في 12/1/2024، عُقدت الجلسة الثانية والأخيرة من جلسات الاستماع الأولية في محكمة العدل الدولية، للنظر في طلب جنوب أفريقيا اتخاذ تدابير مؤقتة لوقف الأعمال العسكرية في غزة. واستمعت المحكمة إلى مرافعة فريق الكيان الصهيوني الذي أصرّ على أنّ الهدفين العسكريين المزدوجين لها هما القضاء على التهديد الوجودي الذي يشكله مقاتلو حماس، وإطلاق حوالى 136 رهينة ما زالوا محتجزين في القطاع. ورفض ممثل الكيان الصهيوني التماس جنوب أفريقيا المقدم إلى المحكمة بموجب أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية لإصدار «تدابير مؤقتة»، بأمر إسرائيل بتعليق حملتها العسكرية في غزة على الفور. وقال إن ذلك يرقى إلى «محاولة لحرمان إسرائيل من قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه الدفاع عن مواطنيها والرهائن وأكثر من 110,000 نازح إسرائيلي غير قادرين على العودة بأمان إلى منازلهم».
(كارلوس لطوف ــ البرازيل)

وقد برزت قضية الدفاع المبرر عن النفس بشكل بارز في العرض الإسرائيلي. وأصرّ الفريق القانوني الإسرائيلي على أنه عندما تتعرض دولة لهجوم، فإن لها الحق في الدفاع عن نفسها وعن مواطنيها. وقال المحامي الإسرائيلي - البريطاني مالكولم شو: «لا توجد نية للإبادة الجماعية هنا، وهذه ليست إبادة جماعية». وأضاف أن الفظائع التي ترتكبها حماس «لا تبرر انتهاك القانون رداً على ذلك، ولكنها تبرر ممارسة الحق المشروع والأصيل لدولة ما في الدفاع عن نفسها على النحو المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة».
يحظر ميثاق الأمم المتحدة بشكل صارم استخدام القوة في العلاقات بين الدول وفقاً لمادته الثانية /4 التي تنصّ على أنه «يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأيّ دولة أو على أي وجه آخر لا يتّفق ومقاصد الأمم المتحدة».
ولكن المادة 51 من الميثاق نفسه، تقرّ بالحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم، والتي تنصّ على أنه «ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلّحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتّخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليّين. والتدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالاً لحق الدفاع عن النفس تبلّغ إلى مجلس الأمن فوراً. ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال في ما للمجلس بمقتضى صلاحياته، من الحق من أن يتّخذ في أي وقت ما يرى ضرورةً لاتّخاذه من الأعمال لحفظ الأمن والسلم الدولي أو إعادته إلى نصابه». هذه المادة هي الوحيدة التي تجيز استخدام القوة المسلحة خارج منظومة الأمم المتحدة. فهذا الحق هو استثناء مقيّد بشروط وضوابط، وهي أنّ فعل الدفاع ينبغي أن يكون الوسيلة الوحيدة لصد العدوان الواقع على الدولة، وموجهاً إلى مصدر العدوان المسلح، ومتّسماً بالصفة المؤقتة لحين تدخل مجلس الأمن. وإذا افترضنا أنّ لإسرائيل الحق في استخدام المادة 51، فهي لم تلتزم بأي من الشروط المبيّنة أعلاه.


ولكون المادة 51 استثناء لحظر استخدام القوة، يرى عدد من الفقهاء أنه لا يجوز التوسّع في تفسير نصّها. فثمة توجّه إلى اللجوء للمادة 51 لتبرير استخدام القوة ضد خطر وشيك الوقوع، أي إنّ العدوان لم يقع بعد، ولكن هناك احتمالاً لوقوعه. وقد استخدمت الولايات المتحدة مفاهيم تشمل الدفاع الوقائي عن النفس والضربات الاستباقية في «حربها العالمية على الإرهاب». ومع ذلك، فقد خلص تقرير اللجنة التابعة للأمين العام للأمم المتحدة والمعنية بالتهديدات والتحديات في 2 كانون الأول 2004 إلى أنها لا تؤيّد إعادة كتابة المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة أو إعادة تفسيرها. ويعترف هذا التقرير بأن العمل الوقائي ضد خطر حقيقي ووشيك قد يكون ضرورياً، ولكنه يستبعد استخدام القوة الوقائية عندما لا يكون هناك دليل موثوق على حقيقة التهديد المعني. وفي مثل هذه الحالات، يبقى إذن مجلس الأمن ضرورياً. وقد لجأت إسرائيل إلى المفهوم الواسع للمادة 51 لتبرير قصفها للمفاعل النووي العراقي في عام 1981، وكان الهجوم على المفاعل النووي يستند فقط إلى الشعور بالتهديد من العراق. وقد أدان مجلس الأمن آنذاك، بالقرار الرقم 487، «الغارة الإسرائيلية التي تشكّل خرقاً فاضحاً لميثاق الأمم المتحدة ولمبادئ السلوك الدولي، ويعتبر أن للعراق الحق في التعويضات الملائمة». ويبدو أن الكيان الصهيوني لا يزال يتبنّى المفهوم الواسع للمادة 51 في عدوانه على غزة، ليبرّر أن استمرار عمليّته العسكرية ضروريٌّ لمنع هجمات مماثلة في المستقبل.

