مَرْتا، مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة .. إِنَّمَا المَطْلُوبُ وَاحِد[لوقا10/من38]

في دولة منهوبة تم الاستيلاء فيها على ودائع الشعب ومدخراته بحيث بات عاجزاً عن تأمين أبسط حقوقه، لا بد من قضاء قوي متحرّر من كافة الحسابات والمحسوبيات من أجل خوض أشرس المعارك القانونية في سبيل إحقاق الحق ونصرة الشعب المسروق وتحقيق العدالة بمختلف أوجهها، بحيث يسترجع المواطن ثقته بالمحاكم والقضاء وبالتالي ثقته بوطنه.
هذا المواطن بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، الى فتح أبواب قصور العدل أمامه، فيدخل منها الى مكان يشعر فيه بالطمأنينة، مدركاً أنه سيصل الى حقه بالطرق القانونية اسوةً بالمواطنين في الدول الأخرى المتقدمة.
ليس بعيداً عن الظلم الناتج عن تبخّر الودائع، ظلم من نوع آخر يلحق بالموقوفين لارتكابهم أفعالا جرمية، الا أن مدة توقيفهم تجاوزت المدة القصوى للعقوبة المنصوص عنها قانوناً.
يقبعون في سجون تخالف كل المعايير الدولية، يتعرضون للجوع والبرد، عائلاتهم باتت عاجزة عن مدّهم بالأكل ومستحضرات النظافة فانتشرت الأمراض بينهم، ناهيكم عن الشبان اليافعين الذين دخلوا السجن بسبب جنح بسيطة ومكثوا طويلاً الى أن تحوّلوا الى مجرمين حقيقيين، فتعلّموا أساليب جديدة هناك، عززها في وجدانهم الحقد الذي اعتراهم تجاه دولتهم التي أهملتهم ونستهم في العنابر.
ملفات متراكمة، سجناء ينتظرون، مودعون يأملون، محامون يتابعون من دون كلل أو ملل، والأنظار كلها على القضاء والقضاة الشرفاء الذين لا يتعبون ولا يخشون أحداً، ضمائرهم سلاحهم، يعملون في ظروف قاسية ولا يملّون ولا يستسلمون. يستقبلون في مكاتبهم الناس، يستمعون الى همومهم، يساعدونهم، يتابعون الملفات لساعات طويلة ولا يتذمّرون، يتحدون الطبقة السياسية ويفتحون أخطر الملفات ولا يتراجعون رغم الاضطهاد. يتجرأون حيث لا يجرؤ الآخرون فهم أحرار يعرفون الحق والحق يحررهم. هؤلاء القضاة الذين نأمل أن يحذو الباقون حذوهم فيحملوا مصابيح العدالة لينيروا قصور العدل والسجون المظلمة، ويرفعوا عن الدولة الضعف في مؤسساتها ويعيدوا الهيبة الى قضائها. قضاة يثورون من أجل العدالة، يوقفون الفساد من خلال فصل السلطة القضائية عن السياسة عملاً بمبدأ فصل السلطات المكرّس في المادة 20 من الدستور وفي مواثيق الأمم المتحدة. هذا المطلب لا يمكن حصره بالقضاة، بل يهم كل العاملين في مجال تحقيق العدالة في المجتمع. ولنقابة المحامين دور محوري في هذا الإطار من خلال المساهمة في التطور الحضاري وحماية كرامة الانسان، إنطلاقاً من أن المحاماة رسالة إنسانية سامية لنصرة الحق والدفاع عن المظلومين والبحث عن العدل. فالنقابة تضمّ المحامين المسجلين إلزامياً في سجلها النقابي والذين يتمتعون حصراً بحق التوكل والمرافعة أمام المحاكم وتحقيق رسالة العدالة بالدفاع عن الحقوق من خلال إبداء الرأي القانوني وتطبيق القانون، وترسي قواعد المهنة وأصول ممارستها من خلال التمسك بالقيم الانسانية.
هؤلاء المحامون الذين يحملون قضايا الناس الى القضاء، عليهم أن يحملوها بأمانة، وأن يثابروا في سبيل التوصل الى النتائج المرجوة خلال فترة زمنية لا يمكن أن تطول في ظل الظروف الراهنة. للنقابة دوران أساسيان، دور مهني، فهي تسهر على حقوق المحامين وحصاناتهم وضماناتهم تأميناً لقدسية حق الدفاع، ودور وطني إذ أنها ضمير الأمة والحريصة على تطبيق الدستور ومبادئ الديمقراطية والحريات العامة التي يكفلها الدستور.
لا شك في أن النقابة شهدت، بعد الحرب الأهلية، تراجعاً ملحوظاً، فقد كانت تملك ثقلاً كبيراً في الحياة السياسية والوطنية وتؤثر على صناعة القوانين والتشريعات في مجلس النواب، ولم تعد بعيدة عن قوى السلطة والتجاذبات السياسية رغم نزعات الاستقلالية التي تبرز فيها بين الحين والآخر. برز هذا التراجع بشكل واضح خلال الأزمة الأخيرة التي عصفت بالبلاد، ففيما يواجه لبنان الانهيار المالي والاقتصادي وفقدان الثقة بمؤسسات الدولة وبالقوانين نتيجة فساد السلطة وعدم المحاسبة وعجز القضاء عن ملاحقة ومحاسبة المسؤولين عن الاستيلاء على حقوق المودعين، لم تؤد نقابة المحامين الدور المرجو منها. اقتصر دورها على مواقف خجولة ورمادية لا تتمتع بالقوة اللازمة لتحقيق العدالة وحماية حقوق الشعب المنهوب من قبل المنظومة الفاسدة بالتعاون مع المصارف ومصرف لبنان.
أما في مجال التشريع وفي ظل تلكؤ السلطة التشريعية عن القيام بمهامها في مجال اقتراح القوانين، خصوصاً تلك التي تمسّ حياة المواطن اليومية بالاضافة الى الحاجة الى تعديل القوانين الموجودة وتحديثها لمواكبة العصر، فلا نشهد أي دورملحوظ لنقابة المحامين في هذا المجال.
المطلوب اليوم ليس جديداً بل التركيز بجدية اكبر على استقلالية القضاء وصدور التشكيلات القضائية المبنية على العلم والكفاءة والنزاهة والصلابة من دون أي قيد طائفي، وأن تكون التعيينات على أساس الانتاجية والجدية في العمل، وتشكيل خلايا للعمل المتواصل على متابعة ملفات الموقوفين وتسهيل أمورهم للحد من ظاهرة اكتظاظ السجون وكذلك إظهار صورة نقية وحيوية للعدالة في البلاد تمثل نقطة ضوء في عتمة هذا البلد، ونموذجاً يحتذى به في إعادة النهوض والبناء التي ينشدها جميع اللبنانيين.