لا تزال السلطة السياسية تمارس لعبة «استرداد الودائع» هرباً من معالجة جذور الأزمة التي تقتضي الإقرار بالخسائر وتوزيعها قبل أي شيء آخر. فرغم أن صندوق استرداد الودائع لم يقرّ بعد بسبب الخلافات حول مكوّناته وتمويله، وهو أيضاً جزء من مشروع قانون لم يقرّ بعد ويتعلق بإعادة التوازن للانتظام المالي في لبنان، إلا أن الحكومة وافقت على إقرار مشروع قانون لتخصيص الصندوق ببعض الضرائب. واللافت أن هذا الاقتراح أتى بعدما تبيّن أنه ليس هناك في المستقبل القريب حلول تمويلية مبنيّة على استخراج الغاز، أو اتفاق على رفده بأصول الدولة. لذا، جاءت فكرة تمويله بإيرادات ضريبية مصدرها ممارسات حصلت أثناء الأزمة، كأنها خطوة لاستعادة بعض من أموال المودعين. أما في الواقع، فإن اقتراحاً كهذا، بمعزل عن فاعليته وتطبيقه، يبدو مسلوخاً عن الحلّ المتكامل الذي يفترض أن يعيد توزيع ما تبقى من موارد على أصحاب الحقوق.
في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، درس المجلس اقتراحاً مقدّماً من نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي يقضي بتخصيص بعض الإيرادات الضريبية لتمويل صندوق استرجاع الودائع. وجاء الاقتراح، بحسب مداولات المجلس، بعد مشاورات أجراها الشامي مع لجنة الدفاع عن حقوق المودعين في نقابة المحامين، مشيراً إلى ضرورة مناقشة الموضوع وإحالته إلى مجلس النواب بصفة معجل مكرر. ويقترح الشامي اقتطاع بعض من الأرباح التي سوف تحصّلها الدولة من أرباح المقترضين الذين سددوا قروضهم بسعر صرف وبقيم مختلفة عن القيمة الفعلية. بمعنى، أن كل من سدّد قرضاً عليه أن يدفع ضريبة على فروقات سعر الصرف، بين السعر المنفّذ عند تسديد القرض والسعر المسمّى «رسمي».
بالفعل، أقرّ المجلس مشروع القانون من دون نقاش يذكر، باعتبار أن أموال المودعين «مقدّسة»، وأن «إعادة تكوينها» من خلال فرض ضريبة على كل المستفيدين من تسديد القروض بأسعار صرف بخسة هو خطوة محقّة. لكن هذه الخطوة تأتي في سياق فكرة الهروب التي رسمت من اليوم الأول للأزمة والقائمة على التذرّع بأموال المودعين عند كل مفصل أساسي متصل بالنقاش في التعامل مع الأزمة. ورغم صحّة وجود مقترضين استفادوا من فروقات سعر الصرف لتسديد قروضهم، إلا أنه يصعب تحديد وإثبات سعر الصرف الذي تمت على أساسه عملية التسديد. بمعنى أوضح، إن مشروع القانون ضبابي وفضفاض لأنه لا يتطرّق إلى إشكالية السعر المرجعي الذي سيتم على أساسه تحديد السعر الفعلي للصرف بتاريخ التسديد. فمن هي الجهة التي يفترض أن تُعتمد لتحديد سعر الصرف؟ هل هي منصات التداول التي قيل إنها تلاعبت بسعر الصرف؟ هل السعر السوقي المتداول كافٍ لإثبات أن المقترض اشترى الشيك بهذا السعر أو صرف الدولارات بسعر معيّن؟ وفي هذه الحالة، كيف سيتعامل القضاء مع هذه الحالات إذا وردته أي شكوى بشأن سعر الصرف بينما لديه سعر معتمد رسمياً؟ هل تكون قيمة استيفاء الضرائب وفق سعر 1500 ليرة وبأي عملة تتم جباية هذه الضرائب؟ طبعاً، كل هذه الأسئلة لا تغطّي سوى بعض من الأسئلة المثارة حول الموضوع. فعلى سبيل المثال، إذا كان المقترض مودعاً واستعمل وديعته لتسديد قرضه، فلماذا عليه أن يخضع للضريبة؟
هل يفي المشروع بموجبات عكس مسار انتقال الثروة الحاصل بفعل تسديد القروض بأسعار صرف بخسة


ثمة مسألة تكمن في مقاربة هذه الخطوة. بحسب مصدر مسؤول، فإن الخطط الحكومية التي على أساسها نوقش المشروع، تشير إلى أن الإيرادات التي ستتحقق من هذا المشروع لا تزيد على 400 مليون دولار مقارنة مع ودائع بقيمة 30 مليار دولار ذابت بفعل عملية التسديد، مقارنة مع خسائر في القطاع المالي بقيمة تفوق 70 مليار دولار.
المسألة الأساسية، أن إقرار قانون كهذا قبل إقرار قانون إعادة هيكلة المصارف وإعادة التوازن المالي يمنح مصرف لبنان والمصارف صكّ براءة على كل الارتكابات التي حصلت والتي تتمحور حول سرقة الودائع وتبديدها. هذا القانون يمنح المصارف مخرجاً لمنع أصحاب المصارف من ضخّ رساميل جديدة تغطّي بعضاً من الخسائر، وتقلّص من فعالية إعادة الهيكلة المطلوبة، بل هي تضمن للمودعين استرداد بعض من أموالهم من دون تحميل أصحاب المصارف مسؤولية أخطائهم وسوء أمانتهم للودائع.
في هذا السياق، يبدو مشروع صندوق استرداد الودائع لافتة لبيع الأوهام من دون أي مضمون فعلي. وهذا الوهم سبق أن روّج له مراراً تحت شعار تقديس الودائع، في مشاريع قوانين تتكدّس في مجلس النواب منذ 4 سنوات من دون أن يلتفت إليها أحد، بل سيتحول إلى مشروع جدل إضافي في مجلس النواب، وثمّة قلق من أن يكون مصيره كمصير الكابيتال كونترول وكل القوانين الأخرى المتصلة بالأزمة، علماً بأن مجلس النواب يمتنع عن مناقشة أي مشروع محال من الحكومة باعتبارها حكومة تصريف أعمال مستقيلة.
كل هذه الأسئلة حول فعالية مشروع القانون في استرداد أموال المودعين، قد لا تنسجم مع واقع أن المقترضين استفادوا من فروقات أسعار الصرف حين سددوا قروضهم وفق سعر الصرف المعتمد رسمياً، سواء وافق المصرف على ذلك، أو أجبر على ذلك من خلال إيداع الأموال لدى الكتّاب العدل. فهذه العملية نشأت بفعل تشريع وتغطية قام بها مصرف لبنان لتعددية أسعار الصرف، وإن عدداً من هذه الأسعار موثق بتعاميم صادرة عن مصرف لبنان. وقد استفادت بشكل أساسي من عملية انتقال الثروة الفئات نفسها التي استفادت أيام الرخاء، أي تجّار العقارات ومنشئو الأبنية أو الذين كانت لديهم قروض تفوق قيمة الضمانات العقارية التي تغطّيها. الإشكالية الأساسية هنا، هل يفي هذا المشروع بموجبات عكس مسار انتقال الثروة الذي حصل؟