مئات القتلى سنويًا، بيوت تُحرق أو تسلبها عصابات الإجرام من أهلها، تُضاف إلى عيش آلاف العائلات الفلسطينية تحت مطرقة ديون السوق السوداء والربا المترتّب عليها، وهجرة سلبية بدأت معالمها تتوضّح لفلسطينيي الداخل المحتلّ إلى دول أخرى لانعدام الأمان، وهيمنة «الخاوة» على حياة أصحاب المصالح، أي ما يسمّى بضريبة الحماية، فإمّا أن توالي عصابة إجرام أو أن تكون ضحية لعصابة أخرى. «الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها» عبارة لابن خلدون قد تنطبق على الجانب المجتمعي لتطوّر مفهوم الجريمة المنظّمة في الداخل الفلسطيني وتحوّلها التدريجي إلى حالة عامة تشكل المشهد الاجتماعي الكامل، في ظل نداء وحيد للحراك السياسي والقيادة المحلية وهو «جمع السلاح غير المرخّص». فما دور الاحتلال الإسرائيلي في كل هذا وأين ذهب المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة 1948 وإلى أين يتّجه؟


(أ ف ب)

حاول العدو الإسرائيلي منذ عام 2000 وبعد انتهاء انتفاضة الأقصى إيجاد مخرج له من تطور الحراك السياسي الوطني الفلسطيني الذي أثبت خطره الجدّي على حياة «الإسرائيليين» ورفاهيتهم. مراكز بحثية وقبضة شرطية وعسكرية، ومؤسسات ضخمة تروّج لـ«الأسرلة» بميزانيات فلكية لم تنجح في دفع الفلسطينيين في الداخل للانسلاخ عن هويتهم الفلسطينية وعلاقتهم بالأرض والمقدسات والهوية، ما ظهر جليًا في أحداث النضال ضد مخطط «برافر» الاقتلاعي عام 2013 واتضح في أحداث «هبّة الكرامة» الأخيرة 2021.
في محاولة لتحليل الخط الزمني، يبدو أن النضال ضد مخطط «برافر» هو أكثر ما أثار انتباه المخابرات «الإسرائيلية» لضرورة التعامل مع الداخل الفلسطيني بمنهجية مختلفة. فبعد تجنيد كل الداخل الفلسطيني وقدرته على شل حركة الاحتلال الإسرائيلي في ثلاث مناسبات ضخمة سمّيت آنذاك بمظاهرات الغضب، كما التفاف مجموعات وحراكات حول نموذج الحراك الشبابي في باقي مناطق الوجود الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والشتات، تكونت للمرة الأولى في المناطق الفلسطينية نماذج نضالية فوق حزبية تغلّبت على سطوة الفصائل والأحزاب، كان تحركها ضرورة عينية لإسقاط مخطط »برافر - بيغن» وبالفعل نجحت في ذلك.
عشر سنوات مضت منذ إغراق الداخل الفلسطيني في القروض السوداء، مرّت السنوات الخمس الأولى مع نسب قتل أقل بكثير، ودون فهم جمعي أن القتل تحرّكه منظومة واحدة فالمقتول إما مجرم أو مدين أو بريء وُجد في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. عند الاستماع لقصص أهالي المثلث الفلسطيني، نجد أنه كان سهلًا جدًا تحصيل قرض لأي غاية كانت، للضروريات أو حتى لتجديد المنزل أو لشراء سيارة أو أي شيء من الكماليّات. لكن، لم يعلم المُقترِض أن ثمن سداد هذا القرض قد يكون حياته، أو حياة إخوته وأقربائه، حتى بدأ القتل، فإذا تأخر في الدفع تتضاعف الدفعة أو يتضاعف المبلغ، وليس هو وحده المهدد بالقتل. فالمدين ليس مفيدًا وهو ميت لأنه لن يستطيع سداد الدين، لذلك يُقتل أخوه أو ابن عمه أو صديقه وفي بعض الحالات قُتلت أمّهات وأخوات.
ربما فشلت القيادة السياسية الفلسطينية في القياس الحقيقي للواقع وليس فقط في معالجته، فالنداء الذي أطلقته قيادات الداخل الفلسطيني السياسية كان «جمع السلاح غير المرخّص، ومحاسبة الشرطة الإسرائيلية على تخاذلها، ومنهم من طالب الشرطة بتعزيز عملها في البلدات العربية». في ظل ذلك ارتفع عدد الضحايا عن السنوات السابقة ليبلغ 167 بينهم 11 امرأة حتى الثامن عشر من الشهر الجاري، وفق ما يشير موقع «عرب 48». (راجع الصفحة 8، «مجرمون مدعومون؟»).

