بعد 24 ساعة على بدء عملية «طوفان الأقصى»، أعلنت «المقاومة الإسلامية» جبهة جنوب لبنان مساندة لغزة، راسمةً خطاً أحمرَ هو «ممنوع هزيمة حركة حماس»، وبدأت عملياتها من فقء عيون العدو بإطفاء كل منظومات المراقبة التي زرعها على طول الخط الأزرق، إلى دكّ تحصيناته التي ظنّ أنها قادرة على حماية جنوده والمستعمرات الحدودية، فإذا بها تتحوّل إلى نقاط محروقة ومستعمرات فارغة.فجأةً، ارتفعت أصوات في الداخل وازدحمت المبادرات الخارجية لعدم إقحام لبنان في حرب شاملة، وترافقت مع تهديدات شبه يومية من العدو الإسرائيلي بـ«تحويل لبنان إلى غزة». إلا أن المقاومة تمكّنت من فرض إيقاعها على العدو، وظهّرت بشكل واضح ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة.
مع اقتراب الحرب من دخول شهرها الرابع، بدأت ترتسم بشكل واضح معالم الانتصار. وبعدما شهد مجلس الأمن، في السنتين الماضيتين، محاولات أميركية وإسرائيلية لتعديل القرار 1701، أصبح العدو الإسرائيلي متمسّكاً بحرفية هذا القرار كمخرج لحفظ ماء الوجه، وسارعت واشنطن إلى إرسال مبعوثها عاموس هوكشتين عارضاً معالجة موضوع مناطق التحفّظ اللبنانية. فهل تطبيق القرار 1701 لمصلحة لبنان أم ضدّه؟
مما لا شك فيه أن المقاومة قادرة على تحويل تطبيق الفقرات التي تعتبرها إسرائيل لمصلحتها إلى انتصار واضح للبنان، وذلك على الشكل التالي:
1- الفقرة الثامنة: في ما يتعلق بالدعوة إلى وقف دائم لإطلاق النار، ستوقف المقاومة إطلاق النار حكماً بعد إيجاد حلّ لمسألة غزة، خصوصاً أنها أعلنت مراراً أنها جبهة مساندة. أما بالنسبة إلى وقف الأعمال العدائية، فإن اللبنانيين سيشاهدون، ولسنوات طويلة، ارتداع العدو الإسرائيلي عن القيام بخروقات برية أو بحرية أو جوية بعدما كان يستبيح الأجواء اللبنانية فضلاً عن البحر والبر.
وحول ما ورد في هذه الفقرة لجهة «إنشاء منطقة بين الخط الأزرق وجنوب الليطاني خالية من أي أفراد مسلّحين أو معدات أو أسلحة بخلاف ما يخصّ حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة المؤقّتة في لبنان»، وهي التي يختبئ خلفها العدو الإسرائيلي لحفظ ماء وجهه أمام جمهوره، فهو سهل التطبيق بالنسبة إلى المقاومة، لأن عناصرها هم أهل الأرض، ولا يستطيع أحد اقتلاعهم من بيوتهم وأرضهم. فيما السلاح الخفيف والمتوسط موجود في حوزة الجميع على كامل الأراضي اللبنانية، ولم يُسجّل للمقاومة أي ظهور مسلّح في منطقة جنوب الليطاني منذ صدور القرار 1701 وحتى دخولها المعركة الحالية. أما السلاح الثقيل والإستراتيجي، فمن المنطقي أساساً أنه خارج منطقة جنوب الليطاني.
وفي ما يتعلق بمهمات قوات اليونيفل، فقد حدّدتها الفقرة الحادية عشرة بـ «مرافقة ودعم الحكومة اللبنانية»، ولا يحق لهذه القوات القيام بأي تصرف غير ما تطلبه منها الحكومة اللبنانية والحكومات المتعاقبة التي شرّعت دور المقاومة من خلال بند خاص في بياناتها الوزارية. أما بالنسبة إلى تذكير البعض بالقرار 1559، فإن هذا القرار ولد ميتاً ولم تتطرّق قوات الأمم المتحدة إليه أبداً طيلة فترة تطبيق القرار 1701.
