ليست اللامركزية الإدارية في لبنان موضوعاً جديداً. إذ إنها كانت بنداً أساسياً في اتفاق الطائف (1989) في سياق تثبيت ركائز بناء الدولة. لكن، رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على الاتفاق، لم تجد الفكرة طريقاً إلى النقاش العملي. مع اشتداد الانقسام، وفي زمن البحث عن حلول لمشكلات البلد بعد الفشل المتلاحق لإدارة الحكم فيه، سياسياً واقتصادياً ومالياً وإدارياً، عادت اللامركزية لتُطرح على طاولة القوى السياسية، وسط انقسام حادٍّ حولها: فريق يتمسك بالمركزية الشاملة للدولة في وجه مشروع انفصالي، وآخر طامح إلى توسيع اللامركزية الذي لا تخلو صفوفه ممن يرون في التقسيم خياراً لحل مشكلات البلد. وبينَ هذا وذاك، تجاوز الجميع تطبيق اللامركزية الإدارية كما فسّرها اتفاق الطائف (أي إعطاء كل قضاءٍ إداري الحق في جباية ضرائبه والتركيز على نموّه الداخلي مع تخصيص جزءٍ من الضرائب لنمو المناطق الأكثر حرماناً في لبنان)، ولم يُسمح باعتماد نموذج يمنع تضارب الصلاحيات أو التجاذب على النفوذ بين السلطة المركزية والسلطات المحلية.أخيراً، عاد طرح اللامركزية الإدارية من بوابة الأزمة الرئاسية، تحت عنوان إعادة تكوين السلطة. وللمرّة الأولى، تتوافر ظروف داخلية للتفكير بصيغة جديدة للنظام تطال عمق المسائل السياسية والمالية أيضاً، بما يُحدِث تغييراً في صلاحيات الدولة المركزية، بعدما أدرج رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل هذا الملف كأحد الشروط الأساسية لقبوله بانتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية.
يناقش باسيل الملف مع الطرف الأقوى في البلاد، أي حزب الله، وعلى خلفية أنّ توافق الطرفين يتيح توسيع دائرة التفاهم مع قوى أخرى ذات ثقل في البلاد. في المبدأ، لم يرفض حزب الله مشروع اللامركزية يوماً، وإن كان يشدّد على الفارق النوعي بين اللامركزية الإدارية واللامركزية السياسية، علماً أن اتفاق الطرفين حول المشروع لا يعني تحوّله إلى أمر واقع. فالاتفاق يجب أن يقترن بتطبيق تشريعي لن يُؤمّن إلا بموافقة الكتل السياسية الأخرى عليه، وهو ما أكده الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرلله في خطابه الأخير، بقوله «إذا اتفقنا مع التيار الوطني على مسوّدة ما فإننا معنيون بمناقشتها مع الأفرقاء، لأننا أمام اقتراح قانون فيه عدد كبير من المواد ويحتاج إلى أغلبية لإقراره في المجلس النيابي».
الحزب سيقارب المشروع من زاوية تتجاوز أكثر بكثير المصلحة «الخاصة» للتيار


وفي المعلومات أن حزب الله والتيار الوطني شكّلا لجاناً خاصة للبحث في المشروع وضعت تصوّرها وملاحظاتها، على أن تبدأ اجتماعاتها الثنائية الشهر المقبل. وتضمّ لجنة حزب الله الوزير السابق محمد فنيش، النائب علي فياض ورئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق عبد الحليم فضل الله، فيما تضم لجنة التيار النائب آلان عون ومستشار رئيس الجمهورية السابق أنطوان قسطنطين والمحامي طوني عبود.
سابقاً، عُرضت على القوى السياسية مشاريع واقتراحات قوانين عدة تقدّم بها نواب منذ عام 1995، من بينها مشروع تقدم به الوزير زياد بارود الذي تبنّاه باسيل، وقدّمه إلى الحزب كمسوّدة للوصول إلى اتفاق. ومع أن المشروع نوقش في لجنة نيابية فرعية منبثقة عن لجنة الإدارة والعدل تمثلت فيها كل الكتل النيابية، وتوصلت إلى الاتفاق على عدد من بنوده بعد إدخال تعديلات عليها، إلا أن المعلومات تشير إلى أن البحث سيبدأ من الصفر، حيث سيُعاد درس الموضوع برمّته والنقاش في كل البنود بما يضبط الغرائز المتفلّتة حالياً. إذ إن المشهد اللبناني حالياً يُظهر اللامركزية كمطلب القوى المسيحية، يتكاثر مناصروه يوماً بعد يوم، وأن حزب الله سيقدّم المشروع هدية إلى باسيل باعتباره «مأزوماً» في انتخاب فرنجية. غير أن الأمر ليس بهذه البساطة. والمؤكد أن الحزب سيقارب المشروع من زاوية تتجاوز أكثر بكثير المصلحة «الخاصة» للتيار. فالحزب، وفقَ مصادره، لا يعارض «مشروع اللامركزية كنظام إداري صرف مع العناية الشديدة بتحديد معالمه ومضامينه بما يقطع الطريق على أي تداخل مباشر أو غير مباشر مع اللامركزية السياسية، وبما لا يؤدي إلى إضعاف دور الدولة». وهذا هو التوجه الذي سيحكم معايير الحزب على طاولة البحث.
