً منا على توفير أقصى إجراءات السلامة، يوجد طبيب معنا في كل رحلة، إضافة إلى الدورات التي خضعنا لها مع الدفاع المدني وقدامى الصليب الأحمر»، وفق موسى.
وفي ظلّ ازدهار هذه الرياضة، أطلقت «الجامعة الأنطونية» أول دبلوم من نوعه في لبنان بعنوان «دليل الجبال ورياضات الهواء الطلق»، الذي باشرت بقبول طلبات الانتساب فيه، على أن تبدأ الدروس في أواخر شهر أيلول (سبتمبر) المقبل.
يكشف عميد كلية علوم الرياضة في الجامعة، أنطونيو صوطو، أنّ «رياضات الهواء الطلق تشهد نمواً متسارعاً في لبنان. لكن هذا القطاع غير منظّم في وزارة السياحة ولا في وزارة التربية، وللأسف نشهد دوماً على أحداث مؤسفة تودي في الكثير من الأحيان بحياة بعض الأشخاص بسبب سوء التنظيم والتفلت في هذا القطاع. لذلك، هدفنا من إطلاق هذا الدبلوم هو الاستجابة لحاجة المجتمع وتنظيم هذا القطاع وتحويله إلى مهنة». ويشرح أنّ «مدة الدبلوم سنة، ومن شروط التسجيل أن يكون الطالب حاملاً إجازة جامعية مهما كان نوعها، إضافة إلى امتحان دخول يتضمّن اختبار المجهود للتأكد من القدرة البدنية للشخص، وامتحاناً في اللغة الإنكليزية كون الدروس تُعطى من خلالها، ومقابلة مع المعنيين في هذا الدبلوم في الجامعة». ويوضح أن الدروس موزّعة بين مواد عمليّة حول الرياضات التي تمارس في الصيف والشتاء، وأخرى حول العادات اللبنانيّة التي يفترض أن يكون دليل الجبل مطّلعاً عليها، كما وإدارة المخاطر المتعلّقة بكيفية تجنب المخاطر وتعلم كيفية قراءة الخرائط والـ GPS، وغيرها. فضلاً عن 360 ساعة تدرّج في مؤسسات تحددها الإدارة».
حماسة اللبنانيين للـ«هايكينغ»، يلمسها روي لطوف، صاحب مؤسسة Royal Outdoor Gears، عبر النمو الهائل في مبيعات مستلزماتها. «لم يسبق لأحذية الـ«هايكينغ» أن انقطعت إلا هذه الفترة. كنّا نستورد عصي المشي مرّة سنوياً، أصبحنا نكرّر الأمر مرّتين أو ثلاثاً»، يقول. ويلفت إلى أنّ ارتفاع أسعار الأنشطة والفضاءات الترفيهية، دفع بعائلات عدّة إلى تفضيل الـ«هايكينغ» والتخييم للترفيه.