منذ اندلاع العدوان على غزة، اتخذ اليمن قراره بمساندة الشعب الفلسطيني مطالباً بوقف فوري للعدوان الصهيوني على قطاع غزة ورفع الحصار عنه وادخال المساعدات الانسانية. وأعلن لتحقيق ذلك، أنه سيستهدف السفن الاسرائيلية والسفن المملوكة لاسرائيليين، وتلك المتجهة إلى موانئ العدو، وطلب من الدول المتجهة سفنها إلى البحر الأحمر عدم عبور باب المندب، مؤكداً أن السفن التي لا تذعن لهذا الاجراء سيتم استهدافها، وأن منع السفن «الاسرائيلية» لن يتوقف إلا بتوقف الحرب على غزة.يدرك اليمن مدى أهمية باب المندب وأن هجماته على ستسبّب ازعاجا للكيان الصهيوني ومن يدعمه من الحلفاء. بالنسبة لهذا الكيان، فإن تحويل شحناته إلى آسيا حول الطرف الجنوبي من افريقيا من شأنه أن يزيد بشكل كبير تكاليف الشحن ومدة العبور الزمنية. وتعطيل الطريق التجاري البحري ستكون له تكاليف اقتصادية عالمية وسيشكل ضغطا على الدول الداعمة للكيان وغير الداعمة له في آن، ما سيؤدي إلى رفع كلفة التأمين البحري وارتفاع الاسعار على الصعيد العالمي. والنتيجة هي تصعيد التوترات الاقليمية والدولية لتضطر معها الولايات المتحدة إلى تغيير حساباتها والضغط على الكيان الصهيوني لوقف الحرب وفك الحصار عن غزة.
لكن هل لليمن الحق في وضع قيود على السفن التي تعبر باب المندب؟
وفقا لاتفاقية قانون البحار لعام 1982، فإن من حق اليمن أن يتحرك على طول السواحل البحرية المحيطة به بداية من بحر العرب والبحر الاحمر وصولا إلى مضيق باب المندب الذي يشرف عليه ويربط البحر الاحمر بالمحيط الهندي عن طريق خليج عدن. فباب المندب مياه اقليمية يمنية خالصة ويخضع للسيادة اليمنية المطلقة، وتتشارك في ممر الجزء الشرقي منه دولة جيبوتي. وفي حالة السلم، وفقا لقانون البحار، يحق للسفن الأجنبية أن تعبر باب المندب بموجب ما يعرف بحق «المرور البريء». أما في حالة الحرب فإن الدولة الساحلية المعنية لها أن توقف السفن المعادية الحربية، وكذلك السفن المدنية التجارية إذا رأت ذلك ضروريا. كما أن لها، عند الضرورة الأمنية، أن تمنع العبور غير الآمن من مضيق باب المندب لتعود السفينة إلى الدولة التي انطلقت منها أو تغير مسارها. و يسمح قانون البحار للدول استثنائياً، في بعض الحالات، باتخاذ قوانين واجراءات تنفيذية لغرض معين. وفي هذه الحالة بالامكان اعتبار منع المرور عبر باب المندب أو البحر الاحمر بمثابة اجراء تنفيذي هدفه الضغط على المجتمع الدولي لوقف جرائم الابادة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان في غزة وفك الحصار عنها. هذه الاجراءات تدخل ضمن ما يمكن لليمن أن يتخذه من اجراءات تنفيذية ضد أي سفينة متجهة للكيان الصهيوني سواء كانت تحمل علمه أو مسجلة باسم أحد رعايا هذا الكيان أو متورطة بشكل مباشر أو غير مباشر في حربه ضد غزة، واعتبار مرورها مروراً ضاراً بموجب المادة 19 من اتفاقية قانون البحار التي تنص على أن ال«مرور يكون بريئا ما دام لا يضر بسلم الدولة الساحلية أو بحسن نظامها أو بأمنها». وعليه يمكن اعتبار أن مرور السفن الاسرائيلية وغيرها من السفن المتجهة إلى موانئ العدو يخالف التزامات اليمن الوطنية تجاه الشعب الفلسطيني، وأن السماح لها بالعبور سينتهك قراراته الاستراتيجية بالوقوف ضد العدوان الاسرائيلي على غزة والدفاع عنها. اليمن أعلن أنه سيرد على الاعتداءات الصهيونية ضد الفلسطينين في غزة واتخذ موقفا واضحا من الجرائم التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني وهو فعليا يطالب بتطبيق القانون الدولي، مستندا على أدواته الوطنية والمتاحة له لفرض حصار على موانئ العدو.