موقف القانون الدولي الإنساني من سلوك الكيان الصهيوني
يطبّق القانون الدولي الإنساني على النزاعات المسلحة، ولا يعنيه تحديد من هو المعتدي ومن هو الضحية، ولا يعنيه من بدأ القتال ولا شرعيته، بل ما يعنيه هو التزام الأطراف المتحاربة بقواعد تحمي ضحايا النزاع المسلح. ويستخدم القانون الدولي الإنساني مبدأ التناسب للحدّ من الضرر الناجم عن العمليات العسكرية على السكان والأعيان المدنية.


وبناء على هذا المبدأ، يحظر القانون الدولي الإنساني الهجمات التي تسبّب خسارةً في أرواح المدنيين أو إصابتهم أو الأعيان المدنية بأضرار تتجاوز ما ينتظر أن يسفر عنه ذلك الهجوم من ميزة عسكرية وملموسة ومباشرة. فإن كان لإسرائيل الحق في الرد على هجمات حماس، فإن حق الردّ يجب أن يحترم مبدأ التناسب الذي بموجبه يتم تحديد ما إذا كانت القوة المستخدمة تتوافق مع الأهداف المشروعة. وهذا ما أكدته محكمة العدل الدولية من ضرورة توافر المتطلّبات القانونية للجوء الدول إلى القوة في حالة الدفاع عن النفس. وفي أحكامها الصادرة عامي 1986 و2005، على التوالي، في قضية نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة الأميركية وقضية جمهورية الكونغو الديموقراطية ضد أوغندا، أكدت وجود قاعدة راسخة في القانون الدولي العرفي، إذ لا يبرر الدفاع عن النفس إلّا اتّخاذ تدابير متناسبة مع الهجوم المسلّح «لا يجوز أن تبرر المادة 51 من الميثاق استخدام القوة دفاعاً عن النفس إلّا ضمن الحدود الصارمة المنصوص عليها فيها. فهو لا يسمح باستخدام القوة من قبل دولة ما لحماية المصالح الأمنية بما يتجاوز المعايير. وهناك وسائل أخرى متاحة للدولة المعنية، بما في ذلك، على وجه الخصوص، اللجوء إلى مجلس الأمن». وأشارت محكمة العدل الدولية إلى وجود قاعدة أخرى راسخة في القانون الدولي العرفي، «بموجبها لا يبرّر الدفاع عن النفس سوى التدابير المتناسبة مع الهجوم المسلح والضرورية للرد عليه». أما المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة، فقد قضت في قضية مارتيتش (8 أكتوبر 2008 ) بأنه «لا يجوز استخدام الدفاع عن النفس لتبرير هجوم متعمد على المدنيّين».

ولكن هل يحقّ لإسرائيل استخدام المادة 51 ؟
في الثاني من تشرين الثاني 2023، كان المندوب الروسي للأمم المتحدة أول من لفت نظر مجلس الأمن إلى أن إسرائيل لا يحق لها أن تبرّر أعمالها في غزة على أنها «دفاع عن النفس» لأنها دولة احتلال. فالكيان الصهيوني يحارب من؟ هل يحارب دولة؟ إذا كان الجواب نعم، فما هي هذه الدولة؟ هل هي دولة فلسطين؟ ما هو الوضع القانوني لهذه الدولة؟ هل تعترف بها إسرائيل؟ الجواب بالطبع لا. إن فلسطين (الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، بحسب تعابير الأمم المتحدة والمجتمع الدولي) التي تتمتع بعضوية دولة بصفة مراقب في الأمم المتحدة، ما زالت تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967. وهذه الأراضي - أيضاً بحسب قرارات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والدول العربية معها - هي أراضٍ محتلة. والثابت في القانون الدولي أنّ الشعب الرازح تحت الاحتلال له الحق في المقاومة والدفاع عن نفسه بكل الوسائل الممكنة بما في ذلك الكفاح المسلّح من أجل التخلّص من الاحتلال. ووفقاً لنص المادة 51، يتم تفعيل حق الدفاع عن النفس في حال كان هناك اعتداء مسلح على أحد أعضاء الأمم المتحدة، أي عند وجود عدوان مسلح، والذي عرّفته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرار صادر في 14 كانون الأول 1974 أن العدوان المسلّح هو «استعمال القوة المسلحة من قبل دولة ما ضد سيادة دولة أخرى، أو سلامتها الإقليمية أو استقلالها السياسي». ولكن هذا القرار عينه أضاف أنه «ليس في هذا التعريف ما يمكن أن يمسّ على أي نحو بما هو مستقى من الميثاق، من حق تقرير المصير والحرية والاستقلال للشعوب المحرومة من هذا الحق بالقوة والمشار إليه في إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، ولا سيما الشعوب الخاضعة لنظم استعمارية أو عنصرية أو لأشكال أخرى من السيطرة الأجنبية أو بحق الشعوب في الكفاح من أجل ذلك الهدف وفي التماس الدعم وتلقيه». أي إن أعمال المقاومة المسلحة ضد سلطة الاحتلال لا تعتبر عدواناً يوجب تفعيل المادة 51. بل هناك من يرى أن المادة 51 نفسها يمكن للمقاومة المسلحة أن تستخدمها أيضاً، لأن الاحتلال هو عدوان مستمر على حق الشعوب في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، ما يقتضي شمولها بأسباب الإباحة لاستخدام القوّة بوصفها تندرج ضمن حالات الدفاع المشروع. وهذا ما كان قد تبنّاه عدد من فقهاء القانون الدولي الذين أكّدوا أنّ الاحتلال الحربي نتيجة العدوان، يُعدّ عملاً غير مشروع بموجب القانون الدولي، ويُعطي الشعب في الإقليم المحتل الحق في الدفاع الشرعي عن الوطن بجميع الوسائل المتاحة لديه.
هجمات المقاومة تخرج عن نطاق العدوان والهجوم المسلّح غير القانوني، لذا لا يمكن لإسرائيل التذرّع بحقّ الدفاع عن النفس ضدّ عمل مشروع