هل حقًا الشرطة الإسرائيلية متخاذلة في عملها؟
يجادل كثيرون بأن من فرط العمى وصف دور الشرطة «الإسرائيلية» بالتخاذل، فشرطة الاحتلال وأدوات فرض السيادة الاستعمارية في الكيان شركاء مباشرون في القتل. إذ صرّح «وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي السابق» أمير أوحانا عام 2022، بأن الشرطة «الإسرائيلية» على تواصل مباشر مع معظم رؤوس الإجرام في الداخل الفلسطيني، كما أدلى سياسيون «إسرائيليون» كثيرون بتصريحات مشابهة. ففي النقب مثلًا، جنوب فلسطين، حيث لا توجد جريمة منظّمة ولا تستطيع عصابات الإجرام الكبرى في الداخل الفلسطيني ممارسة نشاطها بسبب قوة العشائر البدوية وهرميتها، وسطوة القضاء العشائري الذي يحتكم إليه الناس لا للقانون «الإسرائيلي»، تنخفض نسب جرائم القتل لأقل من 10% سنويًا عن باقي مناطق الداخل الفلسطيني، وتكون معظمها حالات ثأر تنتهي بمقتل القاتل. ولكن، شهدت السنوات الأخيرة تزايد حالات القتل بسبب تحريض الشرطة «الإسرائيلية» لمجرمين، فالقاتل قد يخرج من السجن بعد عام واحد من الأسر فقط، أو قد لا يسجن لعدم كفاية الأدلة، كذلك برزت منهجية صناعة الفتنة من طرف دائرة أراضي «إسرائيل» بين العائلات البدوية عبر الالتزام لأكثر من عائلة على قطعة الأرض نفسها بهدف صناعة النزاع بين العائلات التي تعاني ضائقة سكنية شديدة بسبب سياسات مصادرة الأراضي.
يحاول الاحتلال دعم وتصدير شيوخ «متأسرلين» لإضعاف وتدمير القضاء العشائري


من المعروف في الشارع النقباوي أن «إسرائيل» تحاول بشكل مستمر دعم وتصدير شيوخ «متأسرلين» لإضعاف وتدمير القضاء العشائري، وإضعاف سطوة الشيوخ الوطنيين.
كذلك وقعت عشرات الجرائم باستخدام أسلحة كانت شرطة العدو قد صادرتها مسبقًا أو «مسروقة» منه، وهذا دليل على أنها طرف واضح في الصراع الاجتماعي ومروّج وداعم مباشر للجريمة المنظّمة. تعلم سلطات الاحتلال بكل قطع السلاح التي لم تصادر من أصحابها، وتتعقبّها في حال جرى استخدامها لدوافع وطنية.

فرِّق.. تسُد؟
نجح الاحتلال الإسرائيلي في إيجاد افضل أدوات العزل والتفريق والهيمنة على الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني وهي التفكيك من الداخل، ليس بالأموال أو الامتيازات لكن بقتل شعور الأمان الشخصي وتفكيك الروابط الاجتماعية وتدمير مفهوم العائلة والعشيرة. الإفقار والتضييق في البيوت أولًا، ثم ضخّ الأموال من السوق السوداء، وجمع السلاح من الناس العاديين وتركه في يد المجرمين، كذلك دعم عصابات الإجرام بالسلاح والامتيازات وغضّ الطرف عنها بالعقوبات. إذ بتنا نشاهد اليوم بثًا مباشرًا على منصة «تيكتوك» لرئيس عصابة إجرام من داخل سجنه «الإسرائيلي»، وقد نجد شبابًا متعلّمين يحبّون هذا الرئيس فهو بالنسبة لهم «روبن هوود» الداخل الفلسطيني، بعد تصريحه بأنه يريد إنهاء الخوة. ولكن أسوأ النتائج للفلسطينيين وأفضلها لـ«إسرائيل» هي تحرّك المجتمع في الـ48 خارج فكرة المجتمع الواحد وباتجاه العزلة الكاملة للأفراد، فالكل يريد أن يسلم من ابن عمه أو قريبه. حيث جرى اقتحام لإحدى البيوت وقتل كل من فيه من قبل عصابة إجرام دون أن يخرج لنصرتهم جارهم المسلّح. قد لا تتبقى جماعة فلسطينية واحدة متماسكة مع مرور الزمن، إذ بدأ كثيرون بالهجرة فعلًا.

معذّبو الأرض
في كتابه «معذّبو الأرض» يتطرق فرانز فانون إلى انتشار الجريمة بشكل جارف في المجتمع الجزائري خلال الاستعمار الفرنسي للجزائر، حتى ارتبطت النظرة الاستعلائية للمستعمر الفرنسي بتغيير مصطلح مجرم في الوعي الفرنسي إلى تسمية جزائري، وفي المقابل يربط فرانز فانون أن اللحظة التي انتهت فيها الجريمة من المجتمع الجزائري كانت اللحظة التي انتهى فيها الاستعمار الفرنسي للجزائر. ومن دون الخوض في تأجيج فرنسا للجريمة في الجزائر أو رعاية «إسرائيل» للجريمة في الداخل الفلسطيني، يتوافق فانون مع ابن خلدون في أن القهر ينتج نفسية مهزومة سيّئة لا أخلاقية للإنسان، فانعدام السيادة على حياة المرء المتمثلة في السيادة على الأرض والشعور بالكرامة الوطنية والإنسانية والاستقلال الشعبي، والفكري، والنفسي تجعله يبحث عن دائرة قوة يمارس فيها هيمنته للتغطية على ضعفه في إطار الحيّز الضيّق الذي صنعه له المستعمر وفي حالتنا الجريمة.

*بكالوريوس في الحقوق وطالب في الدراسات الإسلامية وناشط سياسي من قرية اللقية في النقب المحتلّ جنوب فلسطين.



«برافر - بيغن»
مشروع أقره كنيست الاحتلال يوم 24 يونيو/حزيران 2013 بناء على توصية من «وزير التخطيط الإسرائيلي» إيهود برافر عام 2011 للاستيلاء على مزيد من الأراضي العربية الفلسطينية في النقب.
يقضي المشروع بتهجير نحو 40 ألف شخص من عرب النقب، أي سكان 22 من أصل 39 قرية عربية غير معترف بها في النقب داخل مناطق التخطيط اليهودي.