هل تعلمون أنّ كبرى شركات الطيران المدني في الولايات المتّحدة الأميركية تعطي أولوية الصعود إلى طائراتها لمن يخدمون في أحد تنظيمات واشنطن العسكريّة؟ ينادونهم عبر أجهزة الصوت في المطار بكل لياقة، وليس بالأسلوب التهديدي الذي يُعتَمد في مطار بيروت الدولي وصرخته الشهيرة «نداءٌ ثانٍ وأخير لجميع المسافرين على متن الخطوط الجوية اللبنانية - طيران الشرق الأوسط الرحلة رقم…، يرجى التوجه حالاً إلى الباب رقم…». لا بل يشكرون العسكر على خدمتهم وهم يصعدون إلى الطائرة برفقة المسافرين في الدرجة الأولى وقبل ركاب الـ«بزنس كلاس» أحياناً. في الولايات المتّحدة الأميركية، يرتبط «بزنس» المَجمَع الصناعي العسكري بالكثير من القطاعات الاقتصادية في البلاد، من التكنولوجيا واستكشاف الفضاء إلى التعليم والدوريات الرياضية المحترفة. وكشف تقرير نُشر منذ بضع سنوات، أنّ تكريم الجنود الذي يجري خلال أداء النشيد الوطني قبل مباريات الـ«NBA» أو مباريات البيسبول وكرة القدم الأميركية، على سبيل المثال، ليس نتيجة الحس الوطني الفائض لدى النوادي وحبّها الخالص للجيش، بل هي إعلانات مدفوعة الثمن من ضرائب الناس عبر البنتاغون لاستقطاب موظفين. لعلّ أوضح مثال على أهميّة صناعة الحروب في واشنطن هو ما فعلته إدارة الرئيس جو بايدن الأسبوع الفائت. إذ طارت رؤوسها التنفيذية والدبلوماسية والعسكرية إلى «تل أبيب» لإمطار الدعم الكلامي على حليفهم، وعادوا باستنتاج أنّ الولايات المتحدة الأميركية لا تُنفق ما يكفي على موازنتها العسكرية، علماً أن إنفاقها العسكري يفوق مجموع إنفاق الدول الخمس عشرة التي تليها في الترتيب حسب التقديرات. طلب بايدن من الكونغرس تمويلاً إضافياً بقيمة 105 مليارات دولار لتعويض النقص الذي سمح لحركة فقيرة مثل حماس بمرمغة أنف جوهرة جيوش أميركا الرديفة في وحل مستعمرات غلاف غزة. في المناسبة، هذا المبلغ وحده يفوق ما أنفقته روسيا على العسكر العام الماضي في خضمّ حرب ضروس تخوضها ضد حلف الناتو في أوكرانيا. المبلغ المطلوب من المال العام هو بمعظمه لإعادة ملء مخازن الذخيرة التي أفرغتها حرب أوكرانيا (61.4 مليار دولار)، بينما رُصد 14.3 مليار دولار لتذخير القبة الحديدية التي تعاني نفس بارانويا الكيان، وتهدر رشقات ورشقات من صواريخها على الطيور المهاجرة الشاهدة على «خريف إسرائيل». باقي المبلغ، إن مُنِحَ لإدارة بايدن، سيوزّع بين حماية اقتصاد أميركا الشمالية من اليد العاملة الرخيصة (14 مليار دولار)، ومواجهة النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ (7.4 مليارات دولار)، ومساعدات إنسانية لمناطق النزاع حول العالم (فتات المليارات).
استغلال الحرب لزيادة دخل صانعي الحروب ليس مفاجئاً، فالإدارات الأميركية بصنفيها الديموقراطي والجمهوري تمتهن صنعة استغلال الحدث لتحويل المال العام إلى مالٍ خاص يخصّ مموّلي حملاتهم أوّلاً. منافسات تصنيع وترويج لقاح وباء الكورونا في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وأزمة الرهن العقاري في عهد أوباما مثالان على ذلك. لكن لتحقيق هذه المكاسب الآن، لجأت واشنطن إلى حالة غير مسبوقة من الجنون. إعلام المنظومة الأميركية وتوابعها في أوروبا يحاول تقديم ما حدث في السابع من تشرين بأنه تهديد وجودي لهم وللكوكب، ولذلك يجب على الأميركيين الاستثمار أكثر في الماكينة العسكرية. لكنّ المشكلة هي أنه سبق أن استُخدم الأسلوب الدعائي نفسه منذ زمن ليس بالبعيد، حين كان بوتين هو من يهدّد البشريّة، وكان نازيّو أوكرانيا هم الأمل. وهم يلمّحون بالطريقة نفسها إلى أنّ الصين هي الخطر الداهم على مستقبل الأرض.
أين العقل الإبداعي للإمبريالية ولماذا لا يمكنها ابتكار الحجج المقنعة لكي تمنحها شعوبها ثقتها وأموالها من دون اللجوء إلى سيناريو نهاية العالم؟
يمكن تفكيك كيف تعمل واشنطن، والعلاقة بين رأس المال المعولم وصناعة القرار. لكن هذا حديثٌ يطول. ببساطة المستعمر يستعمر، والمستغل يستغل، وصانع الحرب يصنع حروباً. هذه الهوية الأيديولوجية للإمبريالية الأميركية ولا يمكنها تغيير جلدها. في عام 2008، استخدم باراك أوباما نظرية أن المصارف «أكبر من أن تنهار»، لأن انهيارها يعني انهيار الاقتصاد والمنظومة بأكملها، لذا وجب إنقاذها بـ700 مليار دولار من المال العام. لكن هناك نظرية مقابلة، تبناها حتى عتاة الرأسماليين مثل ألان غرينسبان الذي ترأّس الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) لعقدين من الزمن، وهي أنه عندما يصبح الشيء «أكبر من أن ينهار» وجبَ تفكيكه لأنه يشكّل خطراً وجودياً على الجميع.
تتصرّف واشنطن في الشكل وكأنّ «إسرائيل» هي «أكبر من أن تنهار». فهناك حملات مكارثيّة ضد كل من يتفوّه بكلمة دعم لفلسطين، وجولات دبلوماسيّة مكّوكية لإنقاذ «تل أبيب» من ورطتها، واستنفار إعلاميّ لإظهار المعركة القائمة على أنها بين الخير المتمثّل بـ«إسرائيل» والشرّ المتمثّل بـ«الآخر»، ويقولون هذه الكلمات بكل جدّيّة! وهناك أيضاً تفصيلٌ عسكريّ في شرق المتوسّط حيث حرّكت واشنطن أساطيلها البحريّة لكي يُحجم «آخرون» عن الدخول في المعركة. صحيح أن الأساطيل بحريّة، لكنّها تضمّ حاملات طائرات، أي إنها قادرة على الهجوم الجوّي أيضاً. لكن، كما نعرف جيداً، نحن مَن خَبِرَ آلة القتل من السماء منذ ولد آباؤنا، لا يحسم المعركة إلّا من يمسك الأرض. أرض غزة ما زالت عصيّة على الهجوم البرّي الموعود. أمّا لأصحاب فكرة الإنزال البرّي الأميركي على أرض «الآخرين» الذين قد يدخلون المعركة، فلا داعي لأن نقول لهم اليوم إلّا… كل عام وأنتم بخير.