ضبط الصلاحيات…
على أن البحث في اللامركزية ليسَ أمراً تقنياً بحت، بل يتصل بتوجهات سياسية، وهو ما يفرض صياغته بطريقة مدروسة تمنع أصحاب النزعات الفيدرالية من استخدامه لإضعاف الدولة وبناء كيانات ذاتية. وتعتبر أوساط معنية بالنقاش أن المهم أولاً تثبيت الحدود الفاصلة بين اللامركزية الإدارية التي حدّد اتفاق الطائف إطارها، وبين الفيدرالية التي تعد نظاماً سياسياً يحتاج إلى تعديل دستوري. فضلاً عن اعتماد لامركزية مالية مضبوطة، تحدد توزيع صلاحيات السلطة المالية وتوزيع الموارد الضريبية بين الدولة المركزية والسلطات المحلية، وتلزِم الإدارات المحلية بإجراءات وقوانين فيما يتعلق ببعض العائدات، مثل تلكَ المتعلقة بالهبات الخارجية. والأهم من ذلك كله، هو النقاش الصعب حول صلاحيات القوى الأمنية المحلية، كي لا تتحول إلى قوى مسلّحة تنافس الجيش وقوى الأمن الداخلي، وتقييد القرارات المتعلقة بالشراكة مع القطاع الخاص والقيام بمشاريع استثمارية، من خلال تحديد نوع المشاريع ذات المنفعة العامة التي يُمكن أن تنفذها المجالس المحلية داخل نطاقها الإداري. إذ إن شقّ طريق أو بناء سد، على سبيل المثال، يختلفان عن إقامة مطار أو إنشاء مرفأ تجاري!



مشروع زياد بارود
أواخر عام 2012، كلّفت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وزير الداخلية آنذاك زياد بارود مع مجموعة من الخبراء إعداد مشروع قانون للّامركزية الإدارية. وبعد نحو سنة أنجزت اللجنة ما بات يعرف بـ«مشروع زياد بارود»، وأبرز ما فيه:
- تقوم اللامركزيّة الإداريّة على انتخاب هيئات محلّية مختلفة تتمتّع بالشخصيّة المعنويّة وبالتالي بالاستقلال المالي والإداري تدير شؤون الوحدة اللامركزية.
- تعتمد الدولة اللبنانية نظاماً لامركزياً موسّعاً على مستوى مجالس محلّية منتخبة تتمتّع بالشخصية المعنوية وبالاستقلالين الإداري والمالي وتمارس صلاحيات واسعة وتشمل المجالس البلدية ومجالس الأقضية ومجلس مدينة بيروت، أي إن المشروع اعتمد القضاء وحدة لامركزية، على أن ينتخب مجلس في كل قضاء يعطى صلاحيات إدارية ومالية مستقلة مدعومة بواردات تجيز لمجلس القضاء الاضطلاع بالمهمات العديدة العائدة له.
- يُلغي المشروع القائمقاميات ووظيفة القائمقام وينقل صلاحيات الأخير إلى مجلس القضاء المنتخب، مع الإبقاء على وظيفة المحافظ كصلة وصل بين المناطق والمركز (عبر اللاحصرية)، ويضع بعض صلاحيات المحافظ التنفيذية في يد مجلس القضاء المنتخب.
- يستبدل مشروع الصندوق البلدي المستقل بصندوق لامركزي يراعي ضرورات الإنماء المتوازن، ويتمتع بالشخصية المعنوية وبالاستقلالين الإداري والمالي ويخضع لرقابة ديوان المحاسبة المؤخّرة، من دون أي رقابة مسبقة. ويتولّى الإشراف على أعمال الصندوق مجلس أمناء منتدبون من مجالس الأقضية والبلديات لولاية محدّدة. ويشكّل الصندوق الآلية الأساسية لتأمين ظروف تنموية متكافئة بين مختلف المناطق وردم الهوة تدريجاً بين المناطق الغنيّة والمناطق الفقيرة.
