تجريم النشاط المؤيد لفلسطين في ألمانيا ليس جديداً. سبق أن منعت الشرطة الألمانية إحياء ذكرى النكبة في العاصمة برلين وأماكن أخرى في السنوات الأخيرة، بزعم أن هذه التجمّعات «تتضمّن دعوة إلى الكراهية وإنكار حق إسرائيل في الوجود». كذلك قُمعت تظاهرات مناصرة لفلسطين عام 2021 عندما ردّت المقاومة الفلسطينية في مدن 48 وفي غزة على العدوان الذي طاول المسجد الأقصى. ويأتي ذلك بعد تنديد البرلمان الألماني بحركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات منذ عام 2016 (BDS Movement)، ووصفها بـ «معاداة السامية». فما حال المتظاهرين المؤيّدين للمقاومة والمنددين بمجازر العدو في ألمانيا اليوم؟

ترجمة: بشرى زهوة
حظّرت شرطة برلين، مجدداً، تظاهرة مؤيدة لفلسطين كانت مقررة الأحد المنصرم في ساحة بوتسدام، بعدما أثارت تظاهرة ليلة الأربعاء من الأسبوع نفسه في العاصمة الألمانية «استياءً واسعاً» في وسائل الإعلام الألمانية، وسط مخاوف متعلقة بـ«العنف ومعاداة السامية» التي تظهرها التجمّعات والتظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينية. جرى تفريق التظاهرة «المحظورة» بخراطيم المياه واعتُقل بين 170 و200 متظاهر. وأفادت شرطة برلين أن «65 شرطياً أصيبوا بجروح بعد تجدد أعمال الشغب في صفوف تجمّعات مناصرة لفلسطين». في حين ذكر شهود عيان أن المتظاهرين المؤيّدين لفلسطين يقابَلون، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، بالعنف الشديد من الشرطة الألمانية.
تجريم المظاهرات المؤيدة لفلسطين ليس أمراً جديداً في ألمانيا، إذ سبق أن رفضت السلطات منح تراخيص لتظاهرات وتجمّعات مؤيدة للفلسطينيين. لكن منع التظاهرات في الوقت الحالي، يأتي في إطار الدعم الألماني لحرب الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي على غزة.
وقد طلبت القيادة الصهيونية من ألمانيا أن توفر لها غطاءً، لأن الهجوم البري المتوقع على غزة يمكن أن يُظهر صوراً مروعة للضحايا المدنيين، وفق ما جاء في مقالة نشرت في صحيفة «زود دويتشه تسايتونج» (Süddeutsch Zeitung) الألمانية «الأكثر ليبرالية»، بعنوان: «القتال ضد حماس - إسرائيل تطلب ذخيرة من ألمانيا». وأشارت الصحيفة إلى أن الحكومة الفيدرالية على استعداد لتقديم المساعدة العملية وعدم الاكتفاء بالدعم المعنوي. وذكرت الحكومات السابقة أن أمن «إسرائيل» هو هدف رسمي لألمانيا بل «قضية دولة ألمانيا» (Staatsräson)، وهذا ما أكده المستشار الألماني، أولاف شولتز، قبل ساعات فقط من مجزرة المستشفى «الأهلي العربي».
وفي ألمانيا، على عكس فرنسا، لم يطبّق الحظر العام على التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين. إذ تتخذ مكاتب الشرطة قرار الحظر بعد درس كل حالة على حدة. ويُفرض الحظر عندما يرى المسؤولون أن الأمن العام مهدد بالخطر. لكن في برلين، أحد أكبر تجمّعات الفلسطينيين في أوروبا، تُحظر التظاهرات بشكل شبه كلي. وتمنع مدينتا هامبورغ وفرانكفورت أيضاً الاحتجاجات بانتظام. كما حظرت بلدية ميونيخ التظاهرات، لكن المحكمة الإدارية العليا في ولاية بافاريا ألغت القرار بعد استئنافه ومراجعته.
وبعد أسبوعين من بدء الحرب، ألغت المحاكم الإدارية الفيدرالية العليا العديد من حالات الحظر. وأوضحت أن توقع ارتكاب أعمال جنائية فردية ليس سبباً كافياً لمنع التظاهرات لأنها حق محميّ دستورياً. ووصف الخبير الدستوري الألماني، ميشال وراز، في حوار صحافي، إجراءات الحظر المفروضة على حرية التعبير بأنها «غير دستورية»، ولا سيّما تلك المفروضة في برلين.
شهدت ألمانيا نهاية الأسبوع الماضي أكبر تظاهرة مؤيدة لفلسطين، إذ شارك حوالي 7000 شخص (ينحدر معظمهم من أصول مهاجرة) في مسيرة في دوسلدورف غربي ألمانيا. ويُسمح تنظيم التظاهرات الآن في مدن مختلفة لكن بشروط مفروضة على الرموز الفلسطينية المعروضة والهتافات والخطابات، وفي حال مخالفة أي شرط منها، تتعرف الشرطة على الأفراد المخالفين وتعتقلهم وتوجه اتهامات إليهم «تجنّباً لوقوع مزيد من الجرائم». إذ ذكرت الشرطة أنها احتجزت في تظاهرة أخيرة ولمدة مؤقتة قائد التجمّع المؤيد لفلسطين ونائبه لأنهما «رددا شعارات مخالفة للقانون».

