في نقاشاته مع المستشار الفرنسي جان إيف لودريان، اكتفى الرئيس نبيه بري بنصيحتين في ما يخص الحوار:الأولى، عدم ترؤسه شخصياً للجلسات بحجة أنه طرف في الانقسام السياسي - الرئاسي الحالي. ورغم أنه كان طرفاً أيضاً حين كان يدعو إلى جلسات حوار سابقاً، لكنه حرصاً على نجاح المسعى الفرنسي، سحب الذريعة التي يمكن أن يلجأ إليها بعض الأفرقاء لتعطيل الحوار.
والثانية، عدم «توسيع البيكار»، سواء لجهة العناوين أو المشاركين. مع ذلك وسّع ممثل الإدارة الفرنسية دائرة الدعوات والعناوين، مقدّماً هدايا مجانية لرافضي مسعاه بما يسهم في إضعاف ما تبقّى من زخم للمبادرة الفرنسية، في وقت يبدو واضحاً أن جعبته فارغة تماماً، من الدعم الخارجي ومن الاقتراحات الداخلية وحتى الضمانات، وأن كل ما تفعله الإدارة الفرنسية اليوم هو ترقّب نتائج الحوار بين التيار الوطني الحر وحزب الله. علماً أن علاقتهم مع الحزب دخلت، مع بدء الخطوات العملية للتنقيب عن الغاز، مرحلة التواصل المباشر.
وإذا كانت محدودية الحركة بالنسبة إلى المبادرة الفرنسية باتت واضحة، فإن ما بات واضحاً ومحسوماً أيضاً هو أن تداعيات المصالحة بين السعودية وإيران أقل تأثيراً من تداعيات خلافهما. صحيح أن السفير السعودي في لبنان وليد البخاري يحرص على مقاطعة محاوريه حين «يشطحون» في التصعيد الكلامي ضد حزب الله، كما فعل مع أحد النواب البيروتيين أخيراً، إلا أنه يعود إلى استحضار رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في مقاربته للاستحقاق الرئاسي حين يتحدث عن رئيس يطمئن المكوّن الشيعي ويوائم مواصفات جعجع السيادية. كذلك تتضارب المعطيات بين من يشير إلى تراجع الدعم المالي السعودي للقوّات وما استتبعه من تخلٍّ عن عشرات الموظفين في جهاز أمن الحزب، ومن يؤكد استمرار عمل الآلة القوّاتية بالطاقة المالية نفسها، فيما يُعزى التصعيد الكتائبي الأخير إلى التقشف السعودي حصراً.
المواكبون لحركة السفير السعودي يؤكدون تكراره الغمز الإيجابي تجاه حزب الله والتشديد على التهدئة، ويلفتون، مثلاً، إلى أنه يولي اهتماماً للنائب إبراهيم منيمنة أكثر مما يبديه لزميلَيه وضاح صادق وفؤاد مخزومي، لقدرة الأول على التعبير عما يتناغم مع الموقف السعودي من دون توتر واستفزاز. والمملكة التي تواصل الادعاء أنها لا تدخل في لعبة الأسماء حتى على مستوى رئاسة مجلس الوزراء، يبدو بوضوح أنها تميل - كما توحي حركة سفيرها - إلى الوجوه الشبابية السنية التي دخلت المجلس النيابي للمرة الأولى، ولا سيما أولئك الذين على تماس يومي مباشر مع ناخبيهم في المنية أو طرابلس أو بيروت. وإذا كانت معادلة الثنائي - جعجع تحكم المقاربة السعودية للاستحقاق الرئاسيّ فإن السفير السعودي كان جازماً أخيراً بأن اتفاق الثنائي مع التيار الوطني الحر يُعيد خلط الأوراق، وخصوصاً أن المتابعين للحوار يجزمون بمنح بري تفويضاً على بياض للحزب إذا كان ذلك سيفضي إلى موافقة باسيل على انتخاب سليمان فرنجية رئيساً.
