تستدعي قضية حمود اهتماماً خاصاً، إذ إن السابقة في اعتماد قرائن تفتقد للقيمة الثبوتية والاستناد إليها لإدانة أي شخص هي ظلم واعتداء على أبسط معايير العدالة والإنصاف. والأمر قد يتكرّر في سياق حجة «الحرب على الإرهاب» المزعومة وقد احترفت السلطات الأميركية انتهاجها لتصفية حسابات مع كل من تعاديهم.في القسم الأول من هذا الملف بدأنا بشرح كيف سعى المدّعي العام إلى إقناع المحكمة بمزاعمه الكاذبة بأن حمود هو قائد خلية لـ«حزب الله» في الولايات المتحدة من خلال إفادات شاهد «متلاعب وكاذب» (كما وصفه القاضي روجر غريغوري) يُدعى سعيد حرب، ومن خلال اختلاق مؤامرات وإصدار أحكام مسبقة.

(خاص القوس)


نستكمل الشرح في النص الآتي. ونشير بداية إلى تعرّض حقوق محمد حمود للانتهاك أمام المحاكم الأميركية من خلال:
1- سلوك النيابة العامة المخالف للقانون والأصول.
2- الأداء الضعيف وغير الفعّال للمحامي أثناء المحاكمة.
3- الأخطاء القانونية التي ارتكبتها المحكمة الابتدائية.
ستدعى المدّعي العام الأميركي كينيث بيل شاهداً لبنانياً يُدعى هيثم نشار (يُعرف باسم «سام») الذي كان موقوفاً في قضية جنائية في سانت لويس، واستند إلى مزاعمه لإقناع المحكمة بأن لمحمد حمّود الموقوف في قضية جرائم مالية، علاقة بـ«حزب الله» وبشبكة لتمويل الحزب من داخل الولايات المتحدة الأميركية.
وتبيّن أن نشار أدلى بشهادة كاذبة ضد حمود في إطار صفقة كان قد عقدها مع المدّعي العام تقضي بتخفيف الحكم بحقه في القضية التي يحاكم بشأنها في سانت لويس. وقد أخلي سبيل نشار عام 2007 وتوارى عن الأنظار.
نفى نشار أمام المحكمة وجود صفقة وشهد زوراً بأن «الاتفاق» بينه وبين المدّعي العام لم يتطلب منه أو يحفّزه على التعاون من خلال تقديم شهادة كاذبة ضد حمود. وبوقاحة لافتة قال نشار إنه كان يساعد الحكومة الأميركية دون مقابل. علماً أن المحققين لدى وكالات إنفاذ القانون الأميركية، الذين حققوا مع نشار قبل تقديم شهادته في المحكمة، كانوا على يقين بأنه كان يدلي بشهادة كاذبة.


سعى المدّعي العام خلال جلسات المحاكمة إلى التكتم على الصفقة التي تمّت مع شاهد الزور وذلك بهدف تعزيز مصداقيته أمام هيئة المحلّفين. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال مقارنة نوعية الأسئلة التي طُرحت من قبل المدّعي العام على الشاهد سعيد حرب وما جرى خلال استجواب الشاهد هيثم نشار، إذ إن إصرار المدّعي العام على إنكار نشار لأي اتفاق يقضي بتقديم معلومات كاذبة عن حمود بدا مستغرباً. وأعطى ذلك انطباعاً بأنه كان بحاجة إلى التشديد على ذلك وقد حوّل مضمون السؤال من سؤال «مفتوح» (open ended question) إلى سؤال موجّه يتضمّن الإجابة ويحمل فقط التأكيد أو النفي.
وعد المدّعي العام نشار بالحرية وعدم ترحيله وبمنحه تأشيرة للبقاء في الولايات المتحدة