موقف اليمن ومبرراته القانونية
اتُخِذت الاجراءات اليمنية الموضحة اعلاه للضغط على الكيان الصهيوني والدول الداعمة له لوقف المجازر التي ترتكب بحق الفلسطينيين. فالهدف هو حماية المدنيين، وهذا هو لب النظريات التي طرحها فقهاء القانون الدولي الذين جهدوا في البحث عن سبل الوقوف في وجه من ينتهك حقوق الانسان انتهاكا جسيما خصوصا في أزمنة الحروب، وإن استلزم ذلك استخدام القوة. وقد أثمرت جهودهم في صياغة نظرية التدخل الانساني لانقاذ المدنيين. لكن هذه النظرية لم تسلم من انتقادات واقعية أثبتتها التجربة، أهمها أن الدول التي تؤيد التدخل تحت شعار الانسانية لا تتدخل إلا إذا رأت أن تدخلها يحقق لها مصالح قومية سياسية. فالدول لن تخاطر بحياة جنودها لتحقيق مصالح الانسانية على حساب مصالحها الخاصة وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى اساءة استخدام «التدخل الإنساني» من قبل الدول الكبرى، التي تمارس «الانتقائية» في الرد وتطبقه حيثما وجدت في ذلك مصلحة لها، ولا تعتمده في الحالات التي يتعارض مع تحقيق مصالحها. كما أن «التدخل الانساني» لم يمنع من ارتكاب جرائم ابادة وجرائم ضد الانسانية في تسعينيات القرن الماضي. والأمم المتحدة تأسست على فكرة مبدأ ردع الجرائم ضد الانسانية. فقد كان ارتكاب الفظائع بحق الانسانية في رواندا عام 1994، وفي قلب اوروبا بوقوع مذبحة سربرنيتشا عام 1995، بمثابة دق ناقوس الخطر لضرورة اعتماد آلية دولية للدفاع عن المدنيين المعرضين لخطر الإبادة. وشعرت الدول أنه من الضروري التدخل في تلك الصراعات وهو ما أقدمت عليه فعلا دول الناتو عندما تدخلت في كوسوفو في 1999 استنادا لمبادء الانسانية الدولية. فظهر مصطلح جديد هو «مسؤولية الحماية» responsibility to protect . فقد أدرك كوفي عنان الامين العام السابق للأمم المتحدة، عام 2000، ضرورة اعادة النظر في تعريف مفهوم السيادة التقليدي، وقال إن على الدول أن تفهم أنها أدوات لخدمة شعوبها. وبناء عليه، طُرح مفهوم جديد للسيادة الوطنية، وهو أن السيادة ليست فقط حقا للدولة بل مسؤولية. فالدولة ذات السيادة عليها مسؤولية حماية شعبها، وفي حال عجزت أو لم تكن قادرة على ذلك، على المجتمع الدولي أن يأخذ المبادرة ويتدخل عسكريا كتدبير استثنائي لمواجهة اوضاع استثنائية، وتبريره أن هناك ضرراً خطيراً لا يمكن اصلاحه يحدث لبشر أو قد يحدث على الأرجح، على أن تكون النية من وراء التدخل صحيحة، وهي العمل على وقف أو منع المعاناة الانسانية.
إن آلية «مسؤولية الحماية» تسعى لجعل حماية المدنيين في أوقات النزاعات المسلحة بمثابة إلتزام قانوني على الدول منفردة، ثم على المنظمات الاقليمية والدولية . وبرر واضعو المبدأ ومؤيدوه أن مسؤولية الحماية هو التعبير الانسب لمواءمة مبدأي السيادة وعدم التدخل في شؤون الدول مع واجب التدخل لرفع الانتهاكات ضد الإنسانية. وتوفر آلية «مسؤولية الحماية» الحق لكل الدول باستخدام التدابير والآليات القائمة بالفعل، مثل الوساطة والانذار المبكر والعقوبات الاقتصادية واستخدام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بما فيها استخدام القوة لوقف اعمال القتل وجرائم الحرب. وبحسب المبدأ، فإن العمل العسكري لا يعني أنه آخر الاجراءات، ولكنه يعني أنه يتم اللجوء إليه إذا كانت هناك أسباب معقولة تدعو إلى الاعتقاد بأنه وحده الذي يحقق الهدف من التدخل، أي حماية المدنيين. خلاصة القول، إن مبدأ مسؤولية الحماية يستدعي التدخل الدولي لحماية المدنيين من الابادة الجماعية والتطهير العرقي، ويجب أن يحدث فقط عندما تفشل الدولة ذات السيادة في الاضطلاع بمسؤولية الحماية.