توحي حركة البخاري باهتمام الرياض إلى الوجوه الشبابية السنية التي دخلت المجلس النيابي للمرة الأولى


ومع مراوحة حركة الحزب والتيار في مكانها منذ أسبوعين بعد الدخول في دوامة تشكيل لجان وتبادل الأوراق، تعبّر مصادر الحزب عن القلق من عامل الوقت في ظل التطورات الإقليمية السلبية المتسارعة، ما يستوجب الإسراع في انتخاب رئيس. مع العلم أن التعثر الفرنسيّ المتواصل تقابله حركة مكوكية لموفدي الدوحة التي تملك «أوتوستراد» تواصل مع الحزب وتسعى إلى العودة بالعلاقة معه إلى عام 2006. إذ يدرك القطريون أن أقصى ما يمكن لقائد الجيش جوزف عون أن يذهب إليه هو جمع بعض العاطلين من العمل تحت مظلة «إعلان»، ما لا يمكن أن يؤثر في الحزب من قريب أو بعيد. كما يدرك القطريون (ومن خلفهم) أن انتخاب رئيس من دون الثنائي الشيعي مستحيل حتى ولو كان معهم مئة نائب، ولذلك لم يسعوا بالتالي مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل إلى أكثر من قطع الطريق على فرنجية أو تأخير وصوله في انتظار اللحظة المناسبة للتسوية. وحتى بعد النجاح النسبي في قطع الطريق مرحلياً على فرنجية، لم يسعوا إلى بلورة أية خيارات أخرى، حتى في ما يخص قائد الجيش الذي يفترضون أن وصوله إلى بعبدا يستوجب الاتفاق مع حزب الله وليس مع أي مكون آخر. وهو ما يقود إلى القول إن المرحلة السابقة لم تشهد أي حراك جدي لانتخاب رئيس، وكأنه كان هناك اتفاق ضمني بين الداخل والخارج على إضاعة الوقت نحو عام كامل، فيما بدأ الجميع اليوم إعداد العدّة للانتقال من مرحلة التسليم بالفراغ إلى مرحلة انتخاب الرئيس:
• الحزب يريد أن يضمن أكثرية ونصاباً في حال اضطرته الظروف الإقليمية غير المستقرة إلى انتخاب رئيس مواجهة من دون رضى الخارج.
• الفرنسيون يريدون إنجاز الاتفاق بين الحزب والتيار لتحسين ظروف مبادرتهم.
• القطريون لا يريدون اتفاقاً بين الحزب والتيار يعزز موقع الحزب التفاوضيّ من جهة، ويريدون في المقابل تفاوضاً مباشراً مع الحزب بشأن الثمن الذي يريده مقابل الموافقة على جوزف عون رئيساً.
وسط هذا كله التقط رئيس اللقاء الديموقراطي المتقاعد وليد جنبلاط حركة باسيل، فبادر مسرعاً: لماذا أقطع إكراماً للقطريين والسعوديين ومن خلفهم - مجاناً - طريق بعبدا على المرشح المدعوم من حزب الله في انتظار الوقت المناسب، وعندما يحين هذا الوقت تبادر قطر والسعودية ومن خلفهم إلى الحوار المباشر مع حزب الله سواء بشأن مرشحه أو مرشحهم، فأخرج من المولد بلا حمص؟ بالعكس تماماً، ربط جنبلاط موقفين ببعضهما: انتقد تخلّي العرب عن لبنان وانكفاءهم عنه بيد، وأشار بيدٍ أخرى إلى وجوب الجلوس مع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله من أجل انتخاب رئيس و«مستقبل لبنان». فلماذا يجلس الأميركي أو السعودي أو القطري مع الحزب للتوصل إلى اتفاق بشأن الرئيس من دون أن يكون لجنبلاط أي دور في هذا الشأن! لماذا لا يجلس كلٌّ من باسيل أو جنبلاط أو باسيل وجنبلاط مع الحزب للتوصل إلى اتفاق بشأن الرئيس ويكون لهما دور وقرار رئيسي؟