إذ سأل المدّعي العام الشاهد سعيد حرب «ما الذي يتطلب منك للموافقة على الشهادة؟»، بينما سأل نشار «هل أنت مطالب بالشهادة؟».
وجاءت تفاصيل الاستجواب أمام المحكمة على النحو الآتي:
المدّعي العام: «هل أبرمت اتفاقية مع المدّعين العامين في سانت لويس؟ هل لديك اتفاق مكتوب مع المدّعين العامين أم لا؟».
هيثم نشار: «نعم فعلت».
المدّعي العام: «وكجزء من هذا الاتفاق، ما المطلوب منك فعله؟».
نشار: «أنا آسف؟».
المدّعي العام: «بالنسبة إلى الجزء الخاص بك من الاتفاق، ما هو المتوقع منك؟».
نشار: «الجزء المتفق عليه ماذا - لم أفهم هذا السؤال».
المدّعي العام: «اسمحوا لي أن أكون أكثر وضوحاً حول هذا الموضوع. هل أنت مطالب بالشهادة إذا دعيت لذلك؟».
نشار: «لا - لا».
المدّعي العام: «إذاً فهذا [شرط الإدلاء بالشهادة] ليس شرطاً في الاتفاقية الخاصة بك».
نشار: «لا سيدي».
المدّعي العام: «ولكنك تفعل ذلك على أي حال».
نشار: «نعم».
المدّعي العام: «لماذا؟».
نشار: «لطلبك».
المدّعي العام: «لأنني سألت؟».
نشار: «لقد سألت متى لدينا - لقد اتصلت لتحديد موعد وجئت. قلت إذا كنت أعرف شيئاً عن هذه الحقائق، فأخبرني بما لديك من أسئلة عن الإخوة حمود وغيرهم. أجبت على السؤال. وسألتني إذا كنت سأحضر إلى المحكمة. قلت نعم».
المدّعي العام: «الآن، هل تأمل أن شهادتك اليوم ستساعد بطريقة ما قضيتك في سانت لويس؟».
نشار: «لا أعتقد أنها ستفعل أي شيء، لا أعتقد أنها ستفعل أي شيء، لا أعتقد أنها ستساعد. سيكون الأمر رائعاً لكنني لا أعتمد على ذلك بصراحة».
المدّعي العام: «هل قدّم لك أي شخص من مكتب المدّعي العام الأميركي في سانت لويس أو أي شخص هنا في شارلوت أي وعود أو اقترح عليك».
نشار: «هاتان قضيتان مختلفتان تماماً. لا علاقة لذلك ببعضنا هنا».
المدّعي العام: «كل ما أحاول الوصول إليه هو معرفة ما إذا كان ما تفعله اليوم هو أن شخصاً ما قد وعدك أو جعلك تعتقد أنك ستحظى بمعاملة أفضل في سانت لويس بسبب إدلائك بشهادتك هنا؟».
نشار: «لا سيدي».
المدّعي العام: «لم يفعل أحد ذلك؟».
نشار: «لا».
حصل وكيل محمد حمود القانوني عام 2012 على نسخة من ملف نشار الذي تضمّن الاتفاق الذي عقده مع المدّعي العام. يلزم الاتفاق نشار بـ«التعاون» مع حكومة الولايات المتحدة. ولا شك أن عدم تحديد حدود «التعاون» وشكله في نص الاتفاق يتيح للمدّعي العام بأن يفسّره للشاهد شفهياً بأشكال مختلفة.
وكان المدّعي العام في قضية حمود، كينيث بيل، قد أثنى على «تعاون» نشار. إضافة إلى حصول نشار، وهو مواطن لبناني، على تأشيرة للبقاء في الولايات المتحدة بعد إخلاء سبيله.

(خاص القوس)


اختراع 70 ألف دولار
شهد نشار زوراً بأن شخصاً يُدعى عصام كان من زبائن حمود. وأفاد بأنه كان قد أعطى مبلغاً من المال لعصام على سبيل الدَّين، لكن بدل ردّه «تبرّع عصام بالمال لحمود، ليرسلها بدوره إلى حزب الله». كما زعم نشار أن الأموال التي جمعها حمود لصالح الحزب بلغت ما بين 60 و70 ألف دولار. لكن لا يمكن أن تكون تلك المزاعم صحيحة، إذ إن أجهزة التحقيق والاستخبارات ومكتب التحقيقات الفيدرالية قاموا بمراقبة واسعة النطاق ومفصّلة لأنشطة حمود. وقد شملت المراقبة والرصد المكالمات الهاتفية وسجلّات الأرقام السرّية وكاميرات المراقبة والعملاء. ولم يعثروا على أي دليل أو قرينة تؤكد صحة ادعاءات «الشاهد» هيثم نشار. وكانت المحكمة قد استمعت إلى إفادات ستة شهود عرضهم الدفاع ولم يشر أي منهم إلى صحة ما جاء على لسان نشار.

