قد يقترح البعض فتح تحقيق جنائي موسّع في وفاة الدبلوماسي الأميركي السابق هنري كيسنجر، أول من أمس، في الولايات المتحدة. إذ ان موته المفاجئ تزامن من أحداث تنسف كل ما سعى اليه خلال سنوات طويلة من العمل الديبلوماسي الاحتيالي والتحريض على الحروب وتهجير الملايين وتصفية آلاف البشر بحجة حماية المصالح الأميركية. قبل أسابيع من موته، سُئل هنري كيسنجر عن موقفه من مشاركة مئات الآلاف في تظاهرات مؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني في شوارع العديد من المدن الاوروبية والأميركية، فأجاب بوقاحة: «لقد كان من الخطأ الفادح السماح بدخول هذا العدد الكبير من الأشخاص من ثقافات وأديان ومفاهيم مختلفة تمامًا، لأنه يخلق مجموعة ضغط داخل كل دولة تفعل ذلك». علماً ان كيسنجر، الألماني المولد، هاجر الى الولايات المتحدة عام 1938. ولا شك في انه كان من أبرز وجوه «مجموعة ضغط» دفعت الحكومات الأميركية الى دعم الكيان الإسرائيلي عسكرياً وسياسياً واعلامياً واقتصادياً بشكل مطلق.
كيسنجر الذي كان بعمر الـ 100 يوم وفاته، كان منزعجاً كثيراً من مشاركة مئات الآلاف في تظاهرات شهدتها شوارع مدن أوروبية وأميركية منذ بداية معركة طوفان الأقصى في تشرين الأول الماضي، تأييداً للشعب الفلسطيني وللمطالبة بوقف اطلاق النار فوراً في غزة. ويبدو ان احتفال شباب أوروبيين وأميركيين من أصول عربية بهجوم حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين على المستعمرات الإسرائيلية، في 7 تشرين الأول، زاد من انزعاجه وآلمه واثّر على وضعه الصحّي. فلدى سؤاله عن رأيه بشأن تأييد هؤلاء الشباب لكتائب عز الدين القسام، أجاب أن مشاهدة ذلك عبر وسائل الاعلام «كان مؤلماً» له.
وصف كيسنجر هجوم المقاومة الفلسطينية بـ «العمل العدواني الصريح»، من دون ان يشير الى «العدوان الصريح» الواسع الذي يشنه الإسرائيليون، بدعم أميركي، على الشعب الفلسطيني منذ اكثر من 75 عاماً، والذي أسفر عن آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى والمعوّقين ومئات آلاف المشردين واللاجئين والمعذبين.
لا عجب في ذلك، اذ ان كيسنجر كان مهندس السياسة الخارجية الأميركية خلال حرب فيتنام، وهو الذي دفع الجيش الأميركي الى شنّ 3875 غارة حربية على المدنيين في كمبوديا بين عامي 1969 و1973. كما يتحمل مسؤولية الانقلاب الدموي الذي أطاح بالرئيس التشيلي المنتخب سالفادور الليندي عام 1973، وأتى بالديكتاتور الدموي اوغوستو بينوشيه إلى الحكم.
مات كيسنجر اول من امس من دون ان يخضع لأي مساءلة او محاسبة على جرائمه بحق مئات آلاف المدنيين، او أنه قُتل بعد ادراكه ان من سعى الى تصفيتهم، عادوا بقوة لا مثيل لها ليطالبوا بحقوقهم.