فهم القانون وتطبيقه
من أجل قمع العمل السياسي المؤيد لفلسطين، تستخدم الدولة الألمانية أداتين. إذ تبّنت التعريف الدولي لمعاداة السامية الذي وضعه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA)، عام 2017، ووسّعت نطاقه ليشمل «دولة إسرائيل، التي يُنظر إليها على أنها جماعة يهودية، قد تكون هدفاً للهجمات». وبذلك، إن مجرد انتقاد دولة الاحتلال يعرض الأشخاص إلى الملاحقة الجنائية.
جرى الإعلان عن أن هذا التعريف غير مُلزِم قانونياً، ولكن يُعمل به كقانون شبه رسمي يوجّه السياسة والمداولات، وأصبح مرجعًا قانونياً دون أن يكون مثبتاً في القانون. وفي تقرير أعدّه مؤتمر وزراء الداخلية (للولايات الفيدرالية الألمانية) عام 2022، لمعالجة معاداة السامية المرتبطة بـ«إسرائيل»، زاد الأمر تعقيداً بالمساواة بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية. ويتناول التقرير صراحةً «تجريم النشاط والتعبير المؤيّد للفلسطينيين».
يقوم السياسيون ووسائل الإعلام، مسلحين بهذه التصريحات الرسمية، بتشويه سمعة كل الأنشطة المؤيدة لفلسطين باعتبارها معادية لـ«إسرائيل»، وبالتالي معادية للسامية. ويستخدم بعد ذلك تعريف IHRA إلى جانب القانون الجنائي لمنع حرية التعبير عن الظلم الوحشي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني بشكل تعسّفي.
يحلل تقرير صادر عن مركز الدعم القانوني الأوروبي العديد من الحالات التي استخدم فيها تعريف التحالف الدولي IHRA لملاحقة الناشطين أفراداً ومجموعات، ويخلص إلى أنه «يسهل انتهاكات الحقوق الأساسية، وأن وضع «القانون غير الملزم» للتعريف العملي يؤثر بشكل فعّال على تقويض بعض الحقوق القائمة، من دون تقديم أي تعويض أو وسيلة للطعن القانوني في مثل هذه الانتهاكات». كما جاء نقلاً عن المقررة الخاصة للأمم المتحدة، تينداي أشيومي، حول الأشكال المعاصرة للعنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب وغيرها من صنوف التمييز والتعصب.
حرية التعبير وحرية التجمع مكفولتان دستوريًا، لكن هناك عدداً من الأحكام التي تسمح لإدارات البلديات بحظر التظاهرات. عندما يقرر المسؤولون أن التظاهرة تشكل تهديداً مباشراً للسلامة العامة، يجوز حظرها، وتحديدًا في حالات توقّع ارتكاب جرائم جنائية أثناءها.
تطبّق المادة 130 من القانون الجنائي الألماني (StGB)، عندما تعدّ الأفعال في التظاهرات تحريضاً (Volksverhetzung)، مثل الخطابات التي تحمل عبارات تحثّ على ارتكاب سلوكيات جنائية أو إلحاق الضرر بالسلم والأمن الاجتماعيين. والعامل الحاسم والأساسي لتقييم ما إذا كان السلوك ضاراً بالسلم الاجتماعي هو المزاج/الجو الاجتماعي. وبالتالي، في هذه الحالة ستُعدّ زيادة «معاداة السامية» تهديداً فعلياً للسلم الاجتماعي. لكن عند الحديث عن جرائم الإبادة التي تمارسها «إسرائيل» بحق الفلسطينيين وتهديد سلامهم الاجتماعي، تلغى روح القوانين.
من ضمن الإجراءات العملية التي تتخذها الشرطة الألمانية، أخيراً، لردع «معاداة السامية» هو حظر رفع شعار «فلسطين ستكون حرة، من النهر إلى البحر»، وجعل ارتداء الكوفية سبباً لعمليات التفتيش والاعتقال. كما ستفرض غرامة قدرها 30 يورو على حمل العلم الفلسطيني (في حي نويكولن البرليني وفق إفادة بعض سكّانه). هذه الإجراءات تظهر التنميط العنصري تجاه العرب بشكل واضح.
كما استُشهد بالمادة 140 من الفصل السابع «في الجرائم ضد النظام العام»، للقانون الجنائي الألماني، التي تحظر «مكافأة وموافقة الجرائم»، مثل «إزعاج السلم العام العلني»، ويعاقب بموجبها على الانتهاكات بالسجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات أو بالغرامة، لحلّ وقمع التجمّعات المؤيدة للفلسطينيين أو عدم منحها إذناً. وينطبق هذا الحكم على جرائم القتل واحتجاز الرهائن، مثلما نصّت المواد 210، و211، و239أ، من القانون الجنائي نفسه، وكذلك جرائم الحرب كما هو معرّف بموجب القانون الدولي.
