«أيّ زراعة نريدها للبنان في ظل الانهيار الشامل؟» سؤال ليس مطروحاً بين قوى السلطة الغارقة في شراء الوقت، بل طرحه مدير مركز الأبحاث والدراسات الزراعية اللبنانية CREAL رياض سعادة في المؤتمر الوطني اللبناني - الجزء الرابع، الذي عُقد الخميس الماضي في جامعة القديس يوسف بعنوان «رؤية لزراعة أفضل في لبنان». أما الإجابات التي قدّمت، فتتحدث عن ضرورة اتباع لبنان نموذجاً اقتصادياً جديداً يحدّد دوره الإنتاجي ودور الزراعة فيه. وذلك يتطلب دراسة الأسواق المحلية والخارجية وقدرات الإنتاج والبيئة التي تحكم قواعد وسلوك السياسات الاقتصادية، وإعادة توجيه الموارد تسهم في أن يكون القطاع مجدياً في النموّ الاقتصادي وفي تلبية حاجات الأمن الغذائي.منذ عام 1975، يحتضر القطاع الزراعي في لبنان، إنما لم تتم تصفيته. والمزارعون أصبحوا أسرى الزراعة؛ فلا هم قادرون على ممارسة عمل آخر، ولا هم قادرون على تطوير عمليات الإنتاج. هذه العبارات التي قالها سعادة، تختصر واقع القطاع وفرص نموّه. برأي سعادة، سبب الاحتضار يعود إلى الحرب الأهلية وما تلاها في مطلع التسعينيات. فحتى عام 1986، كان القطاع الزراعي ينمو، ثم بدأت مرحلة التراجع. بين عامَي 1970 و1996 انكمش الناتج الزراعي بنسبة 10.45%. واستمرّت مرحلة الانحدار حتى خسر الناتج الزراعي في 2021 نحو 30%. ففي مطلع 2020، أتت جائحة كورونا وانفجرت الأزمة المصرفية والنقدية بالتزامن معها. مع كل ذلك، القطاع «لا يموت» وفق تعبير سعادة. ويعزو ذلك إلى تشبّث معظم المزارعين بمهنتهم بما تيسّر لهم من مستلزمات الإنتاج، وما تنتجه الأرض من محاصيل، وعدم التفكير بمزاولة أي نشاط اقتصادي آخر نظراً إلى ارتباطهم العضوي والحصري بها. وفي 2023، أصبح واقع الزراعة على النحو الآتي: تقنيات المحاصيل تقليدية، تطوير عشوائي لمنتجات جديدة بلا أي تصوّر للأفضل منها ولمستقبل تسويقها، وتدنّي مستوى تقنيات الإنتاج، وغياب نظام تسليف زراعي مجدٍ، وتفاقم سلبيات نظام أسواق الخضر، وتدهور أسواق التصدير.
لكن رغم إنهاكه، ظلّ القطاع الزراعي يؤدّي «مهامّ وطنية»، كما يسميها سعادة، ولا سيما أنّ «النشاطات الزراعية وتلك الصناعيّة والخدماتيّة المكملة لها تحتل ما يقارب الـ 20% من إجمالي الناتج المحلّي الإجمالي، وتسهم في تأمين جزء من الأمن الغذائي في بيئة جغرافية تحتلّها الجبال بنسبة 85%». وهذا ما يستوجب إطلاق خطّة طوارئ فورية، وبامتداد زمني متوسط وطويل «تلحظ مبدأ سلسلة الغذاء بين الإنتاج والاستهلاك، وتنظر إلى القطاع الزراعي كحلقة متكاملة للإنتاج من الأرض، إلى التمويل، فاليد العاملة، ومياه الري، والنقل وأسواق الخضر ومقدمي الخدمات ومشاغل التعريب والتوضيب...».
المطلوب فوراً «تأليف غرفة عمليات من أهل الاختصاص بالشؤون الزراعية والاقتصادية والاجتماعية، ميدانياً، مستقلين سياسياً، يترأسهم شخص نزيه ومطّلع بعمق على شؤون القطاع الزراعي والريفي. وتجييش المهارات، ثم تأمين مستلزمات الإنتاج الزراعي وتوفيرها في الأوقات المناسبة عبر جدولة دقيقة وعملية. كذلك، ضبط قنوات تسويق المنتجات الزراعية وتنظيمها بما يضمن دخلاً عادلاً للمزارعين ويحدّ من استغلال المزارعين في الأسواق الداخلية وفي التصدير. والأهم، وقف هدر إنفاق الهبات والقروض». أما على المدى المتوسط والطويل، فالهدف بناء اقتصاد ريفي «بعد الاتفاق على خيارات اجتماعية واقتصادية مناسبة».
بين 1996 و2021 انكمش الناتج الزراعي 30%


على خطٍّ موازٍ، عرضت المتخصصة في إدارة الموارد المائية والتغيير المناخي مايا عطية لتداعيات التغيّرات المناخية وتأثيرها المحتمل على الزراعة. وقالت إنّ «التعرض للمناخ إلى جانب مستوى الحساسية (البيئة الطبيعية والمادية) ينجم عنهما أثر محتمل على القطاع الزراعي». لذا، عند الحديث عن قابلية التأثر، يجب الأخذ في الحسبان «القدرة على التكيّف (الناتج المحلي/ مستوى الدخل، المستوى التعليمي، حسن الإدارة)». ففي دراسة أُجريت على مناطق ذات قابلية تأثّر عالية في نهاية القرن الحالي، تبيّن مثلاً، أن حاصيبا سجّلت نسبة تفوق الـ 80% تشمل 3800 هكتار مزروعة بالزيتون والمحاصيل الحقلية وأشجار الفاكهة. سبب ذلك «قدرة محدودة للريّ، وارتفاع معدلات البطالة والأمّية، ونقص تنوّع المحاصيل، وسوء خصائص التربة، وانخفاض كميات الأمطار وارتفاع درجات الحرارة». وتشير إلى أنه بحلول منتصف القرن (2041-2060) «يتوقّع أنّ 94% من إجمالي المساحة المزروعة في منطقة حوض نهر الكلب ستكون قابلة للتأثر المتوسط والعالي».
إذاً، التحديات هي مناخية أيضاً «ففي 2010 كان نصيب القطاع الزراعي 58% من مجمل الطلب السنوي الإجمالي على المياه المقدّر بنحو 1,530 مليون متر مكعب آنذاك. على أنه يعدّ أعلى بكثير اليوم ويصل إلى 85%، بينما تعتمد 51% من المساحات المزروعة في لبنان على الري لتشمل المحاصيل المروية الرئيسية كالحبوب والبطاطس والحمضيات والخضروات» وفق عطية.