تكثر الأعمال الأدبيّة والمسرحيّة والسينمائيّة المستوحاة من قصة الدكتور فاوست وصفقته الشهيرة مع الشيطان. وتروي الأسطورة الألمانية قصّة رجل ناجح، لكنه غير مكتفٍ بحياته، فيعقد صفقة مع الشيطان «مفيستوفيليس» الذي يعطيه روحه مقابل بوفيه مفتوح من المعرفة والملذّات. بالطبع، لا تسير الصفقة كما تصوّر فاوست وتنقلب حياته جحيماً. لكل ثقافة «فاوستها»، ويكفي أن تُدخل «الرجل الذي باع…» بأيّ لغة في محرّك بحث على الشبكة العنكبوتية ليقترح عليك عشرات الخيارات لإكمال الجملة، وأغلبها هي لأعمال فاوستية الطبع، ومغزاها واحد، وهو أن أيّ صفقة تبدو مغرية إلى درجة لا تصدّق، فالأرجح أنها تحمل أكلافاً أخلاقية خفيّة باهظة تجعلها صفقة خاسرة، وإن أغرقتك بالملذات. لا تنحسر الصفقات مع الشيطان في الأعمال الفنية. فالفن ترجمة للحياة التي تختفي فيها أحياناً الحدود بين الحقيقة والخيال. وشيطان العالم الأكبر اليوم يجد في الشعوب التي يريد تطويعها جحافل من الفاوستيّين والفاوستيات المستعدّين ليفتدوا المستعمِر بأرواحهم، مقابل حفنةٍ من ملذات الغرب. وأوسع انتشار للثقافة الفاوستية هو بين أهل الثقافة والفن والإعلام الذين دائماً ما شعروا بأنهم أكثر القوم أحقيّة بالملذات. تاريخيّاً، تشكّل هذه البيئة أرضاً خصبة لـ«مفيستوفيليس» ومغرياته، لأنها الأكثر قدرة على ليّ الحقائق مستخدمةً فتاوى فلسفيّة لتبرير عمالتها لمشاريع شيطانية. (قبل أيّام ذُهل صديق عند سماع خبر عقد قران صديق وزميل كان قبل أشهر قليلة يُتحِفنا بمطالعاته العلمية والفلسفية والتاريخية حول مضارّ الزواج، فقال له أحد الحاضرين: «عمرك، ما تصدّق مثقّف!» على كلٍّ، هنيئاً للعريس ونتطلّع إلى فتواه الموسوعيّة حول ضرورة الزواج).
قد يلعب الضمير دوراً في تأنيب من باع جلدته في حال كان فرداً، لكن يسهل تجاهل هذا الشعور المزعج عندما يُباع الضمير بالجملة، ليصبح ثقافة طاغية في دوائر وفقاعاتٍ نخبويّة. وعندما تستشري الظاهرة في المجتمع ينسى الأفراد إتمام الصفقة وشروطها وأكلافها الباهظة، حين يأتي يوم الحساب. في هذا الإطار، كَثُرَ الذهول من تصرّفات الغرب المستعمِر بدوله ومؤسّساته ومنظماته وإعلامه ونخبه تجاه «طوفان الأقصى». منظمة الأمم المتّحدة، على سبيل المثال، عمّمت على كل موظفيها في وكالاتها كافة رسالة بريدية إلكترونية من الأمانة العامة في نيويورك تذكّر فيها الأُجراء أنّ أجرهم يُلزمهم باتباع سلوك معيّن على صفحاتهم الشخصية على شبكات التواصل الاجتماعي، وأرفقت الرسالة بوثائق من عشرات الصفحات يوقّع عليها كلّ من يعمل في «الأمم» من دون أن يقرأها، لأنها مجرّد عقد عمل مملّ. كل عقود العمل «المغرية» مليئة بالشروط المملّة، إذ لا يضع مياومٌ في العمار أو في حصاد الزيتون، مثلاً، حبراً على ورقٍ يُلزمه ببيع روحه. لكنّ حصاد الذمم مغموسٌ بالحبر المأجور خدمة لـ«مفيستوفيليس».
لن نقف عند من صحا ضميره فعلاً أو عند من يشكر شروط تمويله التي تقيه عناء ادّعاء الأخلاق. فهؤلاء صفقتهم خاسرة منذ أن أبرموها. لنركّز على الشيطان الذي اشترى كلّ مَن روحه معروضة للبيع. اشترى الفنان والكاتب والراقص، اشترى صانعي الحضارة والثقافة والوعي. اشترى اليمين واليسار والوسط، اشترى السياسة برمّتها وحيدها. اشترى جيوشاً من مرتزقة النخبة. لكن ماذا جنى؟ وقت الحصاد، أثمرت الأرض طوفان حضارة وثقافة ووعي، وخيبةً للشيطان جرّاء أداء جيشه الناعم، لا تفوقها إلا خيبته في أداء جيش «إسرائيل».