2- الفقرة 12: وقد تضمّنت: «... يأذن لقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان باتخاذ جميع ما يلزم من إجراءات في مناطق نشر قواتها وفي حدود قدراتها لكفالة ألا تستخدم منطقة عملياتها للقيام بأنشطة معادية من أي نوع...». يفهم البعض هذه الفقرة بأنها تسمح لليونيفل باستخدام القوة في تنفيذ مهامها، لكنّ التجربة أثبتت أن هذه القوات غير قادرة على ذلك لأنها تصطدم بمواجهة شعبية واسعة وبالقوانين اللبنانية التي تفرض عليها احترام الملكيات الخاصة وعدم الاقتراب منها وقد حصلت عدة حوادث اقتنعت اليونيفل بعدها بضرورة المحافظة على العلاقة الطيبة مع المواطنين اللبنانيين في منطقة عملياتها. وسمع اللبنانيون جميعاً بعد محاولات تعديل القرار 1701 كيف سارع قائد اليونيفل إلى إبلاغ المعنيين بأنه سيستمر في تطبيق مهمته من دون أي تعديل.
إنشاء منطقة بين الخط الأزرق وجنوب الليطاني خالية من مسلّحين سهل التطبيق لأن عناصر المقاومة هم أهل الأرض


3- راوغ العدو منذ إقرار القرار 1701 في تطبيق الفقرتين الخامسة (... يعيد تأكيد تأييده الشديد لسلامة أراضي لبنان وسيادته داخل حدوده المعترف بها دولياً حسب الوارد في اتفاق الهدنة عام 1949...) والعاشرة (تطلب من الأمين العام للأمم المتحدة «وضع مقترحات لترسيم الحدود الدولية للبنان ولا سيما في المناطق المتنازع عليها أو غير المؤكّدة بما في ذلك معالجة مسألة مزارع شبعا...)، محاولاً تكريس الخط الأزرق كخط حدود. أما اليوم، وبعدما أصبح تطبيق القرار 1701 مطلباً أميركياً وإسرائيلياً، فيمكن للمقاومة أن تستفيد من انتصارها العسكري لترجمته في تحرير الأراضي اللبنانية التي ما زالت محتلّة وهي: مناطق التحفّظ الثلاث عشرة، الجزء اللبناني من بلدة الغجر بالإضافة إلى مزارع شبعا.
وقد أعطت المقاومة قوة استثنائية للحكومة اللبنانية، وما على هذه الأخيرة إلا تجهيز نفسها لتحويل الانتصار العسكري إلى انتصار وطني تحرّر من خلاله الأراضي اللبنانية، وتجهيز فريق متخصّص وتحضير ملفها بشكل دقيق لاستثمار الانتصار على الشكل التالي:
أ - بالنسبة إلى مناطق التحفظ الثلاث عشرة: يجب التفاوض على أساس الحدود الدولية ورفض محاولات العدو للتفاوض على أساس الخط الأزرق الذي لا يعترف به إلا كما هو على الخريطة الورقية حيث تبلغ سماكته 50 متراً. وإضافة إلى هذه المناطق، يجب الانتباه إلى المراكز العدوّة التي تخرق الخط الأزرق ولو بمسافات بسيطة وعددها حوالي سبعة عشر، لذلك على الحكومة اللبنانية استخدامها في التفاوض للمحافظة على بساتين بليدا وبئر شعيب وبعض البساتين العائدة لأهالي عيترون.
ب - بالنسبة إلى الجزء اللبناني من بلدة الغجر: الخط الأزرق في هذه المنطقة مطابق لخط الحدود الدولية، والاحتلال الإسرائيلي لها هو خرق واضح للقرار 1701، لذا يجب المطالبة بالانسحاب الفوري من دون أي قيد أو شرط. وهنا يجب الانتباه هنا إلى وجود ثلاثة أنواع من الاحتلال:
الأول: هو احتلال لمنطقة غير مأهولة محاذية لبلدة الغجر تمتد من نهر الوزاني حتى بلدة العباسية، وهذه المنطقة خالية من أي وجود للعدو الإسرائيلي ولكنه يعلنها محتلة، علماً أنها حُررت عام 2000 وكانت دوريات الجيش اللبناني تدخلها بشكل دوري. لذا يجب التحرير الفوري لهذه المنطقة وانتشار الجيش اللبناني فيها.
