يقترب الشغور الرئاسي من عامه الأول، من دون أن تظهر إشارة إيجابية واحدة إلى احتمال حصول خرق في الملف الرئاسي. والاعتقاد بأن تجربة السنتين ونصف السنة التي أعقبت خروج الرئيس ميشال سليمان من القصر الجمهوري سابقة لن تتكرر، قد لا يكون في محله، لأن «الاعتياد» على الشغور صار مكرّساً في اليوميات السياسية، بدليل التعامل مع ذهاب رئيس حكومة تصريف الأعمال إلى نيويورك لحضور الجمعية العمومية للأمم المتحدة ولقاءاته على هامشها، وكأنّه حدث عادي يستكمل مسار انعقاد جلسات مجلس الوزراء.هذا التأقلم يشبه التعامل مع تكرار القبول باللقاءات والمبادرات، الفرنسية ومن ثم القطرية، التي لا تساهم في حلّ، بقدر ما تؤدي إلى إطالة عمر الأزمة. فمع تفعيل تحرك قطر، التي لم توقف مساعيها في سلسلة لقاءات عُقدت أخيراً، هناك مبالغة في التعويل عليه وتصويره على أنه قد يصل إلى خرق استثنائي لم تتمكّن فرنسا - رغم أخطائها - من تحقيقه، أو الوصول إلى نقطة تقاطع بين القوى السياسية على اسم واحد. صحيح أن الدوحة تدعم بوضوح قائد الجيش العماد جوزف عون، وأن التعامل معه يتم على أساس أنه الأول بين المتقدّمين على مسرح الترشيحات، لكنّ الصحيح أيضاً أن البحث في الأيام الأخيرة حول اسم ثالث، غير المرشحين المعروفين سليمان فرنجية وجهاد أزعور، لم ينقطع، وأن هناك لائحة رباعية لا تزال قيد التداول. لكنّ البحث لم يصل إلى مرحلة الغربلة للوصول إلى الاسم النهائي، في انتظار سلسلة مواعيد تبدأ بلقاء نيويورك الخماسي. والقوى السياسية على اختلاف اتجاهاتها تتعامل مع تحرك فرنسا ومن ثم قطر، على قاعدة تقطيع الوقت، لعلمها أن الطرفين ليسا اللاعبين الأساسيين، إذ لم يحن بعد أوان التسوية الكبرى. وهي، في المقابل، تتصرّف وكأن الشغور الرئاسي ليس عبئا ًعليها، وأنها غير مستعجلة لإنهائه.
تتهم قوى المعارضة الثنائي الشيعي بأنه لا يريد إجراء انتخابات رئاسية. لكنّ هناك التباساً حول رغبة القوى المسيحية حقيقة بإجراء الانتخابات، انطلاقاً من مفهوم واحد: ما الغاية من انتخابات الرئاسة إن لم تكن مقرونة بإطار شامل لحل الأزمة؟
تحمّل المعارضة حزب الله مسؤولية الشغور انطلاقاً من إمساكه بالقرار السياسي والأمني، إضافة إلى امتلاكه لعبة التعطيل الرئاسي ومفتاح حكومة تصريف الأعمال، ولا يضيره شغور رئاسي طويل يكرّس مفاعيل تطور دوره كصاحب قرار نهائي. وإذا قبل بتسوية خارجية، فإنه يراهن على رئيس لإدارة الأزمة ليس أكثر، وفي أحسن الأحوال رئيس يعيد إنتاج عهدَي ما بعد الطائف، يكرّس المحاصصات ويُبقي نفوذ الحزب قائماً في مفاصل الدولة. وهو يراهن لذلك على شغور طويل من أجل استنزاف التقاطعات السياسية كي يقبل خصومه بالعرض الأقل ثمناً.
ورغم أن موقع حزب الله في المعادلة الداخلية يجعل القوى المسيحية عاجزة عن امتلاك قرار إنهاء الشغور في المبدأ، إلا أنها ليست بعيدة عن غضّ النظر مرحلياً عن اختيار رئيس للجمهورية، لكن لأسباب مختلفة تماماً. ولأن الواقع الحالي مختلف في ظروفه وحيثياته عن مرحلة اتفاق الدوحة، ثمة تعويل مبطن على أن المجريات الراهنة أصبحت مهيّأة للانتقال من واقع سياسي إلى آخر، ومن القبول بأي ثمن بتنازلات سبق أن قُدمت في مراحل توافق سابقة، ولا سيما أن السنوات والأشهر الأخيرة حفلت بكل أنواع الأفكار والمشاريع المطروحة للنظام اللبناني، وشهدت مزيداً من الانقسامات السياسية، ونضجت معها توافقات داخلية مختلفة الاتجاهات، الأمر الذي يجعل هذه القوى تميل نحو انتخاب رئيس من ضمن إطار حل شامل، ولو طال عمر الشغور، على أن تنتخب رئيساً لإدارة الازمة.
كلّ القوى السياسية تتصرّف على أساس أن أوان التسوية الكبرى بين الطرفين لم يحن بعد


لذا تتريّث هذه القوى، (معارضة وموالاة)، ولكل منها رؤيتها وأجندتها وشروطها، في الدخول في معمعة البحث عن رئيس للجمهورية فحسب، لأن الذهاب سريعاً إلى القبول بتسويات غير ناضجة تماماً واختيار شخصية بـ«ببروفيل» معروف سلفاً، يعني إبقاء الثغرات الحالية في النظام السياسي على ما هي عليه، كما المشاكل المتأتّية عن الخلل السياسي القائم، من أزمات اقتصادية وأمنية، من دون علاج جذري، أو ترحيل المعالجات بالحد الأدنى إلى سنوات مقبلة. أما التريث في انتظار بلورة أكثر لما يُرسم للبنان في ظل أزمات المنطقة المتقاطعة، وما يمكن أن تفرزه التفاهمات الخارجية، فيشكل فرصة لا تتكرر من أجل وضع معالم واضحة لحل الأزمة بكل مندرجاتها. وتراهن هذه القوى على عامل الوقت لتوسيع دائرة الضغط الخارجي على مشروع تسوية للبنان، يأخذ في الاعتبار المتغيّرات التي حصلت منذ ما قبل انتهاء عهد العماد ميشال عون، وهذا يعطيها دفعاً أكبر للتمسك بخيار التسوية الشاملة. أما القبول برئيس لإدارة أزمة، فيمكن لها لاحقاً التعامل مع أي ضغط للقبول به، وهي غير مستعجلة للقبول به من دون ثمن كبير.