في الواقع، أسهمت السياسة النقدية، التي اتبعتها المصارف المركزية الغربية كأحد الإجراءات لمواجهة تداعيات جائحة كورونا، في تضخّم الأسواق المالية، ومنها الذهب. فالمصارف المركزية، على رأسها الاحتياطي الفدرالي، لجأت إلى طباعة الأموال وضخّها في الأسواق وخفض معدلات الفائدة إلى حدود الصفر، من أجل تحفيز الطلب في الأسواق. كان هاجس هؤلاء القلق من الركود الاقتصادي الناتج من إقفالات كورونا وأثرها على الإنتاج والعمل والاستهلاك. استثمرت الأموال في الأسواق المالية بشكل أساسي، ومنها في سوق الذهب الذي يعدّ ملاذاً لحفظ القيمة وجزءاً من توزيع مخاطر الاستثمارات. هذا الضخّ الكبير للنقد، زاد الطلب على الذهب ورفع سعره.
بعد بداية الحرب التي شنّتها إسرائيل على غزّة ارتفع سعر الأونصة إلى 2140 دولاراً
وعندما بدأ الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بإجراء معاكس في مطلع 2022، أي سحب السيولة من خلال رفع أسعار الفائدة، بدأت أسعار الذهب تنخفض. كان الهاجس أن الكتلة الهائلة من النقد الذي ضخّته المصارف المركزية، ستتحوّل إلى كتلة حارقة من التضخم الذي سينقلب إلى الركود. وفي ذلك الوقت، أصبح الاستثمار في سندات الخزينة الأميركية يُعطي عائدات كبيرة بالنسبة إلى استثمار خالٍ من المخاطر (تُعدّ السندات الأميركية خالية من المخاطر)، لذا حوّل المستثمرون جزءاً كبيراً من أموالهم من الأسواق المالية إلى سندات الخزينة.
استمرّ هذا الوضع لأشهر. ويحاول مصرف JP Morgan في تقرير نشره الشهر الماضي تفسير أسباب ارتفاع أسعار الذهب، بالإشارة إلى أن الطلب من المصارف المركزية على الذهب، كان أهم العوامل التي دفعته إلى الارتفاع. اشترت المصارف المركزية، بقيادة الصين، أكثر من 800 طن صافٍ من الذهب في الفصول الثلاثة الأولى من 2023. ويُقدّر JP Morgan أن مشتريات المصارف المركزية العالمية من الذهب بلغت في 2023 نحو 950 طناً، مع بقاء الصين في طليعة المشترين. يأتي هذا الأمر في إطار محاولة تخلّي بعض الدول عن الدولار في التجارة الدولية، ولا سيما أن دول مجموعة «بريكس» تحاول خلق عملة خاصّة بالمجموعة مدعومة بالذهب.
يضاف إلى ذلك تزايد المخاوف من الركود الاقتصادي في العالم بعد رفع أسعار الفائدة الأميركية، وهذا ما دفع المستثمرين إلى الادخار في الذهب. وتأكّد هذا المسار في الأشهر الأخيرة، بعد بداية الحرب التي شنّتها إسرائيل على غزّة، إذ ارتفع سعر الأونصة من 1800 دولار، إلى 2140 دولاراً يوم أمس. وتتعزّز المعطيات بشأن المزيد من الارتفاع ربطاً بمخاوف من اندلاع حرب في المنطقة التي تُعدّ محورية في الاقتصاد العالمي لأنها تُصدّر الجزء الأكبر من استهلاك النفط العالمي.