جريمة الفصل العنصري هي من ضمن قائمة جرائم الكيان الصهيوني الذي حاول جاهداً أن يخفي معالمها مدّعياً، كذباً، أنه أسّس أوّل نظامٍ ديموقراطيّ في الشرق الأوسط. وهو ادّعاءٌ لم يعد يصمد أمام هول ما يرتكبه الآن في غزة، وما ارتكبه منذ 75 عاماً. اتّبعت إسرائيل، الكيان المحتل لفلسطين، منذ إنشائها عام 1948 سياسة تتمثّل في تثبيت هيمنة سكانية يهودية وزيادة سيطرتها على الأراضي التي احتلّتها إلى أقصى حدّ لمصلحة الإسرائيليين اليهود. وقيّدت، في الوقت عينه، حقوق الفلسطينيين ومنعت عودة اللاجئين منهم إلى أراضيهم وممتلكاتهم. وفي عام 1967، احتلّت الضفّة الغربية وقطاع غزّة، ورغم ادّعائها الانسحاب من المنطقتين، إلا أنها في الواقع أحكمت سيطرتها الأمنية عليهما بوسائل لا تقلّ خطورةً عن الاحتلال العسكري المباشر، بهدف إبقاء الفلسطينيين تحت هيمنتها، متّبعةً سياسة شرذمة الأراضي وبناء المستوطنات اليهودية والجدار الفاصل ومصادرة الأراضي وهدم الممتلكات والاعتداء على الأماكن المقدسة ونزع الملكية والاعتقال التعسفي والتعذيب وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية. ويعدّ قانون يهودية إسرائيل الصادر في تموز 2018 إعلاناً رسمياً بعنصرية هذا الكيان، إذ إنّه ينصّ على أنّ إسرائيل هي حصراً دولة الشعب اليهودي الذي يحقّ له وحده المطالبة بتقرير المصير.
فما هو الفصل العنصري؟
استُخدم مصطلح الفصل العنصري، أو «أبارتايد» الذي يعني الفصل باللغة الأفريكانية، للإشارة إلى نظام سياسي في جنوب أفريقيا فرض التفرقة العرقية والهيمنة والقمع من جانب أقلية عرقية على الغالبية الأفريقية. واستمر حكم الأقليّة في جنوب أفريقيا منذ عام 1948 حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي. والمفارقة أن أوّل من وصّف السياسة الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين بأنها عنصرية، هو هندريك فيرورد، رئيس وزراء جنوب أفريقيا (1958 - 1966) ومهندس السياسات العنصرية فيها، عندما قال: «أخذ اليهود إسرائيل من العرب بعد أن عاش العرب هناك لألف سنة. إسرائيل، كجنوب أفريقيا، دولة عنصرية».
لعبت الأمم المتحدة، وتحديداً الجمعية العامة، دوراً بارزاً في مكافحة الفصل العنصري باتّخاذ قراراتٍ وإجراءاتٍ ضد الحكومة العنصرية في جنوب أفريقيا، أثمرت في نهاية المطاف عن سقوط نظامها العنصري. فقد توالت إدانات الجمعية العامة للأمم المتحدة للفصل العنصري سنوياً بين 1952 و1990، وبلغ عدد القرارات الصادرة عنها أكثر من 200، أبرزها القرار 1761 (6 تشرين الثاني 1962) الذي نصّ على اعتبار سياسات الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مخالفةً لميثاق الأمم المتّحدة، وتشكّل تهديداً للأمن والسلم الدوليَّين، وطالب الدول الأعضاء بقطع العلاقات الديبلوماسية مع جنوب أفريقيا ووقف التجارة معها، خصوصاً تلك المتعلّقة بصادرات السلاح، ومنع مرور السفن والطائرات عبرها. وتم تجريم الفصل العنصري عندما أقرّت الجمعية العامة الاتّفاقية في 30 تشرين الثاني 1973، بغالبية 91 صوتاً مقابل اعتراض أربعة (البرتغال وجنوب أفريقيا والمملكة المتّحدة والولايات المتّحدة) وامتناع 26 عضواً عن التصويت. ودخلت المعاهدة حيّز التنفيذ في 18 تموز 1976، وبلغ عدد الدول التي صادقت عليها 109 (انضمّت فلسطين إلى الاتفاقية عام 2014، فيما لم تصادق إسرائيل عليها).
استمرّ الضغط الدولي على حكومة جنوب أفريقيا العنصرية، ووصل أوجَه في تشرين الثاني 1974، عندما أقدمت الجمعية العامة، في خطوة لا سابقة لها، على تعليق مشاركة وفد حكومة جنوب أفريقيا العنصرية في اجتماعاتها، تحت ضغط الحملات الدولية المناهضة لتلك الحكومة، قبل أن تستعيد حقّها في المشاركة عام 1994. اتُّخذ القرار الذي أصدره رئيس الجمعية آنذاك، وزير خارجية الجزائر عبد العزيز بوتفليقة، بغالبية 91 صوتاً مقابل 22 صوتاً ضده وامتناع 19 دولة عن التصويت. وكانت الولايات المتّحدة وبريطانيا أبرز المعارضين للقرار.