وقد تجلّى الاعتراف بشرعية أعمال المقاومة الشعبية المسلحة التي تناضل لنيل حقها في تقرير مصيرها عبر تدويل النزاعات المسلحة التي تكون طرفاً فيها، وهذا ما تم بمقتضى البروتوكول الملحق الأول لاتفاقيات جنيف في العاشر من حزيران لعام 1977 في الفقرة الثالثة من المادة الأولى، والتي تنصّ على أنه «ينطبق هذا الملحق الذي يكمل اتفاقيات جنيف لحماية ضحايا الحرب… على الأوضاع التي تنصّ عليها المادة الثانية المشتركة... وتتضمّن هذه الأوضاع المنازعات المسلّحة التي تناضل بها الشعوب ضدّ التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية، وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير كما كرّسه ميثاق الأمم المتحدة والإعلان المتعلّق بمبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول طبقاً لميثاق الأمم المتحدة».
وبناء عليه، فإنّ تفعيل نص المادة 51 ينطبق على الدول في حال تعرّضت لهجوم مسلح غير قانوني. أما هجمات المقاومة ضد الاحتلال، فهي تخرج عن نطاق العدوان والهجوم المسلّح غير القانونيَّين، لذا لا يمكن لإسرائيل التذرّع بحق الدفاع عن النفس ضد عمل مشروع، فلا دفاع عن النفس ضد دفاع عن النفس. وذهبت محكمة العدل الدولية في فتواها الصادرة في 2004، والمتعلقة بشرعية الجدار الفاصل في الضفة الغربية، إلى القول إن إسرائيل باعتبارها قوة احتلال ليس لها الحق في الاستناد إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
ووفقاً للقانون الدولي، فإن حركات التحرر الوطني لها شخصية قانونية تتمتع بحقوق وعليها التزامات دولية، ولها حق الدفاع الشرعي.

بعد أكثر من 100 يوم على العدوان، يتّضح أنّ هدف العملية العسكرية للكيان الصهيوني هو إزالة غزة ومعالمها من الوجود


بعد أكثر من 100 يوم على العدوان، يتّضح أنّ هدف العملية العسكرية للكيان الصهيوني هو إزالة غزة ومعالمها من الوجود، وهو ما عبّرت عنه صحيفة «لوموند» الفرنسية بالقول إن «حق الدفاع عن النفس أصبح هو الحق في تدمير كل شيء. والنتائج الإستراتيجية التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها، وهي القضاء على حماس، تحولت إلى الموت في كل مكان وتدمير كل شيء وقتل كل شيء».
ما ارتكبته إسرائيل ولا تزال ترتكبه هو انتهاك لمبدأ التناسب الواجب احترامه وانتهاكٌ لكلّ قواعد القانون الدولي الإنساني. فرض الحصار والعقاب الجماعي والهجمات العشوائية على المدنيّين والأعيان المدنية وقصف المستشفيات، كلّها جرائم حرب تدخل في نطاق الجرائم المحددة في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وينبغي أن يأتي مبدأ الدفاع عن النفس في إطار الالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني. ولكن إسرائيل تجاوزت حدود «حقّها المزعوم بالدفاع عن النفس»، واستحالت أفعالها إلى جرائم حرب وإبادة.