زار المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان معبر رفح الأحد الفائت، بعد 23 يوماً من القصف الإسرائيلي المتواصل على البيوت والمدارس والمخابز والمستشفيات في قطاع غزّة المحاصر. وادعى خان انه كان يسعى الى زيارة غزّة، علماً ان المعبر مقفل ولا يسمح لأحد بالدخول أو الخروج باستثناء بعض المؤن والمساعدات الشحيحة.تحدث خان امام وسائل الاعلام عند المعبر مؤكداً «ضرورة أن تلتزم إسرائيل بنظام المحكمة الجنائية الدولية في حربها مع حركة المقاومة الإسلامية». وشدد على ضرورة التحقيق في احتجاز المدنيين رهائن، وفقا للقانون الدولي الإنساني، وكذلك التحقيق في مسألة أخذ الرهائن و«إنزال العقاب بالمسؤولين».

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

وبدا واضحاً ان خان يحاول الحفاظ على نوع من التوازن بين ممارسات وارتكابات الجيش الإسرائيلي المستمرة منذ 7 تشرين الأول وأدت حتى اليوم الى استشهاد اكثر من 8 الاف شخص، مقابل عمليات المقاومة الفلسطينية يوم 7 تشرين الأول التي أدت الى مقتل نحو الف شخص. علماً ان ذلك يتنافى من مبدأ التناسبية (proportionality) الذي يشكل اساساً في قوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني.
وقال خان ان «عرقلة وصول إمدادات الإغاثة الإنسانية إلى غزة قد تشكل جريمة حرب بموجب اختصاص المحكمة». علماً ان الفقرة 25 من النبذة ب في المادة الثامنة من نظام المحكمة الجنائية الدولية تذكر بوضوح ان «تعمد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمد عرقلة الإمدادات الغوثية على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف»، يشكل جريمة من جرائم الحرب.
المدعي العام شاهد بنفسه في معبر رفح منع «ادخال الامدادات الغوثية» وليس فقط «عرقلة» إدخالها كما ورد في نص النظام، لكنه أصرّ على القول ان ذلك «قد» يشكل جريمة حرب.
ولا بد من التوضيح هنا، أولاً، ان كريم خان ليس قاضياً بل طرف يمثّل الادعاء العام، وهو بالتالي ليس ملزماً بعدم الانحياز قبل انعقاد المحكمة. بل ان واجبه توجيه الاتهام وليس تحديد الاحتمالات. ثانياً يفترض أن يكون المدعي العام هو المحقق الأساسي لفريق الادعاء في المحكمة او المرجع الذي يشرف على التحقيقات، وبالتالي فان وجوده على معبر رفح ومعاينته بنفسه وبشكل مباشر فعلاً يشكل جريمة حرب بحسب قانون المحكمة يفترض ان يدفعه الى رفع اصبع الاتهام من دون أي مواربة.