كذلك مُنعت جنوب أفريقيا من المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في طوكيو عام 1964، واستمرّ هذا الحظر حتى عام 1992. وفي 10 كانون الأول 1985، اعتمدت الجمعية العامة الاتفاقية الدولية لمناهضة الفصل العنصري في الألعاب الرياضية، والتي تلتزم الدول الأطراف بموجبها عدم السماح بأي اتّصال رياضي مع بلد يمارس الفصل العنصري واتّخاذ الإجراءات المناسبة لضمان ألا يكون لهيئاتها وفرقها الرياضية ورياضييها مثل هذا الاتّصال.
وقد كان تحرّك الأمم المتّحدة ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مواكباً لحملةٍ عالميةٍ مناهضةٍ لهذا النظام من جهة، ولنضالٍ شعبيٍّ مسلّح ضد الحكومة العنصرية من جهة أخرى.

والسؤال الذي يُطرح هنا: هل ستُعتمد الخطوات نفسها ضد إسرائيل؟
ما لا شكّ فيه أن ممارسات سلطات إسرائيل العنصرية ضد الفلسطينيين لم تعد بعيدةً عن الانتقاد الدولي. فعلى صعيد الأمم المتحدة، كان تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (أسكوا) من بين أبرز التقارير الرسمية المتعلّقة بتوصيف السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين على أنها فصلٌ عنصريٌّ. التقرير الذي صدر في آذار 2017 بعنوان «الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الأبارتايد»، خلص، بناءً على استقصاء علمي وأدلّة قاطعة، إلى أن إسرائيل أقامت نظام أبارتايد تجاه الشعب الفلسطيني بأكمله حيث وجد. إذ يطال الفلسطينيين في إسرائيل وفي الأراضي التي احتُلّت عام 1967 وفي الشتات. التقرير الذي يشرح الآليات التي يعتمدها نظام الأبارتايد الإسرائيلي لتفريق الشعب الفلسطيني وقمعه وتسيّده، أثار اعتراض دول غربية، ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة إلى الطلب من «أسكوا» حذفه من موقعها الإلكتروني. وأدى ذلك إلى استقالة رئيسة اللجنة ريما خلف من منصبها احتجاجاً على النفاق الدولي.
لكن التقارير التي تدين إسرائيل بجرم الفصل العنصري توالت. فقد اعتمدت لجنة الأمم المتحدة المعنية بالقضاء على التمييز العنصري، في 12 كانون الأول 2019، ملاحظاتها الختامية بشأن إسرائيل، وأقرّت باستمرار ممارسات الفصل العنصري الإسرائيلية وتأثيرها غير المتناسب على الفلسطينيين. وأكدت اللجنة في تقريرها أن المجتمع الإسرائيلي لا يزال يعاني من الفصل العنصري لأنه يحافظ على قطاعين يهودي وغير يهودي، بما في ذلك نظامان للتعليم بشروط وظروف غير متكافئة. وحذّر المقرّر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية منذ عام 1967 من أنّ خطط إسرائيل ستبلور فصلاً عنصرياً في القرن الحادي والعشرين يؤدي إلى زوال حقّ الفلسطينيين في تقرير المصير.
وعلى صعيد المنظمات غير الحكومية، بدأت الإشارة إلى ارتكاب إسرائيل جريمة الفصل العنصري، ووصفها بدولة فصل عنصري، في بيان صدر عن منتدى المنظمات غير الحكومية الذي عُقد ضمن فعاليات مؤتمر «مكافحة العنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب وما يتّصل بذلك من تعصّب» الذي أقامته الأمم المتحدة في مدينة ديربان الجنوب أفريقية بين 31 آب و7 أيلول 2001، وضمّ نحو 3 آلاف ممثل عن منظمات المجتمع المدني حول العالم، وأصدر إعلاناً بموافقة غالبية ساحقة، وصفت بعض فقراته (160-165 تحت عنوان «الفلسطينيون وفلسطين») إسرائيل بـ «الدولة العنصريّة التي تطبّق نظام فصل عنصري»، واتهمها بارتكاب جرائم حرب و«إبادات جماعية» و«تطهير عرقي». وطالب الإعلان بإنشاء محكمة معنيّة بجرائم الحرب ( قبل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية)، ولجنة أمميّة مختصّة بالفصل العنصري، وإطلاق حركة مناهضة للفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل.
