برزت مؤشّرات واضحة إلى تواطؤ سياسي في مجلس الوزراء لتمرير صفقة البريد، رغم كل الملاحظات الجوهرية التي أدلى بها ديوان المحاسبة، ولا سيّما لجهة تفصيل دفتر الشروط على قياس الشركة الفائزة، أي تحالف Merit Invest - Colis Privé (الثانية لبنانية مملوكة من رودولف سعادة صاحب شركة CMA-CGM للنقل البحري التي التزمت بتشغيل مرفأ بيروت، والأولى فرنسية لديها رخصة توزيع بريد وليست لديها مكاتب بريدية). وهذا ما دفع الديوان أمس إلى إصدار مذكّرة موجّهة إلى وزير الاتصالات جوني القرم يؤكّد فيها أن هذه الصفقة تنطوي على «امتياز» لا يمكن منحه للشركة إلا بقانون يصدره مجلس النواب (طبقاً للمادة 89 من الدستور). مجلس الوزراء صار اليوم أمام خيارين، إما تطبيق القانون، أو رميه في سلّة النفايات.
إصرار على الصفقة
كان يُفترض أن يحسم مجلس الوزراء في الجلسة السابقة النقاش بشأن صفقة تلزيم البريد، لكن ما حصل في الجلسة هو أن المجلس كاد يقرّ الصفقة رغم اطّلاع رئيس المجلس والوزراء على تقرير ديوان المحاسبة وتقرير هيئة الشراء العام اللذيْن يفنّدان المخالفات القانونية والدستورية للصفقة، بعد الاستماع لكل من رئيس الديوان محمد بدران ورئيس الهيئة جان العلية. لكن لتفادي الفضيحة، حاكت القوى السياسية لعبة تكليف وزير الاتصالات جوني القرم بإعداد تقرير حول الملف برمّته باعتبارها فرصة خامسة لتمرير الصفقة تأتي بعد ثلاث جولات من المناقصة، وفرصة «طلب إعادة النظر» الذي وجّهه القرم إلى ديوان المحاسبة بلا أي معطيات تساند رأيه. وبحسب المعطيات التي تلت الجلسة عن الاتصالات التي حيكت لاحقاً، فقد اتُّفق على تمرير الصفقة تجاوزاً لتقرير الديوان الرقابي، والتقرير الوصفي لهيئة الشراء بذريعة «الخطر الداهم».
كسر قرارات الهيئات الرقابية لا يفيد القرم فحسب، بل معظم الوزراء الذين صار يزعجهم قانون الشراء العام ورقابة الديوان على صفقاتهم الخاصة في وزاراتهم. لذا، فإقرار الصفقة اليوم، يكون إقراراً بانعدام قيمة القانون وأنه بات بإمكان أيّ وزير أن يلجأ إلى السلطة السياسية لكسر القرارات الرقابية والتشكيك في عملها متى أحسّ بتضرّر مصالحه.
إقرار الصفقة يلغي قيمة قانون الشراء العام ويمنح الوزير القدرة على التشكيك في أجهزة الرقابة


الامتياز يُشرّع بقانون
تواترت هذه المعلومات إلى الديوان، فردّ رئيس الغرفة المعنيّة في ديوان المحاسبة القاضي عبد الرضا ناصر، بمحاولة أخيرة لتذكير الوزراء بالقانون والدستور، من خلال إصدار مذكّرة موجّهة إلى وزير الاتصالات مؤرّخة بتاريخ أمس 13/11/2023. مضمون المذكّرة يحاصر هذه الصفقة قانونياً، لإعادة التذكير بالمخالفات التي سبق أن أضاء عليها العلية ثم وردت لاحقاً في قرارَي الديوان الصادريْن بتاريخ 23 آب و5 تشرين الأول الماضي.
ويبدو أن الديوان أخذ على عاتقه قرار فضح الحكومة وتعريتها وإعادة تعزيز منطق الرقابة الهادفة إلى الحفاظ على مصلحة الدولة. فوفقاً لرأي الديوان، هناك 3 نقاط رئيسية أدّت إلى عدم الموافقة على المناقصة، وأبرزها:
- عدم وجود دراسة واضحة ومفصّلة لسوق الخدمات البريدية لتحديد إيرادات الدولة من القطاع. ويقول الديوان: «هو إجراء جوهري ضروري وأساسي يرتبط بالمبادئ المالية العامة، لا يمكن للإدارة تجاوزه أو الاستغناء عنه لأيّ سبب من الأسباب»، لا بل إن عقداً مثل هذا بالشكل المعروض فيه «ليس سوى امتياز مرفق عام» وهذه الخلاصة سبق أن توصّل إليها الديوان يوم عرض موضوع إنشاء مبنى للمسافرين «من دون دراسة دقيقة لتحديد منفعة الدولة والمستثمر». والامتياز، وفق نص المادة 89 من الدستور يتطلّب استصدار قانون بشأنه في مجلس النواب.
- إن عدم وجود الدراسة التحليلية الأساسية في تلزيم الإيرادات العامة يُعدّ مخالفة لشروط الفقرة 4 من المادة 25 من قانون الشراء العام والتي سبق أن أشار إليها العلية خلال الاستماع إليه أمام الغرفة الثانية في الديوان، ليصبح تلزيم العارض الوحيد مفتقراً لأي أساس قانوني.
- قام وزير الاتصالات بتغيير مخطّط تقاسم الأرباح في المزايدة الثالثة «من دون مبرّر مالي وقانوني ومنطقي ومن دون وجود دراسة تثبت أن تغييره يحقّق إيراداً للخزينة».