- نصّ المشروع على أن تحدّد حصص الأقضية من إجمالي التسعين في المئة العائدة لها وفق معدّلات المؤشرات الآتية: مؤشر واقع التنمية، مؤشر تحصيل الرسوم سنوياً، مؤشر عدد السكان المسجلين، مؤشر مساحة القضاء. وتحدّد حصص البلديات من إجمالي الثلاثين في المئة العائدة لها وفق الأسس الآتية: مؤشر عدد السكان المسجّلين، مؤشر عدد وحدات التكليف، مؤشر تحصيل الرسوم سنوياً استناداً إلى الحساب القطعي للبلديات.
- ينص المشروع على إنشاء هيئة مستقلّة خاصة بانتخابات مجالس الأقضية ومجلس مدينة بيروت. تتمتّع الهيئة بصلاحيات واسعة في مجال الإعداد لهذه الانتخابات والإشراف عليها في جميع مراحلها.
- خصّص المشروع فصلاً كاملاً لموضوع الشراكة بين القطاعين العام والخاص. ولحظ استحداث أجهزة متخصّصة دائمة تعمل بشكلٍ متكاملٍ وتراكمي على توثيق ودراسة وتحليل المعطيات والأرقام والديناميات المرتبطة باللامركزية والحوكمة المحلّية ونشرها ومناقشتها في سبيل تطويرها. هذه الأجهزة هي الجهاز الإحصائي، جهاز الحوكمة المحلية، وجهاز المعلوماتية.
- أنشأ مشروع القانون وزارة الإدارة المحلية لتتولّى المساهمة في تطبيق أحكام قانون اللامركزية، ومعهداً مركزياً يتولّى إعداد العاملين والشرطة في مجالس الأقضية وتدريبهم.


ما هو مجلس القضاء؟
مجالس الأقضية مؤلّفة من هيئة عامة ومجلس إدارة. في ما يتعلّق بالهيئة العامة ينتخب أعضاؤها بالاقتراع المباشر وفق النظام الأكثري في كلّ من المدن والقرى ضمن القضاء الواحد. وتتمثّل المدن والقرى وفق شطور محدّدة في القانون، ما يضمن تمثيلاً صحيحاً. أما أعضاء مجلس الإدارة الـ 12، فينتخبون من قبل الهيئة العامة على أساس النظام النسبي واللائحة المقفلة، المكتملة أو غير المكتملة.
مُنح مجلس إدارة القضاء صلاحيات واسعة منها:
- وضع خطة استراتيجية وتعديلها لتنمية القضاء وإعداد الدراسات اللازمة لذلك.
- تخطيط أشغال وتنفيذها وتطوير البنى التحتية بما فيها السدود والبحيرات ومجاري الأنهر وإنتاج الطاقة، والمشاريع الخدماتية و/أو الإنمائية و/أو الاستثمارية، وإدارتها مباشرة أو بواسطة الغير.
- إقامة مشاريع إنتاجية و/أو استثمارية لها طبيعة اقتصادية وذات منفعة عامة.
- حماية البيئة والثروة الحرجية بالتنسيق مع البلديات المعنية ووضع خطة للتنمية السياحية على مستوى القضاء وكذلك وضع خطة للتنمية الثقافية وحماية التراث، والمساهمة في تطوير تكنولوجيا المعلومات على مستوى القضاء.
- تخطيط الطرق الواقعة ضمن نطاق القضاء وإنشاؤها وتقويمها وتوسيعها وصيانتها، باستثناء الطرق الدولية والطرق المحلية الواقعة ضمن نطاق بلدية واحدة، وإنشاء الحدائق والساحات العامة والملاعب والمجمّعات الترفيهية.
- وضع التصاميم العائدة للقضاء والمخطّط التوجيهي العام بالتعاون مع المديرية العامة للتنظيم المدني وبعد موافقة البلديات، كلّ ضمن نطاق القضاء، مع حق اقتراح تعديل الخطة الشاملة لترتيب الأراضي ضمن نطاق القضاء.


مشروع جامعة الكسليك
عملت جامعة الروح القدس في الكسليك، أخيراً، على تطوير مشروع للّامركزية الإدارية، ليتم اعتماده من عدد من النواب وتقديمه كمقترح بقانون إلى مجلس النواب. وهو طرح وصفته مصادر نيابية بأنه يحاكي المزاج المسيحي العام الراغب باستقلالية مطلقة. وبعد عرض المشروع على عدد من القوى المسيحية، أيده بعضها بينما اعتبره البعض الآخر ناقصاً، وخصوصاً من باتوا أكثر اقتناعاً بالطرح الفيدرالي كالقوات اللبنانية التي عبّرت عن هذا الموقف خلال لقاء مع وفد الجامعة.