الثاني: احتلال لمنطقة مأهولة بالسكان موجودين بحكم الأمر الواقع، وهم من التابعية السورية ويحملون الجنسية الإسرائيلية استغلوا فترة الاحتلال الإسرائيلي لمنطقة الشريط الحدودي وغياب الدولة اللبنانية لعشرات السنين فتمدّدوا داخل الأراضي اللبنانية في خراج بلدة الماري، وبنوا منازل وبنى تحتية بشكل غير شرعي. وهنا يعيق الوضع الإنساني الحل. ولكن لا بد من الانسحاب الإسرائيلي العسكري كما كان حاصلاً عام 2000، ثم تحميل الأمم المتحدة مسؤولية الحل. وقد سبق أن عرضت على الأهالي إخلاء منازلهم مقابل بدلات مادية لبناء منازل بديلة جنوب الحدود الدولية. بالتوازي، يحق للدولة اللبنانية مطالبة العدو الإسرائيلي بدفع تعويضات مادية عن استخدام الأراضي اللبنانية لعشرات السنين.
الثالث: يتمثل بضخ المياه من نبع الوزاني إلى بلدة الغجر رغم أن النبع هو في الأراضي اللبنانية والمضخّات الإسرائيلية هي في الجهة اللبنانية، ويطلب أهالي الغجر عبر اليونيفل الدخول إلى الأراضي اللبنانية لإصلاح هذه المحطة عند تعطّلها. فإذا كانت الموافقة اللبنانية هي لأسباب إنسانية، فلا بد من التأكد من كمية الضخ ووقف السرقة التي يقوم بها العدو تحت غطاء أهل الغجر. لذا لا بد من ضبط عملية الضخ بطريقة عادلة بحيث لا يجوز أن يكون معدّل الاستهلاك اليومي للفرد في الغجر 200 ليتر في حين أن المعدّل في بلدة عرب الوزاني اللبنانية لا يتجاوز 40 ليتراً.
ج- بالنسبة إلى مزارع شبعا: هذه المزارع هي من دون أي شك لبنانية، ولكنّ هناك تقصيراً لبنانياً مزمناً تجاه هذه المنطقة، إذ لم تعالج الحكومات المتعاقبة هذه المسألة للتوصل إلى إصدار خرائط صحيحة بالتنسيق مع الشقيق السوري. لذا فإن الفرصة مؤاتية الآن لتحريرها ولو اضطر الأمر لمرحلة وسيطة يتم خلالها وضعها تحت إشراف الأمم المتحدة.
ببسالة مجاهديها وحكمة قياداتها رسمت المقاومة معالم التحرير الرابع بعد أن حقّقت التحرير الأول في أيار 2000 بطرد العدو الإسرائيلي من الشريط الحدودي، والثاني في تموز 2006 بإلحاق الهزيمة المدوّية بجيشه وإخراجه من الأراضي اللبنانية التي احتلها، والثالث من خلال تحقيق الاتفاق البحري في تشرين الأول 2022 وإجبار العدو على الاعتراف بالخط 23 بعد أن كان يفاوض على الخط الرقم 1 وعلى خط هوف. وطبعاً كانت المقاومة حقّقت أكثر بكثير لولا الأخطاء المتراكمة التي ارتكبتها الحكومات المتعاقبة منذ خلق الإشكالية في عام 2006.
نعم حقّقت المقاومة انتصاراً جديداً يضاف إلى سجلّات انتصاراتها على العدو الإسرائيلي، ورسمت من خلاله معالم التحرير الرابع، فهل تعد اللبنانيين بالتحرير الخامس وهو تحرير الدولة من الفساد والفاسدين؟
* عميد متقاعد في الجيش اللبناني، خبير في ترسيم الحدود