استرداد القطاع
مساعي شيطنة تقارير الديوان وهيئة الشراء العام من خلال محاولة وزير الاتصالات جوني القرم عرض أجزاء من محادثات واتساب مع العلية وبدران، تكرّرت في تقريره المطوّل على مدى 87 صفحة والخالية من أي حجّة أو معطيات جديدة تخدم تمرير الصفقة. بل خلص التقرير إلى أن «مصلحة الدولة العليا تقتضي بإيجاد حلّ جذري لهذا الموضوع» عبر ثلاثة خيارات:
- تفويض وزير الاتصالات بتوقيع العقد مع شركة ميريت إنفست بالائتلاف مع شركة Colis Privé France، أي القفز فوق القانون والتقارير الرقابية.
- تمديد العقد مع «ليبان بوست» لغاية توقيع عقد مع مشغّل جديد.
- تأسيس شركة مساهمة لبنانية PIC لتأمين الخدمات البريدية تُنقل إليها الأصول والموجودات والعقود المحوّلة من «ليبان بوست» لتتولّى تشغيل القطاع البريدي لصالح الدولة- وزارة الاتصالات كمرحلة انتقالية، إلى حين تمكّن المديرية العامة للبريد من إدارة القطاع.
إذاً، إن «مصلحة الدولة العليا» تقضي بإقرار الخيار الثالث من دون المرور بما سبقهما. خيار استرداد الدولة للقطاع، مشروع قابل للتحقّق كما حصل في قطاع الخلوي بخلاف ما يجري التسويق له من استحالة تنفيذ الأمر.



عرضٌ قابل للتعديل!
اندلع سجال بين وزير الاتصالات جوني القرم ورئيس هيئة الشراء العام جان العلية، بشأن مزايدة تلزيم البريد. الأول اتّهم العليّة بأنه «كتب» له إعادة النظر التي قدّمها لديوان المحاسبة، وأنه كان موافقاً على دفتر الشروط، لكن آخر مراسلة للعلية موجّهة إلى وزارة الاتصالات قبل جلسة التلزيم والمؤرّخة بتاريخ 1/6/2023، تدفع بهذه المزاعم، وتوثّق ثلاث ملاحظات رئيسية على دفتر الشروط:
- قام وزير الاتصالات بخفض ظاهري لرأس المال المطلوب من العارضين، من 20 مليون دولار على سعر 15000ليرة لبنانية (300 مليار ليرة) إلى 10 ملايين دولار فريش (890 مليار ليرة) هو «شرط غير مألوف ويحدّ من المنافسة، وتقتضي إزالته». واللافت أن عرض الشركة الفائزة تضمّن شرطاً لمراجعة رأس المال، إذ ورد فيه: «ستتم مراجعة موازنة جميع النفقات الرأسمالية وتعديلها بناءً على الزيارات الميدانية...»، علماً أن العرض يجب أن يكون نهائياً وغير قابل للتعديل.
- منح العارضين مهلة كافية لإعداد دراسات النفقات الرأسمالية بناءً على الزيارات الميدانية وتقييم البنى التحتية واحتياجاتها، ولا سيما أنه أجري تعديل جوهري على دفتر الشروط وباتت المناقصة كأنّها جديدة، فضلاً عن ضرورة الإعلان من خلال سفارات لبنان في الخارج لاستقطاب منافسين.
- إذا كان التلزيم «ينطوي على عناصر تشييد وتشغيل وتحويل على طريقة BOT» فإنه يقتضي تحديد هذه العناصر بدقّة والحصول على ترخيص من مجلس النواب».