شاهدة لم تصدّقها المحكمة
كان شاهد الزور هيثم نشار في علاقة عاطفية مع سيدة أميركية تُدعى تيريزا فينوكيو. أفادت الأخيرة أمام المحكمة بأنها كانت قد أجرت محادثة مع نشار في أحد فنادق شارلوت، إذ ذكر أنه كذّب بشأن تورط محمد حمود لأن:
(1) حمود «شخص يمكن التخلص منه».
(2) أراد نشار «القضاء» على حمود كمنافس في تهريب البضائع (السجائر) في الولايات المتحدة الأميركية.
(3) كان يسعى إلى تخفيض مدة عقوبته في السجن.
كما شهدت فينوكيو أن صهر هيثم نشار كان يعلم أنه كذّب وكان «منزعجاً جداً منه» بسبب ذلك.
جرى استجواب فينوكيو أمام المحكمة لأيام بشأن ضلوعها في جرائم مالية وتهريب بضائع وتجاوزات أخرى لا علاقة لها بقضية حمود، في سعي واضح من المدّعي العام لإضعاف مصداقية شهادتها. وأشار المدعي العام إلى عدم إبلاغها عن شهادة الزور التي أدلى بها نشار في المرحلة الأولى من التحقيقات، وأنها لم تبح بذلك إلا بعد أن استجوبها المحققون من مكتب التحقيقات الفيدرالية للمرة الثالثة. وخلصت المحكمة إلى أن ما أدلت به فينوكيو لا يمكن الاستناد إليه لاستبعاد شهادة نشار لأنها لا تتمتع بالمصداقية.

نشار يعترف لحمود في السجن
في عام 2011، التقى محمد حمود بهيثم نشار في سجن أتلانتا ووقع شجار بينهما. سأل نشار لاحقاً حمود عن مدة عقوبته فشكره حمود على الحكم عليه لمدة 155 سنة في السجن بعد أن استندت المحكمة إلى إفادته الكاذبة. فغضب نشار وأجاب بصوت عالٍ: «أنتم الشيعة الذين عملتم ضدي، وكنتم ستشهدون ضدي، ففكرت: أتغداكم قبل أن تتعشوني. فلتبكِ أمك بدل أن تبكي أمي». واعترف نشار لحمود بصراحة بأنه كذّب محاولاً تبرير كذبه بطرق مختلفة. وفي اليوم التالي، عندما فُتحت أبواب غرف السجن لتناول الإفطار، اعتذر نشار من حمود وقال إنه يشعر بالذنب بسبب شهادته الكاذبة.
اعتذر نشار من حمود قائلاً إنه يشعر بالذنب بسبب شهادته الكاذبة


خلال الأيام التي تلت ذلك، تحدّث نشار وحمود طويلاً. وطلب الأخير من نشار أن ينتقل إلى غرفته في السجن، فتبادلوا الأحاديث حول تقاليد عائلة نشار في الشمال وعن حياته في لبنان وأميركا وفي السجن. وفي ما يتعلق بالقضية قال نشار إنه يعتقد أن كل الشيعة في شارلوت أدلوا بتصريحات ضده وأخبره الناس أن حمود يكرهه وكان مقتنعاً بأنه سيشهد ضده. كما اعترف نشار لحمود بأنه كذّب عندما نفى وجود اتفاق مع الحكومة للإدلاء بشهادته ضد حمود. وقال إن المدّعي العام لم يعده بالحرية فحسب، بل بعدم ترحيله. كما وعده بمنحه «تأشيرة تصريح» تسمح له بالبقاء في الولايات المتحدة.