مماطلة منذ 2015 وازدواجية معايير
كانت السلطة الفلسطينية قد سعت للحصول على العضوية في المحكمة الجنائية الدولية بعد التوغلات الإسرائيلية عامي 2008 و2009. لكن ذلك لم يتحقق الا بعد اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين عام 2015.
وبدأت السلطات الفلسطينية منذ ذلك الحين ارسال مجموعة كبيرة من الأدلة التي تثبت ارتكاب الجيش الإسرائيلي جرائم تدخل في صلب اختصاص المحكمة. لكن البطء والمماطلة في التحقيق الذي تجريه المحكمة في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ساهم في فقدان الامل بالتوصل الى محاسبة قضائية دولية. إذ لم يصدر أي قرار حاسم عن المحكمة بعد عدة أعوام على انطلاق التحقيقات.
اما في قضية ملاحقة المسؤولين الروس بسبب ممارسات وارتكابات وقعت في أوكرانيا عام 2022، فقد تسارعت التحقيقات وصدرت عن الدائرة التمهيدية الثانية في المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف دولية بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في آذار 2023، أي بعد عام واحد على بدء التحقيقات.
ولدى سؤال مكتب المدعي العام الدولي عن سبب المماطلة في التحقيق في الجرائم التي يرتكبها الإسرائيليون بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية، والتي قدمت دولة فلسطين شكوى بشأنها، قالت نائبة المدعي العام الدولي نزهة خان لشبكة Justice Info في آب الفائت: «لا أستطيع أن أخبركم ما هي خطوط تحقيقنا في أي من مواقفنا. الأمر لا يتعلق بفلسطين فقط. نحن لا نشارك بشكل علني ما ننظر إليه لسبب وجيه. لا يقتصر الأمر على أننا لا نريد أن ننزع الأمن والحماية التي نقدمها للشهود في مناطق معينة، ولكننا بالتأكيد لا نريد إبلاغ أي شخص بما ننظر إليه في وقت معين».
وجود خان على معبر رفح ومعاينته بنفسه فعلاً يشكل جريمة حرب يفترض ان يدفعه الى رفع اصبع الاتهام من دون أي مواربة


المدعية العامة الدولية السابقة فاتو بنسودا كانت قد شرحت الموضوع بشكل أوضح عندما قالت إن هناك «أساساً معقولاً للاعتقاد بأن أفراداً من جيش الدفاع الإسرائيلي ارتكبوا جرائم حرب تتمثل في شن هجمات غير متناسبة عمداً». لكنها شددت على الالتزام بـ«التوازن» نفسه الذي يسعى خان اليه اليوم، بتأكيدها ان هناك «أساساً للاعتقاد بأن أعضاء في حماس والجماعات الفلسطينية المسلحة ارتكبوا جرائم حرب». ويلمّح ذلك الى عدم إيلاء مبدأ التناسبية أي اهتمام.

نقص في الموارد أم في الإرادة الدولية؟
المقررة الخاصة المعنية بفلسطين في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، فرانشيسكا ألبانيز، قالت إن تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في غزة والضفة الغربية «يعاني من نقص الموظفين والموارد» ويبدو أنه «عالق». وانضمت إلى زملائها المقررين الخاصين في وقت سابق من هذا العام في التعبير عن القلق بشأن حالة التحقيق والدعوة إلى «تخصيص المزيد من الموارد» له.
وقالت ألبانيز لشبكة Justice Info إن «عدم التواصل وعدم الشعور بالتقدم من جانب مكتب المدعي العام يبعث برسالة مفادها أن الوضع لا يستدعي الاهتمام. وهذا أمر مهين بالنسبة للضحايا الذين ليس لديهم سبيل آخر إلى العدالة والمساءلة».
من جانبه، شكا خان، أثناء حديثه في المعهد البريطاني للقانون الدولي والمقارن، مما يراه «انفصالًا تامًا بين الواقع والجدل» في الانتقادات الموجهة إلى نهج مكتبه في التحقيق في فلسطين. وقال: «عندما توليت هذا المنصب، لم يكن هناك حتى فريق لفلسطين. يجب أن أحاول إدارة الموارد التي لدينا بشكل فعال، ولم يتم نسيان فلسطين وإسرائيل».



«حقّ» جيش احتلال بالدفاع عن النفس؟
المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة تنص على انه «ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة».
وترفع القوى الغربية والمناصرون للعدو الإسرائيلي في كل العالم شعار حق «إسرائيل» في الدفاع عن نفسها استناداً الى ذلك علماً ان «إسرائيل» هي سلطة احتلال تحاصر قطاع غزّة. فكيف يمكن لسلطة احتلال تنتهك عشرات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي ان تمنح شرعية الدفاع عن النفس؟
ان العملية العسكرية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية هي ممارسة حق الشعب الفلسطيني بالدفاع عن النفس. وقد انطلق الهجوم على جيش الاحتلال من داخل المنطقة التي يحاصرها جيش الاحتلال.