صدرت أمس القرارات التي وافق عليها مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة، من بينها قرار جرى تهريبه «على السكت» في الجلسة، يتعلق بـ«الإجازة لوزير الاتصالات إجراء عقود بالتراضي». يستند القرار إلى المادة 62 من الدستور، وإلى قانون المحاسبة العمومية، وإلى قانون الشراء العام، واقتراح وزير الاتصالات الذي عرضه رئيس مجلس الوزراء. وجرى تعليل القرار «بعد المداولة» بـ«النظر إلى الحاجة والضرورة الملحّة ودقّة الموضوع لأسباب عدّة جوهرية»، ثم أضاف طبقة ثانية من المبررات بأنه يأتي «منعاً لعملية احتكار شركة واحدة لقطاع الاتصالات على المستوى الوطني»، وفي الطبقة الثالثة «استناداً إلى الضرورات الأمنية المتضمّنة إمكانية تسريب بيانات عائدة للشركات أو للمواطنين أو للأجهزة الأمنية على حدّ سواء»، وأخيراً طبقة رابعة: «تفادياً لأيّ خروقات أمنية في حال حصول أي خلل أو عطل، ما يؤدي إلى إحداث ضرر على المستويين الأمني والإستراتيجي في البلاد». لذا، قرّر المجلس «الموافقة على طلب وزير الاتصالات الإجازة له، عبر شركات الخلوي، إجراء عقود بالتراضي (Packet Core) مع شركات Ericsson أو Huawei أو Nokia.قرارٌ بسيط وسهل، لكنه مستغرب. فهو يُعدّ سابقة خطيرة في تجاوز قانون الشراء العام، وفي أصول التعامل مع الصفقات العامة. فالملف لم يكن مُدرجاً على جدول الأعمال. وفي الجلسة لم يُعرض أيّ ملف مكتوب بل قدّم القرم عرضاً شفهياً بع طلب الإذن من رئيس الحكومة. وبحسب مصادر وزارية، عرض القرم مبرّرات «تقنية» لم يفهمها أيّ من الوزراء، إلا أن القرم فسّر طلبه بأن الأمر مجرّد «Upgarde» يستلزم البقاء مع الشركة نفسها، ثم قال ما يشبه «كلمة السر»: هناك ضرورات أمنية للقيام بذلك.
صدّق وزراء الغفلة، مزاعم القرم لأنهم جاهلون تماماً بما يحصل خارج مكاتبهم. فهم لا يعلمون أن تغيير البنية الأساسية لشبكة الاتصالات ليس مجرّد «Upgarde»، بل هو يتطلب رفع المستوى التقني للشبكة من دون أن يلزم الشبكة بالبقاء مع المورّد السابق. فهذه العملية تتطلب تغيير التجهيزات والبرامج التي تشغّل الشبكة، ولا تتطلب منح ترخيص لتجهيزات وبرامج موجودة أصلاً. (إذا كنت تريد شراء سيارة جديدة بمواصفات أكثر حداثة، فهذا لا يلزمك بشرائها من الشركة التي اشتريت منها سيارتك القديمة). وهذا أمر لا يمكن أن يكون محصوراً بشركة واحدة بدليل أن القرم نفسه سمّى ثلاث شركات يمكن التعاقد معها «بالتراضي» من بينها واحدة فقط هي التي كانت قد ركّبت التجهيزات والبرامج التي انتهت مدّة صلاحيتها الآن.
في الواقع، إن تسمية ثلاث شركات، هي مجرّد عملية تجميلية للقرار. لأن الشركة التي سبق أن ركّبت التجهيزات المتناهية الصلاحية هي «إريسكون»، وما هو واضح وأكيد، أن القرم كان يتفاوض مع «إريكسون». بل هو قاد المفاوضات تحت ضغط من موظفين في السفارة الأميركية بعدما أقصى موظفي «ألفا» عن الجزء الأساسي منها. وذلك يأتي بينما تتجهّز «إريكسون» لإقفال مكاتبها في لبنان بعدما صرفت قسماً كبيراً من الموظفين تمهيداً لصرف الباقين. ما يعني أنه لن يكون بإمكانها القيام بصيانة المعدّات والبرامج. وما هو ثابت في عرضها المقدّم للقرم بأنها ستقوم بذلك «عن بُعد» أو «REMOTELY» (بما أن الوزراء يفهمون اللغة الإنكليزية التي دفعتهم إلى الموافقة سريعاً بعد كلمة Upgarde). فهل يمكن القيام بالصيانة عن بُعد؟ هل هذا مقبول بالنسبة إلى الشبكة؟ هل المقبول أن يجري تلزيم أقسام أساسية في الشبكة بهذه الطريقة؟
والأسوأ من ذلك كلّه أن هذه الشركة أيضاً متّهمة بشكل مباشر من السلطات السويدية بأنها تعاملت مباشرة مع «داعش» في العراق.