محامٍ في خدمة الادّعاء؟
كان المحامي الذي كُلف بالدفاع عن حقوق محمد حمود قد تخرّج حديثاً في كلية الحقوق وقد ارتكب العديد من الأخطاء بسبب ضيق خبرته. وقد شملت هذه الأخطاء، على سبيل المثال لا الحصر، ما يلي:
أ. عدم تمثيل حمود بالشكل المناسب أمام المحكمة.
ب. الفشل في تثقيف نفسه وتوسيع معرفته وتشخيصه للأدلة.
ج. عدم التواصل مع الحكومة بشأن التعاون.
د. - عدم الاعتراض على العديد من حالات سوء سلوك النيابة العامة، ما أدّى إلى تفاقم تلك المشكلة.
هـ. الفشل في تأمين شاهد خبير في قضايا «الإرهاب».
و. الفشل في استجواب الشهود بشأن العناصر الأساسية لقضية المدّعي العام والتناقضات في شهاداتهم.
ز. الفشل في تقديم طلب شطب شهادة المدعو ماثيو ليفيت التي سبقت شهادة سعيد حرب، بعد أن أدلى حرب بشهادته على أساس أن شهادة ليفيت ميّزت شهادة حرب بشكل زائف.
ح. عدم إعداد شهود الدفاع.
ط. عدم الاعتراض على التصريحات المتكررة غير المدعومة بأن حمود كان يعرض أشرطة الفيديو عن «حزب الله».
ي. عدم الاعتراض على كمية كبيرة من المزاعم غير الموثّقة والمعلومات المضلّلة وغير الدقيقة التي عرضها المدّعي العام في المحكمة.
ك. عدم الاستعانة بمتخصّص لغوي لشرح العامية والطعن في دقة الترجمات الحكومية الأميركية.


تضخيم العقوبة
ارتكبت المحكمة الابتدائية عدداً من الأخطاء القانونية والدستورية في قضية محمد حمود، أهمّها:
أ- قبول شهادة عميل لمكتب التحقيقات الفيدرالي غير مؤهّل كخبير في قضايا «الإرهاب».
ب- الحد من نطاق الاستجواب بهدف حماية «أسرار» الحكومة رغم أن المدّعي العام لم يبد اعتراضاً على الأسئلة ولم تكن هناك مصلحة مشروعة للحكومة في عدم الكشف عن المعلومات.
ج- إدانة حمود استناداً إلى قرائن لا قيمة ثبوتية لها وهو ما يشكل انتهاكاً للقوانين الجنائية ذات الصلة ولحقوق حمود الدستورية.
د- تضخيم العقوبة من خلال تحديدها بداية بالسجن لمدة 155 سنة.


«حقائق» لا تستند إلى أي دليل
يتضمّن سلوك النيابة العامة الفيدرالية الأميركية المخالف للقانون والأصول بحق محمد حمود:
1. استنادها إلى شهادة زور أثناء المحاكمة وعند إصدار الحكم، وتشديدها على مصداقية شهود المدّعي العام من دون التأكد منها.
2. عدم الكشف عن معلومات تتعلق بالشهود الرئيسيين الذين أدلوا بشهاداتهم أمام المحكمة.
3. عرض ومناقشة ما اعتُبر «حقائق» لا تستند إلى أي دليل في المحكمة.
4. حث هيئة المحلفين بشكل غير لائق على إدانة حمود.
5. في أول محاكمة جنائية بتهمة الدعم المادي لمنظمة إرهابية بعد 11 سبتمبر 2001، جرى تكرار المناشدات لعواطف هيئة المحلّفين ووطنيّتها في محاولة لتحريضهم على الإدانة.
6. أدلت الحكومة بتصريحات متكررة للصحافة أثناء المحاكمة بسبب اعتراضات الدفاع على تأجيج الجمهور.
7. قال المدّعي العام، كينيث بيل، لمؤلّفي كتاب «البرق من لبنان» (باربارا نيومان وتوم دياز، 2006): «كنت أعرف أن هذه كانت قضية العمر... لقد كانت بمثابة صانع مهنة» (الصفحة 260). لكن بدا واضحاً أن الطموح الشخصي كان الدافع الأساسي للنيابة العامة.