صرّح وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري بأن عدم تطبيق القانون هو أمر يقتضي الاستمرار فيه. أن يصدر كلام كهذا عن وزير مؤتمن على العدالة، يستنسب تطبيق النصوص القانونية التي تلائم أفكاره، أمر في غاية الخطورة. ولم يكن ينقصه إلا التصريح بأن اسجنوا اللبنانيين والسوريّين من دون قيد أو شرط، في معادلة بعيدة عن دولة القانون والمؤسسات من جهة، وعن قرينة البراءة من جهة ثانية. فالوزير لا يشجّع الإسراع في المحاكمات أو إخلاء سبيل الموقوفين وفق الأصول القانونية أو تقصير السنة السجنية، بل يفضّل بناء سجون إضافية. لذلك، حبذا لو يطّلع على المادة 8 من الدستور التي تنصّ على أن «الحرية الشخصية مصونة وفي حمى القانون، ولا يمكن أن يقبض على أحد أو يحبس أو يوقف إلا وفاقاً لأحكام القانون، ولا يمكن تحديد جرم أو تعيين عقوبة إلا بمقتضى القانون»

يغيب عن وزير العدل هنري خوري مبدأ المحاكمة العادلة التي تتمثل بعدم جواز توقيف أي شخص إلا وفق القانون، فاستمرار التوقيف الاحتياطي هو الأمر الذي يقتضي تلافيه، لأن الأصل هو الحرية والاستثناء هو التوقيف، كما سبق أن بيّنت «القوس» في مقالة بعنوان «التوقيف الاحتياطي المستدام خلافاً للقانون».
إذ يقتضي تطبيق قانون أصول المحاكمات الجزائية إخلاء سبيل من يقتضي إخلاء سبيله والحكم على المجرمين من بين الموقوفين. كما يقتضي تعديل المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية لوضع حدّ أقصى للتوقيف الاحتياطي في جميع الجرائم، إذ لا يجوز استغلال الاستثناءات المنصوص عنها لجهة الجنحة والتي تستثني المحكوم عليه سابقاً بعقوبة مدتها سنة على الأقل، أو في الجنايات التي تستثني الموقوف المحكوم عليه سابقاً بعقوبة جنائية وجنايات القتل والمخدرات والاعتداء على أمن الدولة والجنايات ذات الخطر الشامل وجرائم الإرهاب، ما يدل على وجود حاجة ملحّة لوضع حدّ أقصى للتوقيف الاحتياطي في كل الجرائم. ويكون الحل الأمثل لعدم إطلاق سراح الجناة هو تسريع محاكمتهم وتوقيع العقوبات المناسبة عليهم، لا سيّما أن قانون أصول المحاكمات الجزائية نصّ على إمكانية الاستعاضة عن توقيف المدعى عليه بوضعه تحت المراقبة القضائية، وبإلزامه بموجب أو أكثر من الموجبات التي يعدّها ضرورية لإنفاذ المراقبة (راجع «القوس»، 26 آب 2023، «المراقبة بدل التوقيف لتخفيف الاكتظاظ»). ولكن الأهم هو ما ورد في قانون أصول المحاكمات الجزائية حول حماية الحرية الشخصية من التوقيف غير المشروع، إذ يتوجب، كما تنصّ المادة 403 منه، على كل من النائب العام الاستئنافي أو المالي ومن القاضي المنفرد الجزائي، كل ضمن حدود اختصاصه، عندما يبلغه خبر توقيف أحد الأشخاص بصورة غير مشروعة، أن يطلق سراحه بعد أن يتحقق من عدم مشروعية احتجازه وإذا أهمل أي منهم العمل بما تقدم يلاحق مسلكياً.