عام 2005 عُقدت القمة العالمية في مقر الأمم المتحدة في نيويوك لمعالجة عدد من القضايا العالمية الملحة، وكانت «مسؤولية الحماية» من بين الالتزامات الرئيسية التي أُدرجَت في الوثيقة النهائية للقمة (ووقع عليها بالاجماع 170 رئيس دولة وحكومة)، الفقرتان 138 و139 اللتان أعطتا الصيغة النهائية لمبدأ مسؤولية الحماية وحددتا نطاقه بالقول: «نحن مستعدون لاتخاذ اجراءات جماعية في الوقت المناسب وبطريقة حاسمة من خلال مجلس الأمن إذا كانت الوسائل السلمية غير كافية، وفشلت السلطات بشكل واضح في حماية سكانها من الابادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الانسانية».
بناء عليه، على الدول مسؤولية الحماية في حال وقعت احدى الجرائم المذكورة في النص. إلا أن الجدل الذي أثير حول التدخل الانساني لا يزال دائرا حول مسؤولية الحماية الذي تبين أيضا أنه يخضع للانتقائية ورهن نوايا الدول المتدخلة أو التي تمتنع عن التدخل. إن ربط استخدام القوة العسكرية لوقف أو منع أو محاولة منع جرائم الابادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب وضد الانسانية بموافقة مجلس الأمن، يعيق فعليا أي عمل جدي عسكري لحماية المدنيين، لأن قرار التدخل العسكري سيجابه بحق النقض من أي دولة من الدول الخمس الكبرى اذا تعارض مع مصالحها.

التدخل اليمني لمنع الإبادة الجماعية
تخضع غزة، عملياً، لحماية المجتمع الدولي. فهي أولا ارض محتلة بحسب قرارات الامم المتحدة، والحكومة التي يفترض أن تحمي سكانها من القتل المتعمد هي سلطة الاحتلال التي ترتكب هذه الفظائع رغم أنها ملزمة بتوفير الحماية للمدنيين الخاضعين لسيطرتها.
ثانياً هناك التزام دولي بموجب اتفاقية منع الابادة على جميع الدول، ويعزز هذا الالتزام قرار التدابير المؤقتة الصادر عن محكمة العدل الدولية في 26 كانون الثاني. لذا، يتحمّل المجتمع الدولي مسؤولية مضاعفة تجاه الفلسطينيين. لكن غزة كشفت هشاشة «مبدأ مسؤولية الحماية» عندما تعلق الأمر بمواجهة «اسرائيل»، وأثبتت صحة منتقدي هذا المبدأ - الذي لا يختلف أبدا عن مبدأ التدخل الانساني - بأنه خاضع للانتقائية ومصالح الدول الكبرى. فرغم تأكيد مجلس الأمن الدولي إلتزامه بمبدأ مسؤولية الحماية عام 2006 بقراره رقم 1674 وتبع ذلك صدور أكثر من 80 قراراً يؤكد فيها استناده إلى المبدأ، لكنه غض النظر عن حماية المدنيين في غزة ! لماذا؟ لأن وقف الابادة يتطلب عمليا الانحياز إلى طرف وهو الضحية .
غزة كشفت هشاشة مبدأ مسؤولية الحماية عندما تعلق الأمر بمواجهة «اسرائيل»


إن منع أعمال الابادة وجرائم الحرب وتوفير الحماية للمدنيين ليست من الاعمال المحايدة. فمسؤولية الحماية هي اتخاذ موقف حاسم تجاه من يرتكب تلك الجرائم بمنعه من الاستمرار في ارتكاب جرائمه. وما يقوم به اليمن تجاه غزة هو تطبيق صحيح لمبدأ مسؤولية الحماية الذي يتطلب موقفا حاسما وصريحا من مرتكب جريمة الابادة وجرائم الحرب. وهو بصفته أيضاً طرفاً في اتفاقية منع الابادة والمعاقبة عليها منذ 6 نيسان - ابريل 1989، يطبق المادة الأولى من الاتفاقية التي تطالب الدول المصدقة عليها أن تلتزم بمنع الابادة والمعاقبة عليها. واليمن ملتزم باتخاذ الاجراءات والتدابير اللازمة التي تدخل ضمن صلاحياته بما يضمن فعليا تجنب اعمال الابادة ووقفها، وهو بذلك يطبق القانون الدولي ولا يخالفه.
عام 2000، عندما كتب كوفي عنان عن دور الامم المتحدة في القرن الحادي والعشرين ، في التقرير المعنون «نحن الشعوب»، طرح السؤال التالي: «إذا كان التدخل الإنساني اعتداء غير مقبول على السيادة فكيف ينبغي أن نرد على الانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الانسان التي تسيء إلى كل مبدأ من مبادئ انساينتنا المشتركة؟».
كيف ينبغي أن نرد ؟ اليمن أجاب عن هذا السؤال.