في سياق أحداث عملية «طوفان الأقصى»، وتعبير الفلسطينيين عن فرحهم باجتياز مقاتلي «حماس» للجدار العازل واقتحام غلاف غزة، رأى البعض أن ارتداء الكوفية والتلويح بالعلم الفلسطيني قد يشكل أرضية للملاحقة الجنائية وفقًا للمادة 140.
واقترح بعض السياسيين أن تؤخذ السلوكيات الجنائية المتعلقة بـ«طوفان الأقصى» في الاعتبار لجهة قانون الهجرة. فوفقاً للمادة 54 من قانون الإقامة، يمكن تنفيذ إجراءات طرد/نفي مبسّطة للمواطنين الأجانب (مناصري القضية الفلسطينية ومعظمهم من أصول عربية) إذا صُنّفت أنها «جرائم ضد السلام أو ضد الإنسانية أو جرائم حرب أو أعمال إرهابية بنفس الخطورة».

قمع الأصوات الفلسطينية في خدمة الصهيونية
بالنسبة للعديد من الفلسطينيين والناشطين المؤيّدين لفلسطين - خصوصاً أولئك الذين يعانون وضعاً غير مستقر بشأن إقامتهم - يمكن أن يكون للتضييق والاضطهاد عواقب وخيمة. وأفضل مثال على ذلك حالة زيد عبد الناصر، وهو فلسطيني، حصل على وضع لاجئ بعد مغادرته سوريا. وبسبب عمله كمنسق لشبكة «صامدون» في ألمانيا (شبكة للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين)، تلقى تهديداً من الوزارة المعنية بإلغاء صفته كلاجئ. وباعتباره فلسطينياً، سيمنح وضع (Duldungsstatus) وهو وضع التسامح القانوني (المادة 60 من قانون الإقامة)، لأنه «عديم الجنسية» ولا يمكن ترحيله (إذ لا تعترف الدولة الألمانية بالجنسية الفلسطينية). وعلى النقيض من وضع اللاجئ، يواجه الأفراد المسجلون على «ضوء التسامح» قيوداً شديدة في ما يتعلق بالعمل، والحصول على فرص التعليم، وحتى التنقل، مع تهديد دائم بالترحيل.
المشاركة في التجمعات العامة المحظورة أو الخاضعة لرقابة أمنية مشددة، تعرّض الناشطين للاعتقال التعسّفي على أساس حجج واهية وقمعية كـ«معاداة السامية». بموجب اتهامات غالباً ما تكون تعسّفية، كمقاومة الاعتقال، وزعزعة السلام العام (المادة 125 من القانون الجنائي)، أو الهجوم على ضابط شرطة، مع عواقب محتملة تتجاوز الأحكام الجنائية والغرامات.
تجريم المظاهرات المؤيدة لفلسطين ليس أمراً جديداً في ألمانيا إذ سبق أن رفضت السلطات منح تراخيص لتظاهرات وتجمّعات مماثلة


وإلى جانب هذه الإجراءات «القانونية» المباشرة على الناشطين، استخدمت الشرطة مظاهر «أعمال الشغب» كدليل في وسائل الإعلام لتعزيز الروايات المؤيدة لـ«إسرائيل». في حين تُجرّم المواقف المؤيدة للفلسطينيين ويُصوّر الفلسطينيون والعرب على أنهم عنيفون وغير منطقيين، تُقابل مواقف التضامن مع «إسرائيل» وإعلان «حقّها غير القابل للجدل بالوجود» بالترحيب.
ويجري التعتيم إعلامياً على المجازر التي تحدث يومياً في غزة جراء عدوان الاحتلال، وتأتي على ذكر الضحايا الفلسطينيين وكأنهم يموتون في عملية مجردة. في المقابل، توثّق وتحتسب أرقام القتلى المدنيين في أوكرانيا بشكل مفصّل في الصحف في جميع أنحاء البلاد.
إن اجترار الدعاية «الإسرائيلية»، المقترن بمراقبة التظاهرات والخطاب «المقبول» الداعم لفلسطين، يهدف إلى منع أي تفاعل ومشاركة تُندد بالعملية المستمرة للاحتلال بسلب أراضي الفلسطينيين وتهجيرهم والتطهير العرقي والإبادة الجماعية الممارسة ضدهم.
يحاولون محو أصوات المناضلين المطالبين بالتحرير والعدالة لفلسطين، استجابة لمطالب النظام الصهيوني. وبهذا، تساهم الدولة الألمانية وقيادتها السياسية ووسائل إعلامها «بكل فخر» وبشكل علني، في إعادة تكرار الظلم التاريخي الذي تعرض له الفلسطينيون.