لم تتبنَّ «هيومن رايتس واتش» أو منظمة العفو الدولية الإعلان. لكن، بعد عشرين عاماً تقريباً، أصدرت كل منهما تقريراً مفصّلاً يثبت ارتكاب إسرائيل جرم الفصل العنصري ضد الفلسطينيين. صدر تقرير «هيومن رايتس واتش» في نيسان 2021 بعنوان «تجاوزوا الحدّ: السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد»، واستعرض ممارسات الحكومة الإسرائيلية وانتهاكها الحقوق الأساسية للفلسطينيين بهدف ضمان هيمنة اليهود الإسرائيليين، وخلص إلى «أن الحكومة الإسرائيلية أظهرت نيتها الحفاظ على هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين في جميع أنحاء الأراضي التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، واقترنت هذه النية بالقمع المنهجي للفلسطينيين والأفعال اللاإنسانية ضدهم. عندما تحدث هذه العناصر الثلاثة معاً، فإنها ترقى إلى جريمة الفصل العنصري».
وفي تقريرها الذي أصدرته في شباط 2022، بعنوان «نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين نظامٌ قاسٍ يقوم على الهيمنة وجريمة ضد الإنسانية»، خلصت منظمة العفو الدولية إلى أن إسرائيل ارتكبت جرم الفصل العنصري، وأن كل السلطات الإدارية المدنية والسلطات العسكرية الإسرائيلية تقريباً، متورطة في فرض نظام الفصل العنصري ضد الفلسطينيين في مختلف أنحاء إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، وضد اللاجئين الفلسطينيين وأبنائهم وأحفادهم خارج الأراضي. واعتبرت أن أنماط الأفعال المحظورة من اعتداء ممنهج وواسع النطاق داخل إسرائيل وفي الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ارتُكبت بقصد إدامة ذلك النظام، وهي ترقى إلى مستوى الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في الفصل العنصري بموجب الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

حملات دولية مناهضة لسياسة «إسرائيل» العنصرية
منظمو حملات التأييد للقضية الفلسطينية رفعوا شعارَ مناهضة الفصل العنصري الإسرائيلي. ومن بين هذه الحملات، على سبيل المثال لا الحصر، حملة تعرف باسم «أسبوع الأبارتايد الإسرائيلي» التي أُطلقت عام 2005، وهي سلسلةٌ سنوية من المحاضرات والتظاهرات حول القضية الفلسطينية تُقام في آذار في عدد من الجامعات حول العالم. وهناك مواقف أخرى اتخذتها مؤسسات دينية. فعلى سبيل المثال، عام 2014، صوتت الجمعية العامة للكنيسة المشيخية، وهي طائفة بروتستانتية محافظة وثاني أكبر طائفة مشيخية في الولايات المتحدة، على قرار يعتبر أن قوانين إسرائيل وسياساتها وممارساتها ضد الشعب الفلسطيني تطابق تعريف القانون الدولي للفصل العنصري. وتضمّن القرار أيضاً إدراج ذكرى نكبة الشعب الفلسطيني بين الأيام التي تحييها الكنيسة في تقويمها. وفي أيلول 2023 ، اعتمدت أعلى هيئة لصنع القرار في الكنيسة الأنغليكانية في جنوب أفريقيا قراراً بإعلان إسرائيل «دولة فصل عنصري». وفي الولايات المتحدة، انضمت عشرات المؤسسات والكنائس والنقابات إلى تحالف عريض يحمل اسم «مجتمع خالٍ من الأبارتهايد» يناهض الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. ويهدف هذا التحالف إلى التثقيف حول جرائم نظام الفصل العنصري الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، وبات يضم نحو 200 منظمة أميركية تتوزع على كل الولايات. وهناك أيضاً الحملة الإيرلندية المناهضة للفصل العنصري في فلسطين، وهي تحالف يضم 23 من منظّمات المجتمع المدني الإيرلندية تمثّل أكثر من مليون عضو… والقائمة تطول.
ممارسات سلطات إسرائيل العنصرية ضد الفلسطينيين لم تعد بعيدةً عن الانتقاد الدولي


إزاء هذه الإدانات والتحركات الدولية (الرسمية وغير الرسمية) التي تعيد إلى الذهن ما حدث في ستينيات القرن الماضي ضد جنوب أفريقيا العنصرية، هل تتخذ الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارات مماثلة لتلك التي اسقطت نظام بريتوريا العنصري وتصدر قرارا بتعليق مشاركة «اسرائيل» في اجتماعات الجمعية العامة حتى تطبيق كلّ القرارت الدولية المتعلقة بحقوق الفلسطينيين، وتوصي بمقاطعتها اقتصادياً وتجارياً ورياضياً كما حدث مع جنوب أفريقيا؟
كانت تجربة الأمم المتحدة في مكافحة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ناجحةً رغم أنّ الأمر استغرق أكثر من أربعين عاماً ورغم معارضة الدول الكبرى، فهل يتكرّر ذلك مع الكيان الصهيوني؟