المشكلة أن الضرورات الأمنية التي أشار إليها الوزير، لم يتم تفسيرها أو تقديم أي مستند من أي جهاز أمني يبرّرها. ولم يكلّف أي من الوزراء عناء سؤال الوزير عن طبيعة هذه الضرورات الأمنية. بل تقول المصادر، إن الوزراء اكتفوا بذكر عبارة «الضرورات الأمنية» ليوافقوا سريعاً على القرار، كما أنهم لم يحصلوا على مبرّرات هذه الضرورات الأمنية كأن يكون أحد الأجهزة الأمنية لديه هواجس على عمل أي من مورّدي شركتَي الخلوي أو حتى لوزارة الاتصالات. عملياً، السؤال الذي يجب طرحه، هو إذا كان الوزراء على علم بما يحصل لجهة النزاع الدولي بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، فهل يعلمون أن الولايات المتحدة تحاول إقصاء الشركة الصينية «هواوي» عن توريد تجهيزات وبرامج لشبكات الاتصالات حول العالم؟ هل يعلمون أنها نجحت جزئياً في الأردن بعد ضغوط أميركية؟ هل يعلم أيّ منهم أن الشركة لا تزال تعمل في غالبية دول الخليج وعلى رأسها الإمارات حيث النظام الأمني حديدي ولا توجد أي مبرّرات ضدّها بحجّة «الضرورات الأمنية» وذلك رغم المحاولات الأميركية لإقصاء «هواوي» من هناك؟
أما الذريعة الثانية التي يسوّقها القرم، ووافق عليها مجلس الوزراء، فهي تتعلق بالاحتكار. الكلام هنا عن «هواوي» حصراً لأنها الشركة التي تورّد التجهيزات الأساسية لشركة «تاتش». لكن لم يخبرهم الوزير، ولا هم لديهم أي معرفة بطبيعة عمل شبكات الاتصالات. هل يعلم الوزراء أن الاحتكار يعني تلزيم كل أقسام الشبكة لشركة واحدة؟ لأنه في الواقع، هناك شركات مختلفة تورّد أشغالاً وتجهيزات وبرامج مختلفة في شركة «تاتش» تحديداً، وهذا ينسحب على شركة «ألفا» أيضاً. أما هذا الجزء المتعلق بالبنية الأساسية للشبكة، فهو لا يُعدّ احتكاراً بأي طريقة من الطرق.
رفع المستوى التقني للشبكة لا يُلزم البقاء مع المورّد السابق


ما غاب عن الوزراء، أن مخاوف الوزير من «الاحتكار» لا تبرّر مخالفة قانون الشراء العام. صحيح أن المادة 46 من هذا القانون تجيز الاتفاق الرضائي وتحدّد شروطه، لكنها تربط الأمر بالظروف الاستثنائية، وبتوافر مورّد واحد، أو بتعذّر خيار بديل، وفي حالات الطوارئ والعجلة القصوى، وتوحيداً للمواصفات، و«عند شراء لوازم أو خدمات أو عند تنفيذ أشغال تستوجب المحافظة على طابعها السرّي من أجل مقتضيات الأمن أو الدفاع الوطني، وذلك وفقاً لقرار يُتَّخَذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح الوزير الـمختص الذي يُحدِّد الصفة السريّة للشراء وأسباب التعاقد الرضائي». فإذا استند المجلس إلى الشرط المتعلق بالضرورات الأمنية فالفقرة الرابعة من المادة 64 واضحة وتتحدّث عن «الطابع السرّي»، بينما هذه الصفقة لا تنطبق عليها السرّية. فهي ليست معدّات يجب أن تبقى سريّة أو تجهيزات عسكرية فائقة السرية، أو أيّاً من ذلك. وإذا استند المجلس إلى مسألة «الاحتكار»، فعلى الوزراء التدقيق في مدى انطباق ذلك على هذه الصفقة، كما أنه لم يكن عليهم أن يشيروا إلى اسم «هواوي» في الإجازة الممنوحة للوزير.
يبدو ان وزير الاتصالات خضع للرغبة الاميركية وخدع الوزراء بما عرضه لهم. وهذه مسؤولية اخلاقية وسياسية، ويتوجب على جهة الوصاية عليه، اي تيار المردة، ان تحدد موقفها من تفضيله المصالح الاميركية على المصالح الوطنية.