ففي تقرير أعدته وزارة العدل بناء لطلب مجلس الوزراء، وفي جوابها على سؤال من الحكومة حول الطلب من السلطات القضائية الإسراع في المحاكمات التي من شأنها التخفيف من مشكلة الاكتظاظ في السجون، لفتت الوزارة إلى أن العنوان الأكبر للمشكلة الموجودة ليس في بطء المحاكمات، إنما في اكتظاظ السجون وتخطّي قدرتها الاستيعابية، وتوقفت الوزارة عند ثلاث نقاط:
- الأولى، ضعف الإمكانيات اللوجستية لناحية سَوق المتهمين إلى القضاء للتحقيق بسبب الصعوبات التي تعانيها المؤسسات الأمنية، كالنقص في عدد الآليات المخصصة لنقل الموقوفين من النظارات والسجون، إضافة إلى عدم توفّر الوقود، ما يستدعي تضافر الجهود بين مختلف الوزارات لا سيّما وزارة الداخلية والبلديات من باب التعاون بين السلطتين القضائية والتنفيذية. إذ أشارت المصادر في هذا السياق إلى أن العديد من المحاكمات تتأخر بسبب عدم انعقاد الجلسات في موعدها المحدد نظراً لتعثر سَوق الموقوفين في قضية واحدة من سجون مختلفة (راجع «القوس»، 22 تموز 2023، ما في «سَوق»).
- الثانية، اتجاه عدد كبير من قضاة الجنايات، بحسب وزير العدل، إلى عدم تطبيق المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تنصّ على المدة القصوى للتوقيف الاحتياطي وهي شهران قابلة للتجديد مرة واحدة بالنسبة للمتهمين بارتكاب الجنح، وستة أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة بالنسبة للمتهمين بالجنايات باستثناء جرائم القتل والمخدرات، أو التوقيف أمام المحقق العدلي من دون تحديد أي مهلة، ومن ثم تخلي الجهة القضائية المختصة سبيل الموقوف.
والخطير في المسألة أن وزير العدل يعتقد أنه إذا كان تطبيق المادة 108 وما يترتب عليها من إخلاءات سبيل يساعد على الحدّ من مشكلة الاكتظاظ من جهة، فإنه ينعكس خطورة على المجتمع من جهة ثانية.
وتورد الوزارة أمثلة لإثبات وجهة نظرها. ففي جبل لبنان مثلاً، وفقاً للوزارة، 314 من المساجين هم من المحكومين مرة ثانية، إضافة إلى زيادة نسبة الدعاوى الخاصة بالسوريين بنسبة 40% (قضايا مخدرات في المقام الأول)، ولا يُمكن إخلاء سبيل مرتكبي هذ الجرائم الجنائية بسهولة، خصوصاً أنها تمثل خطراً على المجتمع والنظام العام. مع الإشارة إلى أن السوريين يشكلون نسبة 27% من المساجين داخل السجون اللبنانية، أما بين الأحداث، فترتفع النسبة إلى 48% وهي نسبة مقلقة بحسب الوزارة.
ولئن كان وزير العدل قد أشار إلى هذا الامر في معرض إجابته حول مسألة النازحين السوريين، إلا أن الأمر لا يتعلق بهم وحدهم. فجميع الموقوفين اللبنانيين وغير اللبنانيين سواءٌ أمام القانون ومتساوون بالتوقيف التعسّفي.
- النقطة الثالثة تتعلق بتقصير السنة السجنية إلى 6 أشهر. فإذا كانت وظيفة العقوبة تتمثل بالردع وحماية المجتمع وإعادة التأهيل، فإن المجرم لن يتوانى عن ارتكاب الجرم نفسه من دون أي رادع ما دام التدبير القانوني تجاه فعله الجرمي قد أصبح من دون جدوى.
وعليه، خلصت وزارة العدل إلى أن الحل الأمثل لمشكلة اكتظاظ السجون ليس بتفعيل إخلاءات السبيل ولا بتقصير السنة السجنية، إنما ببناء السجون لاحتواء الأزمة، وهذا يستوجب السير بالمخطط التوجيهي لبناء 3 سجون في مجدليا ولالا في البقاع الغربي والنبطية كما كان مقرراً.
وزير العدل لا تلائمه المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية وكذلك المادة 403 من القانون نفسه.
والموقوفون المحكومون بدورهم لا تلائمهم العقوبة، فهل نحكم عليهم بالبراءة؟